الحرب في أوكرانيا تسلب الناس حياتهم وسُبل معيشتهم

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

قد أسفر الغزو الروسي لأوكرانيا عن أفظع أزمة إنسانية شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، إذ تسبب بمقتل الآلاف وقطع سُبل الملايين من الناس الذين عانوا من التهجير وخسروا منازلهم وأرزاقهم (الشكل 1). وصُدمنا جميعًا بهذه المأساة الإنسانية التي تتوالى فصولها وتداعياتها جرّاء الحرب الدموية.

وتؤدي النزاعات دائمًا إلى تفاقم حالة انعدام اليقين، إذ لم يتضح حتى الآن دور الجانب العسكري أو العملية السياسية أو التدابير التي اتخذتها الدول الأخرى لوقف هذا الوضع سواء على المدى القصير أو الطويل. ولكن من المؤكد أن هذا الاضطراب سيلقي بظلاله على الدول في مختلف أنحاء أوروبا والعالم نتيجة التداعيات الاقتصادية للأزمة على مستوى سوقي الطاقة والغذاء.

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

ونضع في هذه المقالة صورةً أوليةً للتحديات الراهنة وحالات انعدام اليقين ذات الصلة. ونستهل حديثنا بالتطرق إلى الاضطرابات على نطاقين المدى القصير والمتوسط، لنضع ثانيًا سيناريوهات التأثير المحتمل على سُبل العيش في دول الاتحاد الأوروبي، إذ نعتقد أن توفير بعض الإرشادات للحد من حالة انعدام اليقين سيساعد على التعامل معها بعض الشيء، وسنقوم بتعديل هذه الإرشادات مع تغير الظروف. كما سنختتم مقالتنا بالوقوف على التداعيات التي قد تصيب قادة الأعمال خلال محاولتهم الخروج من أزمةٍ جديدة.

تحليل الاضطرابات على نطاقين المدى القصير والمتوسط

نشهد اليوم بعض الاضطرابات المحورية التي ستعيد رسم ملامح المستقبل بعد انتهاء الأزمة الراهنة، في ظل توجه قادة الأعمال نحو التعامل مع التأثيرات قصيرة المدى للنزاع الدائر. وتتجلى أمامنا حاليًا العديد من المجالات رغم إدراكنا لظهور مزيدٍ من التحديات مع مرور الزمن:

الغزو الروسي لأوكرانيا يثير أزمةً إنسانيةً كبيرة. نرى اليوم أكثر من ثلاثة ملايين شخص يطلبون اللجوء إلى الدول المجاورة، بالإضافة إلى نزوح العدد نفسه داخل أوكرانيا، فضلًا عن المعاناة المستمرة للشعب الأوكراني والآلام التي يقاسيها. وتقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية صعبة تتمثل في تأمين المساعدات والمأوى واحتضان هؤلاء الأشخاص الذين يعانون من ويلات الحرب، كما هي الحال في النزاعات الكبرى وأزمات اللاجئين، التي تسببت بها النزاعات في دول أخرى مثل سوريا واليمن.

الضعفاء أكثر من يعانون. عادةً ما تكون المآسي من نصيب الضعفاء الذين يصبحون في غالب الأحيان لاجئين يعانون من ارتفاع تكاليف الغذاء والوقود. ولا يدّخر المجتمع الدولي جهدًا لتقديم المساعدات وتأمين الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والمأوى وضمان السلامة النفسية داخل منطقة النزاع وخارجها. وتجري حاليًا في كثيرٍ من الدول محادثات أولية حول كيفية تغطية ارتفاع تكاليف الطاقة، وقد تم جمع التمويل الأول لمعالجة هذا الأمر.

سياسة الطاقة تستهدف ضمان إمكانية الوصول إليها وتنويع مصادرها. بات العالم اليوم مدركًا لأهمية دور النفط والغاز الطبيعي الروسي في الوصول إلى الطاقة. ورغم العمل على تسريع اعتماد مصادر الطاقة البديلة في حل المشكلة بشكل جزئي، إلا أن الغاز ما يزال مصدرًا مهمًا للطاقة، كما يتزايد دور الطاقة النووية والفحم في مزيج الوقود لتأمين الموارد وتعويض النقص المحتمل في الغاز. ولم تتضح حتى الآن تأثيرات هذا النزاع على الإيفاء بالتزامات الحياد المناخي المعلن عنها.

الأمن الغذائي من الأولويات الرئيسية. يساهم تركز محاصيل القمح والأسمدة والمنتجات ذات الصلة في كلٍ من روسيا وأوكرانيا في إعاقة توريدات الغذاء عالميًا، إذ تصبح مسألة تأمين التوريدات الغذائية للدول المعتمدة على صادرات هاتين الدولتين قضيةً مهمةً تستوجب الوقوف عندها على المدى القريب.

ازدياد تزاحم الأولويات حول المواد الرئيسية والمعدات والسلع. يُرجح أن يساهم احتياج العالم للموارد الطبيعية والمواد والمعدات المتطورة بشكلٍ كبير، مثل النيون، والنيكل، والبلاديوم، وأشباه الموصلات، في ازدياد التنافسية بين الدول والشركات لتأمينها.

عصرٌ جديدٌ لجهود ضبط سلسلة التوريد ومحاولات التوطين. نشهد اليوم انتهاء عصر عدم ضبط مختلف جوانب سلاسل التوريد والثقة بالموردين وتحسين التكاليف، إذ تُعد أنظمة التعريفات الجديدة وأزمة كوفيد-19 السبب الرئيسي لإعادة النظر في هذه الجوانب. وتسعى الحكومات والشركات لتعزيز مرونة سلسلة التوريد ووضع طرق مبتكرة لتمويل هذه التغيرات.

انفصال معايير التكنولوجيا العالمية. زادت الحكومات، بهدف تعزيز مصالحها الأمنية وتحقيق أهداف سياساتها الخارجية، من استخدام الأدوات "الجيواقتصادية" مثل فرض العقوبات، والدعم الحكومي المباشر للقطاعات الاستراتيجية، ووضع ضوابط صارمة على تصدير المعدات الحساسة، والبرمجيات، والتقنيات. ويساهم الاستخدام المتناسق لهذه الأدوات بين الدول ذات الفكر المشترك، استجابةً للغزو الروسي لأوكرانيا، في تسريع التوجه نحو فصل المعايير وتطوير التقنيات بشكل مستقل.

النظام المالي سيتأثر لا محالة. يمكن لحالة الاضطراب التي تشهدها التدفقات النقدية الخاضعة للعقوبات أن تهدد النظام المصرفي والأسواق المالية في العالم، ولا بد أن توقع تداعياتها أضرارًا كبيرةً بحاملي السندات، والمُقرضين، وشركات تأجير الطائرات، والجهات المعنية المختصة بالمشتقات والمستثمرين؛ ويضاف إلى ذلك خطر انتشار فيروس حاملاً تأثيرات من المستويين الثاني أو الثالث على مستوى العالم.

تكثيف الاستثمارات الدفاعية. قد تساهم العقوبات الاقتصادية التي تفرضها دول حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الأخرى في تعزيز التركيز على المرونة الدفاعية، إذ أعلنت فرنسا وألمانيا عن زيادة كبيرة في الإنفاق على الأنظمة الدفاعية لديها، كما أقرّ الكونغرس الأمريكي مطلع شهر مارس زيادة الميزانية المخصصة للوسائط الدفاعية في الولايات المتحدة بقيمة 42 مليار دولار أمريكي.

الفضاء الرقمي أحد ساحات النزاع. عانت الدول والشركات طيلة سنوات من مخاوف عديدة من تطور الهجمات السيبرانية المدعومة حكوميًا وتكرارها، وكان أبرزها انتقال المهاجمين من استخدام برامج الفدية والابتزاز نحو التدمير أو التخريب المباشر. وكان هذا الموضوع من النقاط الرئيسية التي تمحور حولها لقاء الرئيس الأمريكي "جو بايدن" مع نظيره الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في جنيف شهر يونيو العام الماضي. ومن المرجح أن تزداد هذه الهجمات بصورةٍ أكبر لتكون اختبارًا جديدًا لقوة أنظمة الأمن السيبراني.

الجهات الفاعلة من الشركات تتخذ موقفها الخاص. حفّزت هذه الحرب استجابةً عالميةً قوية لمواجهة الغزو الروسي، حيث عمدت الكثير من الشركات والهيئات غير الحكومية إلى تقييد أنشطتها أكثر مما تتطلبه شروط العقوبات بهدف النأي بنفسها عن روسيا وممارساتها الحالية.

التقلّب يسيطر على الأسواق. تندرج الحرب في أوكرانيا ضمن قائمة الاضطرابات الكثيرة التي شهدها القرن الحادي والعشرين على اختلاف نشأتها وتداعياتها المعقدة. ويسعى الكثير من قادة الأعمال للنأي بشركاتهم عن ردود الأفعال التي قد تسفر عنها حالات الاضطراب، وتعزيز مرونتها واستعدادها للأزمات المستقبلية وبناء قدراتها التي تمكنها من إدارة شؤونها خلال حالات انعدام اليقين.

وتشمل القائمة أبرز تأثيرات الاضطرابات خلال المراحل الأولى من الأزمة الأوكرانية، حيث تدور الكثير من الشكوك حول دور كلٍ منها على حدة، إلا أن العديد منها يتعلق بشكل رئيسي بالحياة وسبل العيش على مستوى العالم حسب المنطقة والقطاع، وإن كان بدرجات مختلفة.

سيناريوهات محتملة لتأثير الحرب على سُبل العيش

علمتنا النزاعات التي شهدها العالم أن سُبل العيش في المناطق المجاورة للنزاع أو حتى البعيدة عنه قد تكون في دائرة الخطر، إذ تنشأ المخاطر نتيجة عدم الاهتمام بأصحاب الوضع الاقتصادي المتردّي والتأثيرات الحتمية غير المباشرة في عالمنا المترابط.

ونعتمد على مجموعة من الخبرات لمحاولة رسم سيناريوهات أوضح حول مدى تأثير الحرب على سُبل العيش خارج منطقة النزاع، ويتكشّف أمامنا بُعدان بالغا الأهمية.

البُعد الأول هو نطاق الاضطراب ومدته. لا شك أن العوامل التي تحدد نطاق الاضطراب ومدته الزمنية تبدو معقدة وتشمل الجانبين العسكري والسياسي، مثل العقوبات. كما يساهم ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والنفط والسلع الزراعية والمواد المعدنية والمعادن بشكل رئيسي في تحديد تأثيرات الحرب على سُبل عيش السكان، إذ لا يجب أن يتسبب تعويض هذا الارتفاع بخسائر للناس. ونوضح فيما يلي ثلاثة مستويات للاضطرابات:

  • الاضطراب المحدود. يكون مستوى الاضطراب كبيرًا ولكن يتم احتواؤه من حيث النطاق والمدة الزمنية، مثل عقد مفاوضات سريعة لوقف إطلاق النار، مع عدم تصعيد العقوبات أو حتى التراجع عنها، وعودة اللاجئين إلى أوطانهم، واستقرار أسواق الطاقة والسلع، وعودة الأسعار إلى طبيعتها.
  • الاضطراب الموسّع. يشهد الاضطراب في هذا المستوى نموًا متواصلًا لبعض الوقت، مثل الأعمال القتالية الدائرة حاليًا، وتفاقم أزمة اللاجئين، وتصعيد العقوبات متعددة الأطراف، واستقرار أسواق الطاقة والسلع العالمية بعد التقلب مع ارتفاع الأسعار لبعض الوقت.
  • الاضطراب الشديد المتصاعد. بحيث تتفاقم حدة الاضطراب من حيث النطاق والمدة الزمنية، نتيجة الأعمال القتالية طويلة الأمد، فعلى سبيل المثال: تزداد سوء أزمة اللاجئين، ودخول أسواق الطاقة والغذاء والسلع في دوامة من ارتفاع الأسعار لفترة زمنية أطول، وتعطل سلاسل التوريد ولا سيما العلاقات التجارية بين روسيا وأوروبا في مجال الطاقة.

ورغم قدرتنا على تصور التصعيد العسكري خارج أوكرانيا، إلا أننا لا نضعه ضمن الاحتمالات الممكنة في الوقت الراهن.

البُعد الثاني هو تأثير استجابة السياسات الحكومية والمستهلكين وقطاع الأعمال. تلعب الإجراءات الحكومية دورًا محوريًا في تخفيف تأثير هذه الحرب على سُبل العيش، ويوجد برأينا أربعة عوامل أساسية تؤثر في هذا المجال: يتعلق أولها بالسياسات الاقتصادية الخاصة بأزمة كوفيد-19 والتي يجري تطبيقها بالتزامن مع خروج العالم من موجة متحور أوميكرون؛ والثاني يرتبط بالسياسات الجديدة التي قد يتم إطلاقها لتخفيف تأثير ارتفاع أسعار الطاقة؛ بينما يتمحور الثالث حول السياسات وإجراءات القطاع الخاص لتحقيق الحياد المناخي والنمو المستدام؛ في حين يجسد الرابع التغيرات في سلوك المستهلكين. ونوضح فيما يلي ثلاثة استجابات محتملة للسياسات في حال وقعت العناصر المذكورة معًا بشكل مفاجئ:

  • الاستجابة المقيدة: تعمد البنوك المركزية إلى تسريع القيود المالية للحد من التضخم، مما يزعزع ثقة المستهلكين الذين يميلون إلى ادخار أموالهم في البنوك بدلًا من إنفاقها، بالإضافة إلى وجود عوامل أخرى تساهم في الحد من النمو مثل: الاضطرابات التي يشهدها سوق العمل وتفاوت المهارات وارتفاع معدل البطالة وثبات الأجور، فضلًا عن التحديات العصيبة لجائحة كوفيد-19 التي تعرقل القدرة الإنتاجية للاقتصاد.
  • الاستجابة المتوسطة: يستمر العمل على تخفيف برامج التحفيز المالي الحالية، مع التركيز على السيطرة على التضخم، حيث توفر بعض البرامج الجديدة سُبل الدعم المتوسط وطويل الأمد بما يساهم في الحد من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، مثل الاستثمارات في الوقود الأحفوري أو التراجع عن بعض أهداف الحياد الكربوني، ويبقى المستهلكون حذرين، مع الإنفاق بمستويات متوسطة.
  • الاستجابة القوية: يتواصل التخفيف من إجراءات التحفيز المالي وتنجح في السيطرة على التضخم بالتزامن مع إطلاق الحكومات لبرامج مالية تحد من تأثير ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. ويساهم تراجع التضخم والدعم الإضافي في تعزيز ثقة المستهلكين وتشجيعهم على الإنفاق من مدخراتهم، كما تدعم الاستثمارات الضخمة في مجال الطاقة مرونة الدول لمواجهة التحديات في هذا المجال وتسريع التحول نحو مصادر الطاقة النظيفة.

ويوضح الشكل 2 تقاطع البعدين السابقين وما يرسمه من مجموعة من السيناريوهات المحتملة وتأثيراتها المختلفة على الحياة وسُبل العيش في العالم.

السياق الحالي

نرى بعض الحقائق الراسخة في جميع السيناريوهات، إذ لا بدّ أن أقسى التأثيرات تقع في أوكرانيا، تلك التي تشهد اضطرابات أدت إلى خسارة الكثير من الأرواح وانقطاع سُبل العيش، إلى جانب الدمار الكبير الذي لحق بالممتلكات والبنية التحتية، والذي يزداد سوءًا يومًا تلو الآخر. وتم فرض عقوبات قاسية على روسيا أسفرت عن تأثيرات قوية مثل انخفاض سعر الروبل الروسي بنحو النصف منذ بداية النزاع، وارتفاع الأسعار الاستهلاكية بسرعة كبيرة، وتوجه البنك المركزي الروسي نحو رفع أسعار الفائدة قصيرة الأمد لتصل إلى نسبة 20%، فضلًا عن إغلاق سوق الأسهم الروسية.

وبالنظر إلى خارج منطقة النزاع، جاء الغزو الروسي لأوكرانيا في وقتٍ عصيبٍ يشهده الاقتصاد وسُبل العيش على المستوى العالمي، ولا سيما بالنسبة للفئات الأكثر فقرًا. كما تشهد أجزاء كثيرة من العالم انحسار جائحة كوفيد-19، في حين ما زالت أزمةً قائمةً في العديد من الدول التي يواجه بعضها أوقاتًا عصيبة في محاولة التخفيف من التدخلات في مجال الصحة العامة، مما يقودنا لعدم استبعاد احتمالية ظهور متحور جديد أكثر فتكًا. ونلحظ أيضًا تفاقم أزمة التضخم في معظم أجزاء العالم، إذ وصل في بعضها إلى مستويات جديدة أدت إلى ارتفاع تكاليف العيش بشكلٍ كبير.

وتُعد الطاقة من المخاوف الرئيسية ومعيارًا أساسيًا في هذه السيناريوهات المحتملة، حيث قفزت أسعار الغاز الطبيعي الأوروبي بنسبة 60% بعد غزو روسيا لأوكرانيا، ووصل سعر برميل خام برنت إلى 120 دولار أمريكي تقريبًا، كما ارتفعت أسعار السلع الزراعية الرئيسية والمواد المعدنية والمعادن بين 10-15% في الأسبوع الأول من النزاع، وتضاعفت أسعار النيكل في الآونة مؤخرًا. وتنتج روسيا وأوكرانيا حوالي 30% من الدقيق في العالم، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السوق الفورية بنحو 40%. وتُعتبر الدولتان أكبر منتجي النيكل الممتاز والمستخدم في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، حيث تحتلان نسبة 23% من حصة إنتاج النيكل في العالم، بينما تُعدان ثاني أكبر منتجي البلاديوم المستخدم في صناعة المحولات التحفيزية بنسبة 38% من حصة إنتاج هذا المعدن على مستوى العالم.

وساهم ارتفاع أسعار السلع بزعزعة ثقة المستهلكين والشركات في جميع أنحاء العالم، فمهما كان السيناريو الذي سنشهده، ستحاول العائلات الحفاظ على مدخراتها التي قامت بتجميعها خلال الجائحة على المدى القريب على الأقل، حتى مع إعادة فتح الاقتصاد بشكلٍ كامل. ومن الممكن أن تعمد الشركات أيضًا إلى تخفيف جميع النفقات وعمليات التوظيف مع إبقاء الضروري منها. وصرح كلٌ من الاحتياطي الفدرالي والبنك المركزي الأوروبي في 11 مارس أنهما يتوقعان أن تكون مخاطر تسارع التضخم أكبر من مخاطر انخفاض الطلب وضعفه، كما يعتزمان إيقاف دائرة التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة وفق وتيرة مدروسة وثابتة.

السيناريوهات الأولية لاقتصاد منطقة اليورو

رسمنا ثلاثة سيناريوهات قد تساعد القادة وصناع القرار في الحد من حالة انعدام اليقين الراهنة؛ إذ يتناول السيناريو الأول الاضطراب المحدود مع استجابة متوسطة من ناحية السياسات، في حين يبحث السيناريو الثاني في الاضطراب الموسّع مع استجابة قوية من ناحية السياسات، أما الثالث فيدرس نتائج الاضطراب الشديد والمتصاعد مع استجابة متوسطة من ناحية السياسات، حيث يُعد الأخير احتمالًا مميزًا عن غيره في حال عززت البنوك المركزية إجراءاتها لمكافحة التضخم مع استمرار النزاع الراهن لفترة أطول.

وسنركز أدناه على منطقة اليورو التي تُعد أكبر اقتصاد كلي في العالم في ضوء موقعها المعرّض بصورةٍ كبيرة للنزاع الدائر. ونختتم هذا القسم مع بعض الاعتبارات المتعلقة بالمناطق الأخرى. ويجدر بالذكر أننا لا نتطرق هنا لتحليل أوروبا الشرقية بحد ذاتها، ولكننا نعلم أن هذه الدول ستشهد تأثيرًا مباشرًا وكبيرًا من الاضطراب الاقتصادي الراهن وأزمة اللاجئين المتفاقمة. ونستخدم الناتج المحلي الإجمالي لتحديد مدى تأثر سُبل العيش، لا سيما وأن الدخل يُعد جزءًا رئيسيًا من الناتج المحلي الإجمالي. وكما هو متُعارف عليه في تحليلات السناريوهات، لا تندرج تقديراتنا تحت مسمى توقعات، ولكنها تُعتبر النقاط الرئيسية لمجموعة من النتائج المحتملة.

السيناريو الأول: اضطراب محدود مع استجابة متوسطة من ناحية السياسات

يشمل هذا السيناريو انتهاء الأعمال القتالية خلال بضعة أسابيع مع عدم تصعيد العقوبات وإمكانية تخفيفها، واستمرار تدفق صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا. وفي هذا السياق، من المتوقع أن تشهد نهاية العام الجاري عودة أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا إلى ذروة ما قبل الأزمة، أي حوالي 30 دولار أمريكي لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، فضلًا عن عودة أسعار خام برنت إلى ما يتراوح بين 70 و80 دولار للبرميل. ونتوقع أيضًا عودة نمو الناتج المحلي الإجمالي والوظائف ومستويات الدخل في منطقة اليورو إلى سابق عهدها قبل الأزمة، مع بعض التباطؤ خلال الربع الأول من العام نتيجة الصدمة العالمية من الغزو الروسي لأوكرانيا.

وتبقى توقعات التضخم مرتفعة، رغم استقرار مستوياته، مقارنةً بما قبل الجائحة، كما يواصل البنك المركزي الأوروبي تخفيض المحفزات المالية، وتعود ثقة المستهلكين إلى مستوى ما قبل الأزمة الصحية وتستمر الشركات بخطط الاستثمار في معظم دول منطقة اليورو للخروج من أزمة كوفيد-19 بحلول الربع الثاني من العام الجاري.

ويشهد السيناريو الحالي عودة الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو في عام 2022 إلى مساره السابق قبل الغزو الروسي بواقع 3.8%، كما قد ينخفض مستوى النمو إلى 2.7% في عام 2023 ، في حين قد يُسجل في عام 2024 انخفاضًا يبلغ 1.5% مع عودة الاقتصادات إلى توجهاتها طويلة الأمد. وتتبع ألمانيا، أضخم اقتصاد في منطقة اليورو، مسارًا مماثلًا بتحقيقها نموًا بنسبة 3.5% في العام الحالي و3.0% في عام 2023 و1.3% في عام 2024. ويوضح الشكل 3 تقديراتنا حول نمو الناتج المحلي الإجمالي لكل واحد من السيناريوهات الثلاثة.

قد تسفر المحادثات الروسية الأوكرانية المُعلن عنها في 16 مارس الجاري عن هذا السيناريو في حال توصَّل الطرفان إلى اتفاق خلالها.

السيناريو الثاني: اضطراب موسّع مع استجابة قوية من ناحية السياسات

يشهد هذا السيناريو انتهاء الأعمال القتالية في النصف الثاني من العام الجاري، ولن تطال العقوبات قطاع الطاقة مع استمرار تدفق صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا. ولكن من المتوقع أن تعود أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا إلى ذروة ما قبل الأزمة، أي حوالي 30 دولار أمريكي لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، فضلًا عن عودة أسعار خام برنت إلى ما يتراوح بين 90 و100 دولار للبرميل خلال العام الحالي. ويمكن أن نشهد تحسنًا ملحوظًا في ثقة المستهلكين بحلول نهاية العام وتوجه الأُسَر لاستخدام مدخراتها وخصوصًا وسط ارتفاع الطلب على الخدمات، مع استجابة الشركات من خلال إقامة استثمارات إضافية وتوظيف مزيدٍ من الأشخاص. وقد نرى أيضًا تغيرًا سريعًا في الآراء حيال سياسة الطاقة بالنظر إلى ظهور مخاوف جديدة تتعلق بانعدام أمن الطاقة، ولذلك ستعمد الشركات والحكومات إلى إقامة استثمارات قريبة الأمد لزيادة إمكانات الوقود الأحفوري وضمان مستوى أعلى من المرونة وتسريع الاستثمار في الطاقة المستدامة.

وتسفر الاضطرابات التي تشهدها قطاعات الغذاء والطاقة والسلع الأخرى عن تفاقم التضخم في منطقة اليورو بما يزيد عن 4% في عام 2022 مقارنةً بنسبة العام الماضي التي بلغت من 2.5% إلى 3.0%. ويُظهر الشكل 4 أسعار الطاقة والتضخم في كل واحد من السيناريوهات الثلاثة، ولكن الأسعار ستتراجع مع اقتراب نهاية الحرب. ومع بداية العام القادم، تنحسر تأثيرات الحرب على الطاقة مع نجاح إجراءات البنك المركزي في تقليص التضخم وتراجع توجه ارتفاع الأسعار بشكلٍ متعاقب شهريًا. وتبقى توقعات التضخم مرتفعة، رغم استقرار مستوياته، مقارنةً بما قبل الجائحة، مما يُعد إشارةً قويةً على احتواء التضخم.

وتشير التوقعات إلى استقرار نمو الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو وألمانيا خلال العام الحالي في ظل ارتفاع مستويات الأسعار في المدى القريب والصدمة التي يشهدها العالم جرّاء الغزو الروسي. كما نرى ارتفاع النمو في منطقة اليورو إلى نسبة 2.1% في العام المقبل و4.8% في العام الذي يليه، في حين يشهد الاقتصاد الألماني نموًا أسرع بنسبة 2.7% في عام 2023 و5.5% في عام 2024، مدعومًا بزيادة الإنفاق على الوسائط الدفاعية.

السيناريو الثالث: اضطراب حاد ومتصاعد مع استجابة متوسطة من ناحية السياسات

يشهد هذا السيناريو امتداد النزاع وتفاقم أزمة اللاجئين في أوروبا الوسطى، حيث تقوم الدول الغربية وروسيا بتصعيد العقوبات التي تؤدي إلى توقف صادرات النفط والغاز من روسيا إلى أوروبا. كما نرى ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا بما يتجاوز الضعف لتصل إلى 70 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في العام الجاري، إذ تسجل حاليًا ارتفاعًا واضحًا بواقع 30 دولار، بينما يسجل خام برنت ارتفاعًا ليصل إلى 150 دولار للبرميل.

ويتفاقم التضخم في منطقة اليورو بنسبة تتجاوز 7% سنويًا، إذ يمكن أن تعوّض أوروبا بعض النقص في الغاز الطبيعي من خلال إجراء عمليات الشراء في السوق الفورية والتخفيف من ابتعادها عن استخدام الفحم. ومع مرور الزمن، تستطيع الدول المنتجة والمستهلكة بناء بنية تحتية لتصدير واستيراد الغاز الطبيعي المسال، ولكننا سنشهد في المدى القريب تردّي حالة الطلب نتيجة ارتفاع الأسعار وانخفاض الدخل وإنفاق المستهلكين.

وإضافةً إلى تزعزع الثقة في الوقت الراهن، ستدخل منطقة اليورو في حالةٍ من الركود في عامي 2022 و2023، حيث سينخفض النمو إلى 0.5% في كلا العامين مع تراجع النمو في ألمانيا بصورةٍ أعلى بنسبة 1.4% بسبب اعتمادها الكبير على الغاز الطبيعي. وبحلول منتصف عام 2023، ستتراجع مستويات الطلب نتيجة الضعف الاقتصادي إلى جانب هبوط أسعار الطاقة عمّا كانت عليه، وهو ما يسهم في تقليص التضخم بشكلٍ ملحوظ. ويستأنف الناتج المحلي الإجمالي مسيرة النمو مع دخولنا إلى عام 2024 وانتعاش إنفاق المستهلكين والاستثمارات التجارية حتى لو استمر النزاع على وتيرةٍ خفيفة في أوكرانيا. وتستعيد مستويات التوظيف زخمها في نهاية عام 2024 بعد التدهور الذي هيمن عليها منذ عام 2019، كما تعود مستويات النمو إلى سابق عهدها قبل الجائحة.

التأثيرات على الاقتصادات الكبرى

لا شك أن طبيعة الاضطراب وقدرة الحكومات على الاستجابة له تختلف بين دولةٍ وأخرى، لذا يمكننا وضع مجموعةٍ واسعةٍ من السيناريوهات المحتملة. ونرى في أي سيناريو انخفاض شدة التأثير على الاقتصادات الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة مقارنةً بمنطقة اليورو، وهو ما يثير سؤالين مهمين: الأول هو يتمحور حول قدرة الحرب في أوكرانيا على زعزعة ثقة المستهلكين والشركات، فيما يتعلق الثاني بتأثير الأسعار المرتفعة للسلع.

حينها ستكون القضية الأبرز في الولايات المتحدة ردة فعل مجلس الاحتياطي الفدرالي تجاه تأثير ارتفاع أسعار النفط، والسلع الزراعية، والتعدين، والمواد المعدنية، والسلع الأخرى، علمًا أن أسعار الغاز الطبيعي الأمريكي مستقلة بشكل عام عن أوروبا. وفي الظروف الطبيعية لا نشهد تدخل الاحتياطي الفدرالي بمسألة ارتفاع التضخم نتيجة ارتفاع أسعار العرض، بل يعمل على ضمان عدم تعثر مسيرة النمو. ورغم ارتفاع مستوى التضخم في الولايات المتحدة، أعلن الاحتياطي الفدرالي عن رفع معدلات الفائدة قصيرة الأمد بمقدار 25 نقطة أساسية لأول مرة منذ ديسمبر عام 2018، كما أوضح في بيانه أن الزيادات المستمرة ضمن النطاق المستهدف ستبقى على حالها. ويتفق مراقبو الأسواق على احتمال رفع المعدلات إلى 50 نقطة أساسية إضافية، إذ يبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا سيؤدي فقط إلى إبطاء مسيرة رفع معدلات الفائدة، وليس تغيير مجرى السياسة في الولايات المتحدة. وفي السيناريو (2 أ)، يشهد النمو الأمريكي حالةً من الاستقرار، في حين شهدنا في السيناريو(3 ب) دور تزعزع الثقة واستمرار ارتفاع أسعار النفط في خفض إنفاق المستهلكين والشركات على حدٍ سواء، مما يؤدي إلى حالة من الركود.

ومن المرجح أن تتأثر الصين بشكل رئيسي بارتفاع أسعار السلع عالميًا والتأثيرات الأخرى غير المباشرة مثل انخفاض الطلب من جانب الشركاء التجاريين، وبالتالي سيتأثر إقبال المستهلكين في الصين نتيجةً لذلك.

التداعيات على قادة الأعمال

أربكت سرعة الأزمة الراهنة العديد من قادة الشركات، ومع صعوبة إدراك مجرى الأحداث حاليًا جراء الحرب، سيكون من المستحيل توقع المستقبل. ولكن الكثير من الشركات تحتاج لاتخاذ قرار حول كيفية مواجهة الوضع الراهن والاستعداد للاضطرابات طويلة الأمد، ولا سيما الاضطرابات التي تحدثنا عنها سابقًا.

ولا شك أن هذه التداعيات لا تؤثر على الشركات بشكل متساوٍ، إذ أن الشركات التي تزاول أنشطتها في أوكرانيا أو روسيا ستكون أكثر عرضةً للضرر مباشرةً، وتعمل معظم هذه الشركات الآن على قدمٍ وساق لحماية حياة موظفيها.

أما فيما يتعلق بالشركات الأخرى، تسهم بعض العوامل مثل الموقع الجغرافي ونطاق العمليات والقطاع في تحديد مدى الضرر الذي سيصيبها على إثر الحرب. ويختلف شكل هذه الأزمة عن جائحة كوفيد-19، حيث لا تُعد حياة موظفي الشركات خارج منطقة الحرب في دائرة الخطر المباشرة. وقد تثير التحديات قريبة الأمد قلقًا حول تأثير العقوبات وتحديات الامتثال وخصوصًا للشركات المصنّعة متى ما قررت الدول تنفيذها على روسيا، إضافةً إلى تأثيرات التضخم على التكاليف والقضايا المتعلقة باستمرار العرض.

وبعد عدة أشهر من ازدياد التضخم في معظم دول العالم، تظهر مخاوف من ارتفاع أسعار السلع بسرعة كبيرة، مما يزيد من حدة التضخم ليصل إلى مستويات أعلى ولمدة أطول. وأفضت محادثاتنا مع مسؤولين تنفيذيين في جميع أنحاء العالم إلى اعتبار تنسيق الجهود بين الشركات الاستجابة الأنسب في هذا الوضع، حيث تعمل الشركات الرائدة على معالجة التضخم في عمليات الشراء، والتسعير، وسلاسل التوريد، وقوى العمل، والخدمات المالية.

ويدرك المسؤولون التنفيذيون مستوى الخطورة المحدق بشركاتهم جراء هذه الأزمة، إذ يتعين على جميع القادة أن يستعرضوا السيناريوهات الأكثر الأهمية بالنسبة لهم ويضعوا نماذج تعكس حال قطاعاتهم وظروفهم الراهنة. كما يمكن للقادة القلقين من وجود تأثير أكبر للأزمة إعادة تفعيل الأدوات المعتمدة خلال الأزمات الكبرى سابقًا، وهي تشمل المراكز الرئيسية وفرق التخطيط المسبق. ويبرز أمامنا اختلاف واضح ومهم بين الأزمة الحالية وجائحة كوفيد-19، وهو أن العالم يعاني اليوم من صدمة في عملية العرض التي قد يليها صدمات تتعلق بالطلب، وهو عكس ما كانت عليه الحال في مارس 2020. ويتعين على فرق التخطيط المسبق البدء بوضع نماذج لصدمات الطلب الحالية، إذ يمكن لهذه الفرق المساهمة في تجنب حالة الانحياز عند اتخاذ القرار والأخطاء الأخرى في إدارة الأزمات وسط تفاقم حالة انعدام اليقين، كما بمقدورهم تعزيز مرونة الشركات على المدى الطويل.


ومن وجهة نظر الاقتصادات الكبرى، تعكس السيناريوهات السابقة قدرة أوروبا والاقتصاد العالمي على احتواء النوع الأول من الاضطرابات فقط، ولكن هذه القدرة ستتلاشى مع الزمن. ونأمل أن تساهم هذه السيناريوهات في مساعدتكم ودعم شركاتكم في مواجهة الفترات العصيبة، كما ندرك أيضًا أوجه القصور في هذه السيناريوهات كونها لا تستطيع توضيح جميع المخاطر التي تحملها الحروب بين طياتها.

وأسفرت هذه الحرب عن دمارٍ هائل ومعاناةٍ كبيرة، إذ يعود علينا شهر مارس بذكريات قديمة في أوروبا اعتقدنا أننا تركناها وراءنا منذ زمن طويل. ونتمنى انتهاء هذا النزاع في أقرب وقتٍ ممكن حرصًا على حياة الشعب الأوكراني والشعوب الأخرى.

Explore a career with us