نشرنا مقالةً يوم 17 مارس الماضي حول الأضرار الجسيمة التي ألحقتها الحرب بحياة الناس وسُبل معيشتهم، إذ حددنا حينها 12 اضطرابًا على المديين القصير والمتوسط كان لها القدرة الأكبر على إعادة رسم ملامح القطاعات والاقتصادات العالمية، ونشهد حاليًا زيادة كبيرة في الزخم الذي تكتسبه هذه الاضطرابات. ونضع في هذه المقالة 12 فصلًا لتوضيح القوة والتوجه المحتملين لهذه التغيرات وتأثيراتها على حياة الناس وسبل عيشهم. وتعتمد بعض هذه الفصول على سيناريوهات الاقتصاد الكلّي التي وضحناها في المقالة الأولى، التي تشكل مرجعًا حول مجموعة النتائج المحتملة. ونرى اليوم نطاقين رئيسيين هما نطاق الاضطراب وكذلك مُدته الزمنية وتأثير استجابة السياسات الحكومية والمستهلكين وقطاع الأعمال. انظر الشريط الجانبي "المزيد من المعلومات حول السيناريوهات"
الغزو الروسي لأوكرانيا يثير أزمةً إنسانيةً كبيرة
أسفرت الحرب عن نزوح أكبر عدٍد من اللاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث شهدنا فرار 5.6 لاجئ خارج أوكرانيا، في حين هاجر 7.7 مليون آخرين منازلهم بحثًا عن الأمان في مناطق أخرى ضمن الدولة، مما يعني أن الحرب أدت إلى نزوح 30% من الشعب الأوكراني. وتُعد الحرب الأوكرانية ثاني أكبر أزمة إنسانية منذ ستينيات القرن الماضي من حيث عدد النازحين واللاجئين، والخامسة من حيث النسبة التي يشكلها عدد النازحين من عدد السكان. وربما يزداد الوضع سوءًا حسب تقديرات الأمم المتحدة التي تتوقع أن يصبح نزوح 8.3 مليون مواطن أوكراني بحلول نهاية العام الجاري.
وتعمل الدول المجاورة وغيرها على تقديم المساعدات لأوكرانيا، حيث استقبلت بولندا على سبيل المثال، التي تُعد تجمّعًا كبيرًا للوافدين الأوكرانيين، معظم اللاجئين الذين بلغ عددهم 3 ملايين لاجئ تقريبًا، أي ما يعادل 8% من تعداد السكان خلال فترة شهرين وأكثر بنحو 45 مرة من التدفق السنوي الطبيعي للمهاجرين. كما استقبلت سلوفاكيا أكبر عدد من اللاجئين من حيث الحجم والتدفق مقارنةً بالمتوسط التاريخي السنوي للمهاجرين، بمعدل يفوق التدفق السنوي بنحو 101 مرة.
وتختلف قدرة كل دولة وأخرى على تأمين الطعام والمأوى والرعاية للاجئين، لذا من الضروري إقامة برنامج دولي منظم وسريع للإغاثة الإنسانية مثل خطة الاستجابة الإقليمية للاجئين التابعة للأمم المتحدة. وعلى المدى الطويل، يتوقف تحقيق فوائد الهجرة على كيفية دمج اللاجئين الجدد في سوق العمل والمجتمع الذين وفدوا إليه.

الضعفاء أكثر من يعانون
أدت الحرب إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية، مما جعل تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات عرضةً للخطر(وهي قاعدة هرمية وضعها العالم أبراهام ماسلو يوضح فيها تدرج احتياجات الانسان)، والذي يشمل الغذاء والدفء والملجأ. وتكتسب تأثيرات الحرب طابعًا عالميًا تتركز شدتها على الأشخاص الأكثر فقرًا الذين يعانون لتغطية تكاليف معيشتهم وأساسياتها.
وتؤدي ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، إلى جانب الإيجارات التي تشهد ارتفاعًا متزايدًا، إلى إجبار الفقراء إلى تقديم تنازلاتٍ قاسية للغاية، لا سيما وأن الغزو الروسي أدى إلى رفع تكاليف المعيشة وأسعار الغاز والنفط التي قادت بدورها إلى زيادة فواتير التدفئة. كما نشهد اليوم ارتفاع أجور النقل والمواصلات نظرًا لارتفاع سعر الوقود، وفي حال ارتفعت أسعار الطاقة أكثر (السيناريو 3C) فستقوم العائلات بتقليص ميزانيتها بشكٍل أكبر والاستغناء عن المشتريات الأخرى. (انظر الشريط الجانبي "للمزيد من المعلومات حول السيناريوهات")
ونشهد اليوم امتداد الضغوطات إلى خارج أوروبا، حيث تشير تحليلات السيناريوهات إلى احتمال ارتفاع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الأغذية التابع للأمم المتحدة بنحو 45% في العام الحالي (السيناريو الثالث). وأدت حالات ارتفاع الأسعار على مر التاريخ بهذا الحجم عن إفقار ملايين الناس في الدول ذات الدخل المنخفض أو المتوسط. وكانت هذه الدول عرضةً لمختلف تداعيات الحرب، بما يشمل تباطؤ التجارة العالمية وهبوط العملة وتحديات تحمل أعباء الديون.

سياسة الطاقة تستهدف ضمان إمكانية الوصول إلى الطاقة وتنويع مصادرها
اعتمدت أوروبا بشكٍل رئيسي على موارد الطاقة الروسية على مدار عدة عقود، والتي تشمل الفحم والنفط الخام وزيت الوقود والغاز الطبيعي على وجه التحديد. ووصل استيراد القارة الأوروبية من الغاز الروسي إلى 36% في عام 2021، بالإضافة إلى 30% من الفحم و10% من النفط الخام. كما تعتمد كٌل من ألمانيا وإيطاليا على واردات الطاقة الروسية، حيث تستورد ألمانيا على سبيل المثال 65% من غازها من روسيا، في حين تستورد إيطاليا 43% منه.
وتستخدم أوروبا الغاز لتدفئة المنازل والمباني وتشغيل القطاعات وتوليد الكهرباء. ولو افترضنا أن أوروبا تستطيع في المدى القصير تقليل اعتمادها على واردات الطاقة الروسية (مثل خفض التدفئة في المباني والإنارة في المدن وتقليل استهلاك الغاز في توليد الكهرباء)، فلن يتحقق ذلك إلا بحلول نهاية العام الجاري أو مطلع العام المقبل. ولا تدّخر أوروبا جهدًا لزيادة واردات الغاز من الدول الأخرى غير روسيا، من خلال استيراد كميات أكبر من الغاز الطبيعي المسال وتوليد مزيدٍ من الوقود الحيوي وغيرها من التدابير الأخرى.
ويساهم خفض الطلب وزيادة العرض في تقليل حاجة أوروبا من الغاز الروسي خلال العام القادم إلى 10% بعد أن كانت 36%، ولكن ذلك يعني مواصلة استيراد ما يتراوح بين 30 و40 مليار متر مكعب من روسيا سنويًا. وتعتمد نتائج هذا التوجه على تطبيق العوامل المذكورة، مثل حجم الغاز الطبيعي المسال المستورد، ومدى تحمّل العائلات والموظفين لخفض مستويات التدفئة. وفي حال عمدت الحكومات إلى ترشيد الطاقة، فقد يشهد القطاع الصناعي بدء عمليات ترشيد الغاز قبل القطاعات الأخرى حسب التصريحات الأخيرة للقادة الحكوميين.
وتم تصعيد العقوبات مؤخرًا في بولندا وبلغاريا، حيث تؤكد الدولتان قدرتهما على تحقيق الشروط الجديدة التي فرضتها روسيا. ويشكل ذلك مثالًا مهمًا يوضح أهمية الموارد البديلة والقدرة على خفض الطلب.

الأمن الغذائي من الأولويات الرئيسية
أدت الحرب الأوكرانية إلى تعطيل نظام إنتاج الغذاء على مستوى العالم، حيث تنتج كٌل من روسيا وأكرانيا ثلث صادرات العالم من الأمونيا والبوتاسيوم الضرورية لصناعة الأسمدة، فضلًا عن كونهما سلة خبز العالم بتصديرهما نحو 30% من القمح والشعير و65% من زيت بذور دوّار الشمس و15% من الذرة.
وارتفعت أسعار الأسمدة وعدد من السلع الغذائية بنسبة تتراوح بين 20 و50% بعد الغزو الروسي، إذ ارتفعت العقود الآجلة للقمح بنسبة 40% بين 1 فبراير و1 أبريل الماضي. وكما يظهر الشكل، تعتمد العديد من الدول بشكلٍ كبير على القمح باعتباره المكون الرئيسي للغذاء لديها، بما يشمل الواردات من روسيا وأوكرانيا. وتتركز هذه الدول في آسيا الوسطى والغربية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تعاني على سبيل المثال كٌل من سوريا واليمن من أزمة لاجئين مستمرة ومشاكل تتعلق بالأمن الغذائي، ولا شك أنهما ستتأثران بالحرب الأوكرانية نتيجة اعتمادهما الكبير على القمح وتعرضهما لارتفاع الأسعار وحالات النقص المحتملة. ولكنّ ذلك لا ينفي تأثر جميع الدول المستوردة إلا في حال وجود عقود طويلة الأمد وبأسعار ثابتة مع الموردين والتحوطات القوية. كذلك سيتأثر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة نظرًا لمساهمة روسيا وأوكرانيا بنحو 20% من إجمالي السلع الغذائية التي تم توفيرها في عام 2020.
وحسب آخر تقديرات الأمم المتحدة، يقع 30 إلى 40% من محصول خريف العام الحالي في أوكرانيا ضمن دائرة الخطر بسبب عدم قدرة المزارعين على زراعة أراضيهم، فضلًا عن نقص الأسمدة على مستوى العالم، والتي قد تسبب مشكلة في إنتاج المحاصيل المختلفة. وتعمل الحكومات حاليًا على دراسة مجموعة من الخيارات التي تشمل البرامج الساعية إلى توجيه مزيدٍ من التوريدات إلى الدول الأكثر تضررًا، بالإضافة إلى دعم الإنتاج الإقليمي وتقديم المساعدات للمستهلكين وضبط الأسعار.

ازدياد المنافسة على المواد الرئيسية والمعدات والسلع
شهد العالم طلبًا كبيرًا على جميع أنواع المواد الصناعية قبل شهر فبراير الماضي، ولا سيما السلع التي طالها ازدهاٌر ملحوظ ووصلت العديد منها إلى أعلى معدلاتها في عشر سنوات بالرغم من حالة التقلب الكبيرة في الأسعار.
واستمرت تلك الحال حتى اندلاع الحرب التي سرّعت ارتفاع أسعار العديد من السلع التي تصدّرها روسيا وأوكرانيا (مثل الفحم والفولاذ والنيكل)، حيث تتراوح حصص كلتا الدولتين من هذه الأسواق بين 10 إلى 50%، وتحتضن الدولتان أيضًا نسبة 48% من إجمالي تجارة البلاديوم.
وتُعد هذه المواد ضرورية للعديد من الصناعات. ونظرًا للتهديدات التي تشهدها السلع النادرة وارتفاع الأسعار الحالي، تشعر شركات تصنيع السيارات بالقلق وتسعى لرفع الأسعار الحالية بين 15 إلى 25% نتيجة ارتفاع أسعار المواد الأساسية مثل الألمنيوم والنحاس والفولاذ. ويصعب على شركات التصنيع استيعاب ارتفاع الأسعار الراهن، وهو ما ينطبق على مشتري السيارات.
ويبدو أن أسعار بعض هذه المواد استقرت مؤخرًا مع احتمال تغير هذا الواقع في أي لحظة، ولكن الاضطراب الحالي يُعتبر تعطلًا قصير الأمد بالنسبة لبعض المواد مثل خام الحديد، في حين أسفرت الحرب عن حالةٍ من فراغ العرض واحتمال ارتفاع الأسعار بالنسبة للمواد الأخرى مثل الفحم الصلب. ويسعى مشترو السيارات والبائعون إلى إيجاد نوٍع من التوازن العالمي في أسعار المواد الأخرى مثل المعادن المستخدمة لتصنيع السيارات، والذي يمكن التوصل إليه مع الوقت، حيث من المتوقع أن تستقر الأسعار عند مستويات أعلى.

عصٌر جديد لإدارة سلاسل التوريد
كان عامل المرونة على رأس أولويات قادة سلاسل التوريد حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكنّ تتالي المشاكل المتمثلة في الاضطرابات التجارية، والإغلاق العام بسبب أزمة كوفيد-19، وإغلاق قناة السويس بحيث أُجبر مدراء سلاسل التوريد على تحويل تركيزهم من نموذج التوصيل حسب الوقت المحدد إلى وضع الجاهزية للتوصيل حسب الطلب. وكشف الاستبيان الذي أجريناه في يونيو العام الماضي عن توجه 60% من المدراء إلى زيادة مخزوناتهم من المنتجات الضرورية، في حين عمدت نسبة أصغر منهم إلى اعتماد تأمين المواد الأولية من مصدرين مختلفين.
وتقدم الحرب الأوكرانية والعقوبات التي لحقتها مزيدًا من الأسباب التي تشجع قادة سلاسل التوريد على التركيز على إمكاناتهم الخاصة بتأمين الموارد. وحسب أحدث استبيانٍ نعتزم نشره حول قادة سلاسل التوريد ضمن سلسلة من الاستبيانات التي أجريناها، أشار 80% من المشاركين إلى تطبيق نموذج تأمين الموارد من مصدرين مختلفين نهاية شهر مارس الماضي، مقارنةً بنسبة 55% في الأشهر القليلة الماضية. ومن المتوقع أن تزداد أهمية تأمين الموارد من مصدرين في ظل الحرب الجارية، حيث تشكل الصادرات الروسية نسبة 2% من حجم التجارة العالمية السنوية البالغة قيمتها 19 تريليون دولار أمريكي، مع العلم بوجود نسب أكبر من السلع الأساسية مثل المعادن؛ ومصادر الطاقة؛ والدهون؛ والزيوت؛ والحبوب الكاملة؛ والمنتجات الخشبية وغيرها. وقد يصعب على القطاعات إيجاد مصادر جديدة لتأمين المواد الأولية، لا سيما مع انشغال الموردين في الوقت الحالي.
وتشهد سلاسل التوريد عمليات إعادة هيكلة تندرج في إطار رحلتها الطويلة نحو تحقيق المرونة، إذ يمكن أن يزول بعض الضغط عن سلاسل التوريد بمجرد تحول الإنفاق من البضائع إلى الخدمات. ومع تزايد التوتر الراهن، تشهد طاولات الحوار عودة حضور موضوع الأنشطة التجارية البرية والقريبة من نطاق السواحل (وخصوصًا في قطاعي التكنولوجيا المتقدمة والبناء)، تزامنًا مع ظهور فكرة جديدة تتعلق بالعلاقات التجارية بين الحلفاء (والتي وصفتها "جانيت يلين" بأنها التزامٌ بالتعاون مع الدول التي تتقيد بمجموعة من الضوابط والقيم فيما يخص أساليب العمل في الاقتصاد العالمي). وتساهم الحرب الأوكرانية في تسريع هذا التوجه، إذ تفوقت كندا والمكسيك على الصين العام الماضي وأصبحتا الشريكين الأضخم للولايات المتحدة.

انفصال معايير التكنولوجيا العالمية
الحقيقة أن شبكة الإنترنت العالمية لا وجود لها إذ أن العديد من الدول تشارك في نظام معلومات واسع النطاق، إلا أن الكثير منها تحجب مجموعة كبيرة من خدمات المحتوى للتحكم في أنشطة السكان الإلكترونية وظهور المعلومات لديهم. كما تقوم بالترويج للمعايير التكنولوجية الخاصة بها، وهو ما شهدناه في الصراعات الأخيرة على معايير الأجهزة والمقترحات التي قدموها لتغيير بروتوكولات الإنترنت. ولا تُعد هذه المشاحنات جديدةً في عالمنا الحديث، بل انعكست في مخاوف أخرى تتعلق بالتكنولوجيا وخصوصًا الاتصالات.
وقد يكون الغزو الروسي لأوكرانيا سببًا في تفاقم هذه الانقسامات، حيث تعكس القيود الجديدة التي فرضتها دول الغرب على الأموال وبعض التقنيات، وابتعاد العديد من الشركات الغربية الرائدة عن روسيا بشكٍل كبير، إقصاء روسيا عن قسم كبير من سلسلة القيمة العالمية الخاصة بالتكنولوجيا المتقدمة. كما شهدنا خروج 80% من شركات التكنولوجيا الغربية من روسيا أو قيامها بتقليص حجم أنشطتها، في حين تحافظ أكثر من 60% من شركات التكنولوجيا الضخمة، التي تنتمي لمناطق أخرى من العالم، على وضعها ومسار أعمالها.
وعمومًا، يسهم وضع مجموعة منقسمة من معايير التكنولوجيا والسياسات في زيادة أسعار الخدمات المقدمة للمستهلكين وخفض إنتاجية النمو على مستوى العالم.

تأثيرات غير متوقعة على النظام المالي
تشكل الحرب تأثيرًا مباشرًا محدودًا على النظام المالي نتيجة صمود الأسواق أمام الصدمة الأولى وتعرضها لخسائر ضئيلة. وقد تكون البنوك الأوروبية من بين الأكثر عرضةً لتأثيرات الحرب مع وجود 75 مليار دولار أمريكي من الأصول في معرض الخطر داخل روسيا، أي ما يعادل بين 6 و7% من قيمتها في السوق قبل الغزو الروسي لأوكرانيا. ولكنّ المؤسسات المالية على مستوى العالم تحظى برأس مال قوي وأسس متينة تمكّنها من استيعاب الخسائر.
ومن جهة أخرى، يمكن أن تتجلى أمامنا مخاطر جديدة نتيجة التأثيرات المضاعفة الأوسع نطاقًا، إذ تؤدي الحرب إلى تفاقم المخاطر على النظام المالي، والتي ظهرت للمرة الأولى في عام 2021، مثل الركود الناجم عن التضخم؛ وازدياد اقتراض دول الأسواق الناشئة والتي تكون غالبًا مقوّمة بالدولار الأمريكي؛ وتقلّص فقاعة قطاع العقارات في الصين؛ وجمود نظام المدفوعات؛ وارتفاع خطر تخلف قطاع الظل المصرفي عن سداد الائتمانات. وتشكل جميع هذه العوامل تهديدات لأسعار الأصول والبنوك والجهات المعنية الأخرى في النظام المالي.
ويتصدر قائمة هذه المخاطر الركود الناجم عن التضخم، والذي قد يكون أخطرها أيضًا، إذ دقّت أسواق الخزينة الأمريكية ناقوس الخطر بتصريحها عن بداية الركود بين 12 و18 شهرًا بمجرد هبوط منحنى عائد الخزانة، متبوعًا بالخسائر في الائتمانات. ولا شك أن ذلك يشكل خطرًا على البنوك التي بدأت العديد منها بتخزين الاحتياطي لمواجهة هذه الحالة، ولكنّ الجانب المشرق يتمحور حول احتمال توسع هوامش الإقراض وتحسن صافي إيرادات الفائدة مع ارتفاع معدلات عائد الخزينة. ويجدر التركيز على مسألة عدم استفادة جميع البنوك بالتساوي، حيث لن تحصل البنوك التي تكثر فيها عمليات البطاقات الائتمانية على أرباح كبيرة من ارتفاع المعدلات، إلا أنها قد تستفيد من ارتفاع أحجام المعاملات فقط.
كما تُعد هذه النقاط إيجابيةً بالنسبة للمستهلكين والقطاع عمومًا بفضل قدرة البنوك على وضع ميزانيات قوية تحظى بإدارة جيدة وتتيح لها مواصلة عمليات الإقراض عند اشتداد الظروف. وانطلاقًا من سعيها لاستباق الاحتياجات المتغيرة للمستهلكين، تعمل البنوك الرائدة على دراسة سبل دعم عملاء قطاع التجزئة والتجارة خلال الأعوام القليلة القادمة.

ازدياد الإنفاق على الأنظمة الدفاعية
أعلنت 15 دولة من دول الناتو إلى جانب السويد زيادة الإنفاق على الأنظمة الدفاعية عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، بينما تعتزم الدنمارك وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والسويد تخطي الهدف المحدد في قمة الناتو عام 2014 في ويلز بتخصيص 2% من الناتج القومي لشؤون الدفاع.
وتشير تحليلات ماكنزي إلى تخصيص زيادة الإنفاق في العديد من الدول لشراء المعدات بعد تقليص أنشطة الكثير من برامج الأسلحة والتراجع عنها حاليًا. وبناءً على ذلك، ستكون الدول أمام خيارين، إما الاستثمار الفوري أو طويل الأمد، وفي حال اختاروا الإنفاق الفوري للمال فسيكون من أجل شراء المعدات الجاهزة من موردي الوسائط الدفاعية الموجودين، مما يضع الشركات أمام مجموعة من التحديات تحتم عليها مواجهة اضطرابات سلسلة التوريد، التي قد يسوء وضعها نتيجة التوسع المتسارع للأعمال والنقص المحتمل في المواد مثل التيتانيوم ومعادن المجموعة البلاتينية وغيرها.
أما إذا اختارت الدول الاستثمار طويل الأمد، فهذا يعني الاستثمار في مشاريع البحث والتطوير حسب الاقتضاء والمضي قدمًا نحو بناء قطاع الدفاع المحلي وتعزيز إمكاناته.

الفضاء الرقمي أحد ساحات النزاع
تؤدي الهجمات السيبرانية إلى تعطيل عمل المجتمعات على مستوى العالم من خلال استهداف البنية التحتية الضرورية لها، حيث يسجل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية عشر هجمات خطيرة شهريًا بشكلٍ متوسط. وتعطلت خدمة الإنترنت لدى "شركة فياسات الأمريكية" لعدة ساعات في مختلف أنحاء أوروبا يوم 24 فبراير الماضي، أي يوم الغزو الروسي، مما أدى إلى آثار سلبية طالت 30 ألف عميل وخصوصًا اتصالات الجيش الأوكراني. ومنذئذٍ، تعطلت أنظمة الطاقة وشبكات الاتصال الأوكرانية لعدة ساعات وتم اختراق المؤسسات الحكومية الأخرى، واستهدف المهاجمون أيضًا المواقع الإلكترونية العامة التابعة للعديد من الوزارات الروسية.
وقد يكون لبعض الهجمات تداعيات أخرى تتخطى أهدافها الأصلية، مثل نشر البرامج الخبيثة. ويكشف لنا مسار الحرب الحالي توقعات باستمرار التهديدات السيبرانية وسط حالةٍ من الحذر لدى الشركات والحكومات من تعرضها للهجمات السيبرانية ولا سيما هجمات برامج الفدية والحملات المضللة.

الجهات الفاعلة من الشركات تتخذ موقفها الخاص
منذ بداية الحرب، عمدت 70% من أصل 281 شركة مدرجة على قائمة فورتشن 500 كانت تزاول أعمالها في روسيا قبل الحرب، إلى تقليص أنشطتها أو إيقاف عملياتها في الدولة. وشهدنا مغادرة 85% من الشركات التي تقع مقراتها في أوروبا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة أو قيامها بتقليص أنشطتها، مقارنةً مع 40% من الشركات التي تقع مقراتها في المناطق الأخرى، علمًا أن خروجها ليس محصورًا بقطاعٍ واحد فقط.
وجاء رد الشركات سريعًا جعلها تعلن عن قراراتها خلال أيام الغزو والجولة الأولى من العقوبات، حيث نشهد اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى تحول القرارات الإدارية الرئيسية من كفّة المستثمرين إلى كفّة مجموعةٍ واسعةٍ من الجهات المعنية التي تشمل الموظفين والعملاء.

التقلّب يسيطر على الأسواق
أدت الحرب الأوكرانية إلى تفاقم التقلب في الأسواق، حيث ارتفع مؤشر التقلب الأمريكي ومؤشر عدم اليقين في السياسة الاقتصادية ولكن ليس بالنسبة ذاتها المسجلة في مارس 2020، أي مع بداية أزمة كوفيد-19. ويأتي هذا الارتفاع انسجامًا مع نتائج البحث الذي أجريناه في السابق، والذي أظهر انخفاض التقلب الاقتصادي بشكلٍ مفاجئ خلال الحرب وفترات الصراع، وقد يعود السبب إلى دور زيادة الإنفاق الحكومي في تسهيل توقع جزء من أرباح الشركات. ومن الممكن أن تتكشف أوجه مختلفة لهذه الحرب مع مرور الوقت نتيجة تأثيراتها على قطاع الطاقة، حيث يؤدي التقلب في موارد الطاقة وأسعارها إلى آثار سلبية للغاية على الاقتصاد العالمي.
وحسب استبيان ماكنزي العالمي حول آراء المسؤولين التنفيذيين، أدت الحرب إلى حالة من التقلبات في المخاطر التي يشهدها قادة الأعمال في النمو الاقتصادي. وكشف استطلاع الرأي الذي أجريناه في مارس الماضي أن المخاطر الجيوسياسية احتلت المرتبة الأولى بوصفها التهديد الأكبر على النمو، متفوقةً على أزمة كوفيد-19 ومسألة التضخم.
وكانت ردة فعل الأسواق تجاه الحرب مختلفةً عن ردة فعلها عند انتشار فيروس كورونا، مما يعكس ضرورة وجود إمكانات خاصة بالمرونة لمواجهة هذه الأزمة. ويتوجب على الشركات التفكير في مختلف أبعاد هذه المخاطر الجيوسياسية وآثارها المحتملة على العمليات المالية والمؤسسات والتكنولوجيا وسمعة الشركات ونماذج الأعمال، فضلٍا عن تعزيز المرونة في كلٍ من مفاصل هذه الجوانب.

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
وتؤدي الاضطرابات الراهنة إلى تعطيل حياة المجتمعات وسبل عيشهم بصورةٍ كبيرة، ويتعين على الشركات أن تأخذها بعين الاعتبار في التخطيط لجميع السيناريوهات المحتملة، فكلما استمرت الحرب ازدادت معها قوة الاضطرابات وتداعياتها وتأثيراتها على الناس.