الربع سنوية لماكنزي

الأهداف والقرارات وتداعياتها على الرؤساء التنفيذيين في عصر تطور وكلاء الذكاء الاصطناعي

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

وكثيرًا ما يستشهد القادة التنفيذيون بالمقولة الشهيرة لأسطورة هوكي الجليد واين جريتسكي: "أنا لا أتبع مسار القرص بعد أن يتحرك، بل أسبق حركته وأتجه إلى المكان الذي سيصل إليه قبل أن يصل". وتعكس هذه العبارة فكرة جوهرية في عالم القيادة والأعمال، وهي أن النجاح الحقيقي لا يتحقق بردّ الفعل على ما يحدث، بل باستشراف ما سيحدث والاستعداد له مسبقًا. غير أن هذا المبدأ أصبح اليوم أكثر تحديًا من أي وقت مضى، لأن "القرص" - أي الاتجاه المستقبلي للتقنية والسوق - يتحرك بوتيرة مذهلة بفعل التطور السريع لوكلاء الذكاء الاصطناعي.

قد يبدو الحديث عن ضرورة تسريع الخطى في هذا الشأن في غير محلّه بالنسبة للرؤساء التنفيذيين وفرقهم العليا، خاصةً في وقت ما زالوا فيه يبحثون عن أثر حقيقي لاستثماراتهم المبكرة في الذكاء الاصطناعي التوليدي على أرباح شركاتهم. فبعد الحماس الأول، اكتشف كثيرون أن تطوير حالات الاستخدام وتوسيع نطاق تطبيق هذه التقنية ليس بالأمر السهل، بل هو مسار مليء بالتحديات التقنية والتنظيمية والإدارية. ومع تعقّد التجربة وغياب النتائج السريعة، بدأ الشك يتسرّب إلى بعض القادة الذين لم يقتنعوا بعد بأن وكلاء الذكاء الاصطناعي قادرون على إحداث تأثير ملموس في المدى القريب، ليتراجع بعضهم خطوة إلى الوراء، مفضّلين الانتظار بدل المغامرة في سباق لم تتضح معالمه بعد1.

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

في خضمّ حالة الغموض التي تحيط بمستقبل الأعمال، يحتاج الرؤساء التنفيذيون إلى التوقف قليلًا والتأمل في السرعة الهائلة واتساع الأثر اللذين يصاحبان التحول الجاري اليوم. فـ وكلاء الذكاء الاصطناعي - وهم أنظمة ذكية قائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي تمتلك القدرة على التخطيط، والتنفيذ، والتعلّم، وتذكّر الخبرات لتحقيق أهداف محددة ذاتيًا - يتطورون بوتيرة تفوق التوقعات، وقد يكون نضوجهم نقطة التحول التي تعيد تعريف طريقة إدارة الشركات وصناعة القيمة فيها. (اطلع على العمود الجانبي بعنوان "أبرز الاتجاهات التي تشكل ملامح الذكاء الاصطناعي التوليدي ووكلائه). وبينما يرى البعض أن هذه المرحلة تمثل فترة خيبة أمل مؤقتة كما وصفها جون لوفلوك من مؤسسة جارتنر2، إلا أنها في الحقيقة لحظة ذهبية للقادة أصحاب الرؤية، إذ تتيح لهم التقدّم خطوة أمام منافسيهم، واستثمار هذا الاضطراب كفرصة لصياغة مستقبل جديد تتصدره مؤسسات أكثر جرأة وابتكارًا.

إن الطريقة التي سيتعامل بها الرؤساء التنفيذيون مع هذا التحول ستحدد إلى أي مدى سيتمكنون من جني ثماره. فعلى الرغم من أن وكلاء الذكاء الاصطناعي لا يزالون في مرحلة النشوء، فإن التجارب المبكرة بدأت ترسم ملامح الطريق أمام القادة الذين يرغبون في استباق التغيير بدل الاكتفاء بمراقبته. وتشير هذه التجارب والدروس المستخلصة إلى وجود أربعة توجهات ذهنية وأفعال قيادية جوهرية على النحو التالي:

  • إعادة رسم حدود الممكن: لا يزال التفكير السائد حول وكلاء الذكاء الاصطناعي يتركّز حتى الآن على أتمتة المهام البسيطة أو دعم المعرفة داخل المؤسسات، لكن القيمة الحقيقية لا تكمن في هذا المستوى من الاستخدام، بل في إعادة تصور جوهر العمل ذاته. فالمكاسب الكبرى ستتحقق عندما تُعاد هندسة سير العمليات وهياكل المؤسسات بالكامل لتكون قائمة حول أنظمة تعتمد على الوكلاء في جوهرها، لا كأدوات مساعدة فحسب.
  • التحرك بفعالية والبدء في التعلم فورًا: التحرك السريع وبداية التعلم الآن أمر لا يحتمل التأجيل. فالتطور المتسارع لوكلاء الذكاء الاصطناعي التوليدي يجعل من سياسة الانتظار والمراقبة مخاطرة عالية التكلفة (اطلع على العمود الجانبي بعنوان "الاختراقات في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي ووكلائه"). فكل يوم تأخير يعني خسارة فرصة للتعلم واكتساب الخبرة في التعامل مع هذه التقنية. أما المؤسسات التي تبدأ مبكرًا في التجربة والتطبيق، فهي تبني لنفسها أساسًا متينًا من المعرفة والخبرة يتيح لها التفوق عندما تبلغ التكنولوجيا مرحلة النضج الكامل. فالتعلّم المبكر ليس مجرد خطوة استباقية، بل هو استثمار استراتيجي في المستقبل.
  • معالجة قضايا التوسع والتنافسية طويلة الأمد من الآن: يتطلب التحول الحقيقي المرتبط بوكلاء الذكاء الاصطناعي اتخاذ قرارات حاسمة في وقت مبكر تتعلق بالتكنولوجيا، والثقة، والحوكمة، وما إذا كان من الأفضل شراء الحلول الجاهزة أم تطويرها داخليًا، إضافة إلى بناء القدرات واستقطاب المواهب المناسبة. فهذه العناصر تمثل الأساس الذي يقوم عليه أي تحول واسع النطاق. وبينما تبدأ المؤسسات في التجريب واستكشاف الإمكانات، ينبغي في الوقت نفسه صياغة استراتيجية واضحة وتنمية القدرات اللازمة للتوسع، لأن تنفيذ هذه الخطط سيستغرق وقتًا أطول مما يُتوقع، نظرًا لندرة الكفاءات وصعوبة التغيير التنظيمي.
  • صناعة قادة لوكلاء الذكاء الاصطناعي: مع دخول وكلاء الذكاء الاصطناعي إلى عمق العمليات اليومية وتولّيهم جانبًا متزايدًا من المهام التنفيذية، لم يعد دور الإنسان مجرد منفّذ، بل أصبح موجّهًا وقائدًا لهذه الأنظمة الذكية. فالمستقبل يتطلب من كل فرد في المؤسسة أن يمتلك مهارات الإشراف والتوجيه للوكيل الرقمي، وأن يفهم كيف يوجّهه ويستفيد من قدراته لتحقيق أفضل النتائج. أما القادة التنفيذيون، فعليهم أن يكونوا أول من يتبنى هذا التحول، من خلال تطوير عادات عمل جديدة تقوم على التعلّم المستمر والتكيّف مع الذكاء الاصطناعي، ليقودوا فرقهم بثقة نحو مرحلة تمتزج فيها كفاءة التقنية بحكمة القيادة البشرية.

رغم أن ملامح المستقبل لا تزال تتكشف يومًا بعد يوم، فإن بناء مؤسسة قادرة على الازدهار في عصر وكلاء الذكاء الاصطناعي يتطلب إعادة تشكيل جذرية لطريقة عملها وابتكارها وحمايتها لمصادر خلق القيمة. فهذا التحول لا يعني مجرد تبنّي تقنية جديدة، بل يستلزم تغييرًا عميقًا في البنية التشغيلية والفكر الإداري للمؤسسات. وفي هذا السياق، يركّز المقال على أبرز القضايا التي ينبغي للرئيس التنفيذي التعامل معها منذ الآن، وهي: كيفية تحقيق القيمة، وتوسيع نطاق التطبيق، وتنمية المواهب. كما يتناول ملامح رحلة افتراضية تمتد لعامين نحو التحول القائم على وكلاء الذكاء الاصطناعي، موضحًا نوع القرارات التي يجدر بالقادة اتخاذها، وما يمكن أن يترتب عليها من تحولات جوهرية في طريقة إدارة الشركات وتشغيلها خلال السنوات القادمة.

هل الرهان على وكلاء الذكاء الاصطناعي يستحق المغامرة؟

تمتلئ شبكة الإنترنت بالحديث عن القيمة الهائلة التي يُفترض أن يحققها وكلاء الذكاء الاصطناعي، حتى باتت الوعود تفوق الحقائق. لكن نظرًا لحداثة هذه التقنية، لا يزال من الصعب التحقق فعليًا من مدى صدق تلك الادعاءات أو قياس نتائجها على أرض الواقع؟

غير أن التجارب المبكرة تشير إلى أن هناك قيمة حقيقية وكبيرة قيد الانتظار. فخبرات ماكنزي في تحديث البنى التقنية أظهرت أن توظيف وكلاء الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُسرّع وتيرة تنفيذ المشروعات بنسبة تتراوح بين 40 و50 في المئة، ويخفض التكاليف بأكثر من 40 في المئة، مع تحسين جودة المخرجات في الوقت نفسه.3

وفي تجربة أخرى، واجه أحد البنوك العالمية الكبرى تحديًا كبيرًا تمثّل في تنفيذ عدد ضخم من مشروعات تكنولوجيا المعلومات اللازمة لدعم أهدافه التجارية، في ظل تراكم ديون تقنية كبيرة ونقص واضح في عدد المطورين المهرة. بدأ البنك مشروعه بفريق صغير يضم ثلاثة مهندسين فقط، لكنه سرعان ما أنشأ ما يُعرف بـ "مصنع تحديث تقني" يعتمد على مئة وكيل من وكلاء الذكاء الاصطناعي يشرف عليهم خمسة أشخاص فقط. وقد تولّى هؤلاء الوكلاء، تحت إشراف بشري محدود، تنفيذ دورة التحديث التقنية بالكامل - بدءًا من الهندسة العكسية مرورًا بتصميم التطبيقات الجديدة وتطويرها - مما أدى إلى تقليص الوقت والجهد وتخفيض التكاليف بأكثر من خمسين في المئة، مع الحفاظ على جودة المخرجات وتحسين كفاءة العمل على نحو ملحوظ.

بينما تشير خبراتنا إلى أن الاستخدامات الأولية لوكلاء الذكاء الاصطناعي في دعم الموظفين وأتمتة المهام يمكن أن تحقق زيادة في الإنتاجية السنوية تتراوح بين 3 و5 في المئة على مستوى الشركة. ومع تطور قدرات فرق الوكلاء لتتمكن من تنفيذ مهام أكثر تعقيدًا وتكاملًا، من المتوقع أن ترتفع معدلات النمو لتصل إلى 10 % أو أكثر، وهو ما يعكس الإمكانات الكبيرة لهذه التقنية في تعزيز كفاءة العمل وتسريع وتيرة الإنجاز داخل المؤسسات.

تعرف على وكلائك: من قوة عاملة ذكية إلى محرك يغيّر قواعد العمل

لا يزال كثير من القادة التنفيذيين ينظرون إلى وكلاء الذكاء الاصطناعي بعيون الماضي، فيرونهم كأدوات محدودة المهام لا تتجاوز حدود الأتمتة أو تسريع الأداء. غير أن هذا التصوّر الضيق يحجب عنهم الإمكانات الحقيقية لهذه التقنية، ويخلق حالة من الغموض تعرقل اتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بالمخاطر والاستثمار وتوزيع الموارد وقيادة التغيير.

وقد يبدو من السهل تشبيه وكلاء الذكاء الاصطناعي بالبشر في طريقة تفكيرهم أو عملهم، غير أن النظرة الأكثر واقعية هي اعتبارهم أنظمة برمجية متطورة قادرة على تنفيذ مجموعة متزايدة التعقيد من المهام (اطلع على الشكل أدناه). ومن خلال هذا الفهم الموضوعي، يصبح بالإمكان النظر إلى وكلاء الذكاء الاصطناعي كركيزة تشغيلية تتطلب إعادة التفكير في البنية التنظيمية للمؤسسة وآليات عملها. فكلما أدرك القادة طبيعة هذه الأنظمة بوصفها أدوات تطويرية لا بدائل بشرية، اتضحت أمامهم معالم التغيير الحقيقي المطلوب لتهيئة مؤسساتهم لمستقبل يعمل فيه الإنسان والآلة بتناغم واحد.

العمل الذكي: وكلاء الذكاء الاصطناعي كأدوات تعزّز كفاءة المهام الحالية

يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي المعتمدة على الوكلاء أن تضيف قيمة حقيقية إلى بيئات العمل الحالية، من خلال تسهيل أداء المهام الأساسية التي يقوم بها الأفراد، وأتمتة سير العمليات التي كانت تتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين. فهي لا تحلّ محل العامل البشري، بل تعمل إلى جانبه.

تعزيز قدرات الأفراد: تسهم هذه الأدوات في أتمتة المهام التي يؤديها الأشخاص عادة، وتسريع تنفيذها وتحسين جودتها في الوقت نفسه. وتشمل هذه المهام أعمالًا شائعة ومألوفة مثل إعداد الملاحظات البحثية، وتلخيص الاجتماعات، وكتابة الأكواد البرمجية، وإجراء الأبحاث، أو اقتراح بنود العقود.

ومن المرجّح أن تصبح هذه الأدوات - بل إنها أصبحت بالفعل في بعض المجالات مثل البرمجة - جزءًا أساسيًا من متطلبات العمل اليومية، تمامًا كما أصبح استخدام البريد الإلكتروني وجداول البيانات أمرًا بديهيًا لا غنى عنه. فهي لم تعد ميزة إضافية أو خيارًا تقنيًا، بل عنصرًا أساسيًا في البنية التشغيلية الحديثة لأي مؤسسة تسعى إلى الحفاظ على كفاءتها ومواكبة سرعة التطور في بيئة الأعمال.

كما أظهرت الدراسات أن تبنّي أدوات وكلاء الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزّز إنتاجية الأفراد بنسبة تتراوح بين 20 و30 في المئة، وقد تتجاوز هذه النسبة ذلك بكثير في بعض المهام المتخصصة التي تتطلب تركيزًا ودقة عالية. ومع ذلك، فإن الصورة ليست دائمًا بهذه اللمعان؛ إذ إن توسيع استخدام هذه الأدوات أفقيًا عبر مختلف أقسام المؤسسة لا ينعكس بالضرورة في شكل أثر ملموس على الأداء العام أو الأرباح. وغالبًا ما تتراجع وتيرة الاستخدام تدريجيًا بعد الحماس الأول، حيث تنخفض معدلات الاعتماد عليها بشكل واضح خارج نطاق المستخدمين الأوائل الذين يقودون التجربة.

ولا يتحقق نشر استخدام أدوات المساعدة الذكية على نطاق واسع تلقائيًا، بل يحتاج إلى نهج مدروس واستثمار حقيقي في إدارة التغيير داخل المؤسسة. ويتطلّب ذلك دمج هذه الأدوات في الإجراءات التشغيلية اليومية بحيث تصبح جزءًا طبيعيًا من أسلوب العمل، وربط مخرجاتها بمؤشرات الأداء لضمان استدامة استخدامها وقياس أثرها الفعلي. كما يستدعي الأمر تدريب الموظفين تدريبًا عمليًا يتيح لهم استغلال إمكانات هذه الأدوات بكفاءة، إلى جانب دور حاسم للقيادة في إظهار الفوائد عبر الممارسة والنموذج لا عبر التوجيه فقط. وفي المقابل، على الإدارة العليا أن تفكر بعمق في كيفية تحويل الزيادة المتفرقة في الإنتاجية إلى قيمة مؤسسية ملموسة، إذ إن هذه المكاسب غالبًا ما تنتج عن مهام صغيرة ومتعددة يصعب قياسها بشكل مباشر. ويكون الحل عادة عبر تخطيط مالي ذكي وإطلاق مبادرات كفاءة تشغيلية شاملة تضمن أن تتحول التحسينات الفردية إلى قوة جماعية ترفع أداء المؤسسة بأكملها.

أتمتة المهام وسير العمل: تركّز الفئة الثانية على أتمتة العمليات والإجراءات والمهام القائمة داخل المؤسسة، من خلال إنشاء طبقة تنفيذ ذكية تعمل فوق الأنظمة التشغيلية الحالية مع "إدخال تعديلات طفيفة عليها فقط". وتُعرف هذه الطبقة باسم طبقة التنفيذ المعتمدة على الوكلاء، إذ تتولى تنسيق المهام بين الأنظمة المختلفة وربط خطوات العمل بطريقة أكثر سلاسة وانسيابية.

ومن ناحية أخرى، بدأت كبرى الشركات التقنية في طرح الجيل الأول من المنتجات المعتمدة على أنظمة الوكلاء الذكية، في الوقت الذي تشهد فيه السوق طفرة كبيرة في ظهور شركات ناشئة تقدم حلولًا متخصصة لمجالات متعددة مثل خدمة العملاء، وإعداد التقارير المالية والمتابعة، والبرمجة، وتطوير المنتجات، والمشتريات.

في هذا السياق، أصبحت أدوات التحول الذكي تعيد رسم مشهد الكفاءة التشغيلية. فقد أظهرت دراساتنا أن تطبيق أنظمة الوكلاء الذكية في مراحلها الأولى حقق نتائج لافتة، إذ ساعد على تسريع دورة العمل بنسبة تتراوح بين 20 و40 في المئة، وخفّض تكاليف معالجة المهام المتكررة بشكل كبير. وفي مراكز خدمة العملاء على سبيل المثال، أصبحت بعض أنواع المكالمات مثل الاستعلام عن الرصيد أو تعديل العنوان، تُدار آليًا بالكامل تقريبًا دون تدخل بشري. لكنّ الأدوات وحدها لا تصنع التغيير. فالنجاح الحقيقي لا يتحقق بمجرد تزويد الموظفين بالتقنيات، بل من خلال دمج هذه الأنظمة في سير العمل اليومي واعتماد منهجية تطوير مستمرة تحسّن أداءها وتوسّع نطاق تطبيقها مع مرور الوقت. فحين تتحول الأدوات إلى جزء حي من منظومة العمل، يصبح الذكاء الاصطناعي قوة تشغيلية دائمة لا ميزة مؤقتة.

ومع ذلك، فإن العائق الأساسي أمام تحقيق القيمة الحقيقية يتمثل في أن حالات الاستخدام الأكثر تخصصًا لا تزال تعمل بمعزل عن غيرها، وتعتمد بدرجة كبيرة على أنظمة أخرى وعلى تدخل بشري مكثف لإتمام عملها. وفي الوقت ذاته، ورغم التطور السريع في قدرات النماذج، ما زالت المؤسسات تواجه تحديًا في قدرتها التنفيذية على أتمتة المهام الحالية على نطاق واسع مع الحفاظ على مستوى عالٍ من الجودة والدقة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى نهج أكثر تكاملًا يربط بين النماذج والأنظمة والبشر في منظومة واحدة قادرة على تحقيق الأثر المنشود بكفاءة واستدامة.

نظام التشغيل الذكي: عندما يقود الوكلاء طريقة العمل الجديدة

تشهد أنظمة الوكلاء الذكية تطورًا سريعًا بفضل الطفرات التقنية التي مكنت فرقًا من الوكلاء من العمل معًا في تناغم واحد، مما يفتح الباب أمام فرص هائلة لخلق قيمة حقيقية للمؤسسات. غير أن الاستفادة الكاملة من هذه الإمكانات تتطلب إعادة التفكير جذريًا في طريقة العمل وتصميم سير العمليات لتصبح مبنية على مبدأ "الوكيل أولًا". ويعني ذلك تطوير بيئات تشغيل جديدة يمكن فيها للوكلاء إدارة المهام بكفاءة سواء داخل وظيفة محددة مثل خدمة العملاء ، أو عبر وظائف متعددة مثل سلسلة تحويل العملاء من مرحلة الاهتمام إلى الشراء.

عمليات العمل المتخصصة المدعومة بوكلاء الذكاء الاصطناعي: في هذا النموذج، تُعاد هيكلة العمليات المتخصصة داخل المؤسسة - مثل التخطيط المالي أو إعداد التقارير - بحيث تستفيد من تعاون فرق من وكلاء الذكاء الاصطناعي القادرين على إدارة المهام بطريقة مترابطة وذكية. ويشمل ذلك إعادة ترتيب تسلسل المهام ودمج بعضها لتسريع الأداء، إلى جانب توسيع الوصول إلى مصادر بيانات جديدة، وتصميم عمليات استباقية تتيح اكتشاف المشكلات ومعالجتها قبل ظهورها. وتساعد هذه الأنظمة الذكية على التخلص من العقبات التقليدية، مثل تبادل المهام بين الإدارات أو تكرار الخطوات والإجراءات، إذ يعمل الوكلاء بشكل منسّق ومتزامن يضمن سير العمل بانسيابية وكفاءة أعلى، ويحوّل العملية التشغيلية من سلسلة منفصلة من المهام إلى منظومة متكاملة تتفاعل ذاتيًا وتتحسن مع الوقت.

تتجه الشركات المتخصصة في تطوير البرمجيات، سواء في المجالات العامة أو المتخصصة، نحو بناء جيل جديد من التطبيقات المتكاملة التي تعتمد بشكل كامل على أنظمة الوكلاء الذكاء الاصطناعي. وتشمل هذه التطبيقات مجالات محورية مثل خدمة العملاء، والإدارة المالية، وتخطيط سلاسل الإمداد، وتحديث الأنظمة البرمجية القديمة. وعندما تُطبّق هذه الأنظمة بطريقة مدروسة، فإنها تُحدث تحولًا جوهريًا في كفاءة التشغيل، إذ تختصر زمن إنجاز العمليات من بدايتها حتى نهايتها، وتُسرّع الاستجابة للمشكلات، وترفع مستوى رضا العملاء إلى مستويات غير مسبوقة. فعلى سبيل المثال، يمكن لمراكز الاتصال التي تعتمد هذا النوع من الأنظمة أن تُتم معالجة ما بين 60 و80 في المئة من الطلبات الواردة بشكل آلي بالكامل، مع تحقيق مستوى من رضا العملاء يعادل أو حتى يتجاوز ما تحققه الأنظمة التقليدية القائمة على الردود الصوتية والدعم البشري في الخطوط الأمامية. 4

غير أن هذا النوع من الأنظمة يتطلب إنشاء مزيجًا دقيقًا من الخبرة الهندسية والمعرفة المتخصصة بالمجال، إذ يجب الجمع بين النماذج الاحتمالية الحديثة والبرمجيات التقليدية القائمة على منطق محدد، من أجل بناء منظومات متعددة الوكلاء تعمل بانسجام وفاعلية. ولا يقتصر الأمر على تطوير التقنية فحسب، بل يمتد إلى إعادة تصميم الهياكل التنظيمية ونماذج التشغيل بما يضمن وجود إشراف بشري كافٍ يحافظ على دقة الأداء وسلامة القرارات. كما يصبح من الضروري وضع قواعد حوكمة واضحة داخل هذه الأنظمة مثل تحديد صلاحيات الوصول واتخاذ القرار ونقاط ضبط الجودة، خاصة في العمليات الحساسة مثل إدارة المشتريات والعقود والتواصل مع المورّدين والسياسات التشغيلية. فهذه الضوابط تضمن أن تبقى الرقابة البشرية فعالة ومتوازنة، وتمنع تجاوزات الأنظمة أو إغراق العاملين في متابعة تفاصيل معقدة تتجاوز قدرتهم على الإشراف الفعّال.

منظومات التشغيل الذكية المتكاملة: تمثل هذه المنظومات نقطة تحوّل جوهرية في طريقة عمل المؤسسات، إذ لم يعد الأداء محصورًا داخل حدود الإدارات. وتتكامل هذه الأنظمة عبر مختلف الأقسام لتدير عمليات معقدة، مثل رحلة العميل الكاملة من أول تفاعل وحتى ما بعد البيع، فتجعل المؤسسة تعمل بتناغم يشبه كفاءة الكائن الحي الواحد. وتنعكس هذه القدرة في تطبيقات عملية ملموسة، حيث يمكن لأنظمة الخدمات الميدانية أن تدير العمل على مدار الساعة، فترسل الفنيين تلقائيًا، وتعيد جدولة الزيارات، وتطلب قطع الغيار دون أي تدخل بشري. وفي قطاع التأمين، أصبحت هذه المنظومات قادرة على تحليل المطالبات واتخاذ القرار بشأنها في لحظات، بينما تُعالج إجراءات الرهون العقارية خلال ثوانٍ بفضل قدرتها على الدمج بين التحليل والموافقة والتنفيذ في وقت واحد. أما في الإدارة المالية، فقد بات بإمكانها إدارة الدورة الكاملة من التخطيط السنوي إلى التقارير الشهرية بدقة وسرعة غير مسبوقتين.

وتملك هذه المنظومات الذكية القدرة على خلق قيمة متعددة الأبعاد داخل المؤسسات، إذ تُمكّنها من الوصول إلى السوق بسرعة أكبر، وتقليل تكلفة المعاملة الواحدة، وتسريع حل المشكلات، وزيادة الإيرادات بفضل قدرتها على تقديم عروض أكثر دقة واستهدافًا. وتُظهر التجارب الأولية التي استخدمت التقنيات الحالية نتائج مبهرة، حيث نجحت في خفض تكلفة المعاملة الواحدة بنسبة تتراوح بين 70 و80 في المئة في بعض العمليات التي تعتمد على كثافة العمالة.

وفي هذه المرحلة الحاسمة من التحول، لا تكمن التحديات في التكنولوجيا ذاتها بقدر ما تكمن في البنية التنظيمية وأساليب العمل داخل المؤسسة. فنجاح منظومات الذكاء الاصطناعي لا يعتمد على قوة الخوارزميات فحسب، بل على قدرة القيادة على إعادة تشكيل طريقة عمل المؤسسة من جذورها. ومن هنا، يصبح دور الرئيس التنفيذي ومجلس الإدارة محوريًا، إذ يتعين عليهما إعادة بناء النموذج التشغيلي بما يضمن وضوح المسؤوليات وتكامل الأدوار بين الفرق التي اعتادت العمل بمعزل عن بعضها لسنوات طويلة. ولأن التحول الحقيقي لا يتحقق عبر خطوات تدريجية أو إصلاحات سطحية، فإن المطلوب هو قفزة شجاعة تتجاوز الأساليب القديمة نحو نموذج جديد ينسجم مع إيقاع عصر الذكاء الاصطناعي.

قرارات حاسمة في رحلة التحول نحو تكنولوجيا وكلاء الذكاء الاصطناعي... وتبعات كبرى تستحق التأمل

ولمساعدة الرؤساء التنفيذيين على تصور ملامح الرحلة وفهم القرارات الجوهرية التي سيواجهونها في طريقهم نحو التحول، قمنا بوضع خريطة طريق افتراضية تمتد على مدى عامين إلى ثلاثة أعوام، توضح المراحل الأساسية التي ينبغي التركيز عليها والمعالم التي يجب الوصول إليها. وتسلّط هذه الخطة الضوء على القرارات الحاسمة التي تتطلب مشاركة فعّالة من الرئيس التنفيذي لضمان أن يكون التحول متكاملًا ومستدامًا. (اطلع على العمود الجانبي بعنوان "كيف تعيد الشركات الناشئة المعتمدة على وكلاء الذكاء الاصطناعي تشكيل عالم الأعمال"، والذي يتضمّن مقتطفات من مقابلة مع ماغنوس غريميلاند، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة رأس المال الاستثماري وحاضنة الأعمال التكنولوجية أنتلر).

في المقابل، ورغم أن الأهداف والجداول الزمنية الواردة في خريطة الطريق تبدو طموحة وربما تتجاوز المألوف، فإننا ندرك تمامًا أن الكثير سيتغيّر خلال العامين المقبلين. ومع ذلك، تُظهر خبراتنا أن وضع رؤى جريئة وأهداف عالية الطموح يظلّ أمرًا ضروريًا لتحفيز المؤسسة على التحرك بسرعة وثقة. فعندما يرسم الرئيس التنفيذي ملامح مستقبل طموح، فإنه لا يضع هدفًا فحسب، بل يخلق دافعًا حقيقيًا يدفع الفرق نحو الإنجاز، ويغير مسار التحول من مهمة تنفيذية إلى رحلة إلهام تتّجه بثبات نحو الغد.

أول عامين: رسم الطريق وبناء الزخم نحو المستقبل

في البداية، ينبغي أن تتركز الأهداف خلال العام الأول على بناء فهم عميق لطبيعة التحول المطلوب، مع خلق زخم داخلي قوي ووضع الأسس التي تتيح لوكلاء الذكاء الاصطناعي العمل بكفاءة وعلى نطاق واسع داخل المؤسسة. ومن هذا المنطلق، يجب أن ينصب التركيز على خفض التكاليف التشغيلية في مجموعة محددة من الوظائف والعمليات، مع السعي لتحقيق تحسّن في الكفاءة قد يصل إلى نحو 10 في المئة كمؤشر أولي على النجاح. وفي الوقت نفسه، لا تقتصر أهمية هذه المرحلة على الأرقام أو النتائج الفورية، بل تكمن في قدرتها على كسر حالة الجمود وتحريك المؤسسة نحو التغيير بخطى واثقة. ومع تقدم التجربة، تصبح هذه الفترة بمثابة حجر الأساس للتحول المستقبلي، إذ تمهد الطريق للتعلّم، وترسّخ ثقافة التجريء على الابتكار.

خلال العامين الأول والثاني، ينبغي مراقبة مجموعة من المؤشرات التي تعكس مدى تقدّم المؤسسة في بناء نموذج أعمال قائم على وكلاء الذكاء الاصطناعي، ومن أبرز هذه العلامات ما يلي:

  • يتسارع مستوى إتقان الموظفين لاستخدام وكلاء الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسة، حتى يصبح التعامل مع هذه الأدوات مهارة أساسية لا غنى عنها في بيئة العمل الحديثة. ورغم أن القيمة الاقتصادية المباشرة قد تكون محدودة في البداية، فإن تطوير هذه القدرات بين الموظفين يُعد استثمارًا ضروريًا لبناء الجاهزية الرقمية للمؤسسة، تمامًا كما كان تعلّم استخدام الحاسوب أو البريد الإلكتروني في الماضي شرطًا أساسيًا لأداء العمل. وفي هذه المرحلة، يُستحسن أن تصل نسبة العاملين الذين يستخدمون وكلاء الذكاء الاصطناعي وأدواته بشكل منتظم إلى ما بين 25 و50 في المئة من إجمالي القوى العاملة. ومع الوقت، ينبغي أن يتحول أسلوب العمل من قراءة التقارير الجاهزة إلى التفاعل المباشر مع البيانات عبر محادثات ذكية مع الوكلاء.
  • يبدأ الوكلاء في هذه المرحلة بأتمتة مجموعة واسعة من العمليات القائمة باستخدام أدوات الجيل الأول من تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتشمل هذه العمليات مهام جوهرية مثل إعداد الملفات المالية، وصياغة المستندات الرسمية، وإدارة عمليات الموافقة داخل الأنظمة التشغيلية المختلفة. ومع تطبيق هذه الأدوات، تظهر فوائد ملموسة وواضحة تتمثل في تقليص زمن إنجاز المهام بشكل كبير وخفض تكاليف المعاملات. فعلى سبيل المثال، في الحالات المستهدفة التي تتعلق بتصحيح البيانات البسيطة والمنظمة جيدًا، تستطيع وكلاء الذكاء الاصطناعي معالجة ما بين 90 و95 في المئة من المشكلات بدقة وسرعة تفوق العمل اليدوي.
  • تبدأ أنظمة البرمجيات الذكية المعتمدة على الوكلاء في الاندماج داخل الأنظمة الرئيسية للمؤسسة، مما يغيّر جذريًا طريقة التفاعل معها. فبدلًا من الأوامر التقليدية والثابتة، تتحول الواجهات إلى نظام قائم على الأوامر التفاعلية يعتمد على الحوار الذكي مع المستخدم. ومع هذا التحول، يصبح للوكلاء دور محوري في إدارة الأنظمة، إذ يتولون تلقائيًا استخلاص الرؤى وتحليل البيانات وتنفيذ المهام وتنسيق الأنشطة بين مختلف الإدارات. ومع مرور الوقت، تصبح القدرات المؤتمتة مثل التخطيط وجمع المعلومات جزءًا طبيعيًا من سير العمل اليومي، بينما تشهد الأنظمة الداعمة، مثل أنظمة التقارير والمتابعة، تطورًا سريعًا لتتماشى مع هذا النمط الجديد من التشغيل القائم على الذكاء والتفاعل المستمر.
  • تولى فريق ريادي داخل المؤسسة مهمة قيادة مشروع تجريبي طموح يُعرف بـ "المشروع المنارة"، يهدف إلى إعادة تصور عملية تشغيلية متكاملة من بدايتها إلى نهايتها اعتمادًا على أنظمة وكلاء الذكاء الاصطناعي. ويضع هذا الفريق رؤية تمتد على مدى 24 شهرًا تحدد الوضع المستهدف للعملية، سواء كانت دورة الطلب وحتى التحصيل، أو من التسجيل وحتى إعداد التقارير، أو حتى أتمتة الموافقات على القروض وإدارتها بالكامل. ومن أجل الوصول إلى هذه الرؤية، يبدأ الفريق بإطلاق سلسلة من النماذج الأولية المصغّرة لاختبار الأفكار وتطوير القدرات خطوة بخطوة، مع الحرص على تحويل التجربة إلى مختبر عملي للتعلّم والتوسع. ويُفترض أن تكون الأهداف جريئة ومحددة بوضوح؛ فمثلًا، في دورة "الطلب إلى التحصيل"، يمكن أن يكون الهدف أتمتة أكثر من 70 في المئة من المعاملات عبر مختلف القنوات.
  • مع تصاعد تأثير وكلاء الذكاء الاصطناعي في بيئات العمل، بدأت ملامح التحول تظهر بوضوح في هيكل الوظائف داخل المؤسسات. فبفضل قدرتهم على تنفيذ المهام التقنية المتكررة بسرعة ودقة، باتت الحاجة إلى بعض الأدوار التقليدية أقل مما كانت عليه في السابق. ويبرز هذا التغيير بشكل خاص في مجالات البرمجة، حيث أصبحت الأنظمة الذكية قادرة على تنفيذ المهام البرمجية البسيطة بكفاءة تفوق الأداء البشري، مما يتيح للمطورين التفرغ للأعمال الأكثر ابتكارًا وتعقيدًا. فعلى سبيل المثال، حققت أحدث وكلاء البرمجة ولا سيما في تطوير واجهات المستخدم قفزة هائلة في الإنتاجية، إذ ارتفعت كفاءة فرق التطوير بنسبة تتراوح بين 50 إلى 100 في المئة.

ولكي تتمكن المؤسسات من تحقيق هذه المؤشرات والوصول إلى تلك المراحل المتقدمة، سيكون على الرؤساء التنفيذيين معالجة مجموعة من الجوانب الجوهرية في صميم العمل على النحو التالي:

إعادة تصميم التحول لتحقيق قيمة حقيقية: تركز كثير من المؤسسات اليوم على رفع إنتاجية الأفراد كمدخل أساسي للتحول، غير أن هذا التركيز رغم فائدته، فإنه لا يمثل المصدر الأعمق ولا الأكبر للقيمة. فالقيمة الحقيقية لا تتحقق من زيادة كفاءة العاملين فقط، بل من إعادة هندسة بيئة العمل نفسها لتعمل كوحدة ذكية متكاملة.

ولذلك، يتعين على الرئيس التنفيذي أن يقود تحولًا حقيقيًا في طريقة عمل المؤسسة، بحيث تنتقل الفرق من التركيز على حالات استخدام محدودة ومعزولة إلى الاهتمام بتدفقات عمل رئيسية تمتد عبر الإدارات كافة وتؤثر في جوهر كافة عمليات التشغيل. ولتحقيق ذلك، لا بد من كسر الحواجز التقليدية بين الأقسام، والتخلّي عن نموذج الفرق المنعزلة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، وبناء فرق موحدة متعددة التخصصات تعمل بانسجام تام. تضم هذه الفرق خبراء في الذكاء الاصطناعي والبيانات والتقنية، إلى جانب المتخصصين في المجالات التشغيلية المختلفة.

بينما تنفذ هذه الفرق مهامها وتخوض تجاربها العملية، تبرز أهمية قصوى للاستفادة من المعرفة التي تولدها خلال رحلة العمل. فنجاح التحول لا يعتمد فقط على ما تحققه كل مبادرة من نتائج، بل على قدرة المؤسسة على تحويل التجارب الفردية إلى معرفة مؤسسية مشتركة تُوثّق وتُنظم وتُعاد الاستفادة منها في مختلف الإدارات والمشروعات. ولهذا، يجب أن تعتمد القيادة نظامًا مركزيًا لجمع هذه الخبرات وتوحيدها، بحيث تصبح مرجعًا يوجّه قرارات المؤسسة المستقبلية. كما يتعيّن العمل على إعداد دليل تشغيلي شامل لإعادة تصميم العمليات وفق مبدأ "الوكيل أولًا"، يحدّد بوضوح معايير قياس العائد على الاستثمار، وأنماط التنسيق بين الوكلاء المتعددين، وأفضل أساليب دمج التقنيات والبيانات، إلى جانب قواعد الحوكمة والتقييم والمتابعة. ومن المهم أيضًا أن يوضّح هذا الدليل متى يكون تطبيق أنظمة الوكلاء الخيار الأمثل، ومتى لا يُنصح به.

ولضمان تنفيذ التحول بفاعلية، ينبغي إنشاء فريق مركزي يُعرف بـ"مصنع الوكلاء"، تكون مهمته اختيار العمليات الأنسب لتطبيق أنظمة الذكاء الاصطناعي، وإعادة تصميمها، ثم توسيع تطبيقها على مستوى المؤسسة.

توسيع نطاق التحول: في عام 2022، أصدر مؤسس شركة أمازون جيف بيزوس توجيهًا يلزم المطوّرين بأن يتضمّن كل كود برمجي يكتبونه واجهات برمجة تطبيقات يمكن مشاركتها مع أطراف خارجية. كان هذا القرار بمثابة الأساس الذي مكّن أمازون من توسيع نطاق عملياتها بكفاءة ومرونة. وبالمثل، يحتاج الرؤساء التنفيذيون اليوم إلى وضع مبادئ تصميم واضحة ومُلزمة لتطبيقات وكلاء الذكاء الاصطناعي داخل مؤسساتهم، تضمن إمكانية التكامل والتوسع بسلاسة. فبدلًا من إنشاء أنظمة ضخمة ومغلقة، ينبغي تطوير وكلاء ذكاء اصطناعي قابلة للبناء وإعادة الاستخدام، بحيث يمكن توظيف عناصرهم بسهولة في مهام أخرى داخل الشركة. هذا ليس مجرد تفضيل تقني، بل توجّه تنظيمي أساسي يجب أن تتبناه المؤسسة لتتمكن من مواكبة التحوّل الكبير الذي يفرضه عصر وكلاء الذكاء الاصطناعي.

يُشكّل "مصنع الوكلاء" القلب النابض لعملية تحويل وكلاء الذكاء الاصطناعي من مبادرات محدودة إلى منظومة قابلة للتوسع الصناعي. فهو يضم فرقًا متخصصة تُعنى بتصميم الوكلاء وتشغيلهم، مع بناء أنظمة ومعايير تضمن قدرتهم على التوسع بفعالية داخل المؤسسة. وتشمل مهامه إنشاء مكتبة مرجعية من القوالب الجاهزة لتطبيقها في مختلف العمليات التشغيلية، ووضع إجراءات دقيقة لإدارة المخاطر وتحديد الضوابط الوقائية، إلى جانب تطوير آليات تقنية منهجية لتقييم أداء الوكلاء ومتابعة نتائجهم. كما يضع "مصنع الوكلاء" مؤشرات أداء موحدة تُدار من أعلى المستويات التنفيذية لضمان الاتساق والشفافية في التطبيق.

ومن الأفضل أن يؤدي "مصنع الوكلاء" دورًا قويًا داخل المؤسسة، لضمان عدم انتشار وكلاء الذكاء الاصطناعي بشكل عشوائي أو غير منضبط عبر مختلف الأقسام، وللتحقق من التزامهم التام بسياسات الشركة والأنظمة المعمول بها في كل دولة تعمل فيها.

من أبرز التحولات الأساسية التي تُمكّن "مصنع الوكلاء" من العمل بفعالية ما يلي:

  • التقنية والبيانات: لضمان تطوير وإدارة وكلاء الذكاء الاصطناعي بطريقة منسّقة وفعّالة، يجب على الرؤساء التنفيذيين إعطاء الأولوية لبناء بنية تقنية متكاملة تدعم هذا التوجّه. ففي بعض الحالات، يمكن توفير هذه البنية من خلال مزوّدي خدمات وكلاء الذكاء الاصطناعي المتخصصين. ومع ذلك، من المهم الحفاظ على الحياد تجاه المورّدين لتجنّب الاعتماد الكامل على جهة واحدة، مما يتيح للمؤسسة دمج الوكلاء المخصصين والمطوّرين مسبقًا ضمن منصات تقنية متعددة، وبذلك تحقق مرونة أكبر وقدرة أعلى على التكيّف مع التطورات المستقبلية.

    ينبغي على الشركات التي تمتلك قدرة أكبر على الاستثمار أن تفكر في تبنّي ما يُعرف بالبنية الشبكية لوكلاء الذكاء الاصطناعي ، وهي منظومة من الأنماط والممارسات والمبادئ التي تنسّق طريقة عمل الوكلاء وتوزيع المهام بينهم بكفاءة. وبالمثل، لن يتمكن وكلاء الذكاء الاصطناعي من التوسع والقيام بدور فعّال ما لم تتوفر لهم بيانات منظمة ومتجددة ومنسقة بعناية. ويُعد هذا العمل من أكثر الجوانب تعقيدًا، إذ يتطلّب من القيادة التنفيذية العليا أن تجعل من بناء بنية بيانات قوية أولوية استراتيجية، لضمان أن يعمل الوكلاء على أساس من المعلومات الدقيقة والموثوقة التي تتيح لهم اتخاذ قرارات فعّالة تدعم أهداف المؤسسة.

  • المنصات: من المتوقع أن تمتلك الشركات في المستقبل مئات، وربما آلاف، من وكلاء الذكاء الاصطناعي، وهو ما قد يتحول سريعًا إلى تحدٍ إداري معقد. لذلك، ينبغي على الرؤساء التنفيذيين إعطاء الأولوية لتطوير أو اعتماد منصة متكاملة تُسهّل إدارة الوكلاء ومتابعة أدائهم بشكل آلي ومنظّم. ويجب أن تشمل هذه المنصة بروتوكولات واضحة لإدارة تكاليف الوكلاء وأدائهم، وآليات إدخالهم إلى النظام أو إخراجهم منه وتنظيم صلاحيات الوصول إلى البيانات وفقًا للتشريعات المحلية، بالإضافة إلى حماية الخصوصية وضمان الأمن السيبراني.
  • الثقة: لكي يثق الناس في وكلاء الذكاء الاصطناعي، يجب أن يفهموا بوضوح كيفية عملهم وآلية اتخاذهم للقرارات. فغياب هذا الفهم يقلل من مستوى الثقة ويعيق تبنّي هذه التقنيات داخل المؤسسة. ومن أجل بناء الثقة منذ البداية، ينبغي على الرؤساء التنفيذيين أن يعطوا الأولوية لإنشاء أنظمة تتيح للمستخدمين التعرف على طريقة تفكير الوكلاء، وكيفية اتخاذهم للقرارات، والمصادر التي يستندون إليها، بالإضافة إلى تحديد مواضع الانحياز المحتملة في نتائجهم.

تغيير في نموذج الكفاءات وآليات العمل: تسارعت المؤسسات في الآونة الأخيرة إلى إطلاق برامج تدريبية لتأهيل موظفيها على استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي ووكلاء الذكاء الاصطناعي كأدوات مساعدة، وهو ما أسهم في تكوين قاعدة مهارية أولية داخل فرق العمل. غير أن التحول الحقيقي لا يقتصر على استخدام هذه الأدوات، بل يتطلب أن يمتلك الجميع القدرة على تطوير الوكلاء والإشراف عليهم. فالتعامل مع وكلاء الذكاء الاصطناعي باعتبارهم مجرد "أدوات إضافية" فوق العمل التقليدي لن يحقق النتائج المرجوة؛ إذ ينبغي أن يصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا مدمجًا في طريقة العمل ذاتها. بمعنى آخر، على كل موظف أن يتعامل مع الوكلاء كشركاء في الأداء، لا كوسائل تنفيذية فقط.

سيتطلب هذا التحول من قادة الموارد البشرية التركيز على بناء نموذج تشغيلي هجين يجمع بين الإنسان ووكلاء الذكاء الاصطناعي، بحيث يصبح التعاون بين الطرفين جزءًا أساسيًا من بيئة العمل المستقبلية. ويتضمن هذا النموذج تطوير مهارات جديدة داخل المؤسسة، مثل كيفية بناء الوكلاء واستخدامهم بفعالية، وتدريبهم على أداء المهام، وتحديد الأدوار التي يُكلفون بها، ومتابعة أدائهم وتصحيح أخطائهم، إضافة إلى القدرة على تنسيق عمل عدة وكلاء معًا لإنجاز مهام معقدة تتطلب تفاعلاً متعدد المستويات. ويمثل هذا التغيير في نموذج العمل، أي الطريقة التي سيُنفذ بها العمل في المستقبل، ركيزة أساسية لاستدامة عمليات التحول الرقمي وإعادة تصميم آليات العمل، كما يعد خطوة محورية لضمان نجاح تطبيق حلول وكلاء الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل.

وجزء أساسي من ترسيخ هذا التحول هو تعديل نظام إدارة الأداء وآليات التقييم ليتركز على ما يمكن تسميته بـ "إدارة الوكلاء". فنجاح المؤسسة لن يُقاس فقط بما ينجزه الأفراد بأنفسهم، بل بمدى كفاءتهم في العمل جنبًا إلى جنب مع وكلاء الذكاء الاصطناعي. وسيتطلب ذلك إعادة تصميم مؤشرات الأداء الرئيسية بحيث ترتبط بمدى فعالية التعاون بين الإنسان والوكيل، مثل عدد المهام التي أُنجزت بمشاركة الوكلاء، وجودة المخرجات الناتجة عن هذا التعاون، ومستوى التكامل بين الأداء البشري والآلي في تحقيق أهداف العمل وغيرها.

العام الثاني والثالث: توسيع نطاق التطبيق على مستوى المؤسسة

تركّز السنة الثانية من رحلة تبنّي وكلاء الذكاء الاصطناعي على نقل التجربة من نطاق محدود إلى تطبيق واسع داخل المؤسسة، مع التحوّل من قياس نشاط الوكلاء إلى تقييم أثرهم الفعلي على الأداء المالي وربحية الأعمال. وخلال هذه المرحلة، لا يكفي مجرد دمج الوكلاء في العمليات التشغيلية القائمة، بل يجب أن تبدأ الشركات في إعادة تصميم مسارات العمل وتجارب العملاء لتصبح قائمة على الوكلاء منذ البداية. فبدل أن يكون الوكلاء جزءًا مضافًا إلى النظام، يصبحون المحرك الأساسي الذي يعيد تشكيل طريقة إنجاز المهام وتقديم القيمة. هذه النقلة هي ما يحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة مساعدة إلى عنصر جوهري في منظومة العمل، يربط بين الكفاءة التشغيلية والنمو الاستراتيجي للمؤسسة.

خلال العامين الثاني والثالث، ينبغي على المؤسسات متابعة مجموعة من العلامات التي تعكس مدى تطورها في دمج وكلاء الذكاء الاصطناعي ضمن عملياتها كما يلي:

  • وصول أول نموذج رائد لوكلاء الذكاء الاصطناعي لمرحلة التحول الفعلي: في هذه المرحلة، تصل أول نسخة تجريبية أعيد تصميمها اعتمادًا على وكلاء الذكاء الاصطناعي والتي أُطلقت في السنة الأولى إلى مستوى من النضج يسمح بتوسيع نطاقها على مستوى المؤسسة، مع تحقيق أكثر من 90 في المئة من الأتمتة في العمليات المستهدفة. وتتميز التفاعلات التي يديرها الوكلاء بكفاءة عالية ودرجات مرتفعة من رضا العملاء في المهام الروتينية، إضافة إلى قدرتهم على تحويل الحالات المعقدة إلى الموظفين المعنيين بسلاسة ودون تعطيل سير العمل، مما يحقق توازنًا مثاليًا بين الذكاء الاصطناعي والخبرة البشرية.
  • توسّع الأتمتة المعتمدة على وكلاء الذكاء الاصطناعي في مجالات القيمة الأساسية: تشهد المؤسسة في هذه المرحلة تطبيق وكلاء الذكاء الاصطناعي في نحو 90 في المئة من مجالات القيمة الرئيسية عبر مختلف وحداتها التشغيلية. وتتحول أنظمة الوكلاء من مجرد أداة لتحديث الأنظمة القائمة إلى النموذج التشغيلي الافتراضي الجديد الذي يُعتمد عليه في إدارة العمليات وتحسين الأداء. وبذلك، يصبح وكلاء الذكاء الاصطناعي جزءًا جوهرياً من البنية التشغيلية للمؤسسة، يقود الكفاءة ويعيد تعريف طريقة إنجاز العمل على مستوى شامل ومستدام.
  • بداية تآكل النماذج التشغيلية التقليدية القائمة على التقسيم الوظيفي: في هذه المرحلة، تبدأ المؤسسات بالتخلّي تدريجيًا عن النماذج القديمة التي تقوم على وظائف ثابتة وسلسلة عمل خطية، لتفسح المجال أمام نموذج تشغيلي ديناميكي تقوده فرق من وكلاء الذكاء الاصطناعي تحت إشراف بشري. وتشير التجربة إلى أن ما لا يقل عن خمس من أهم رحلات العملاء تصبح مدارة بالكامل تقريبًا بواسطة هؤلاء الوكلاء، الذين يتولّون بشكل متكامل تحليل سلوك العملاء، وتصميم العروض المخصصة، وإتمام عمليات البيع، ومتابعة خدمات ما بعد البيع. وفي الوقت نفسه، تصبح التفاعلات بين الوكلاء داخل المؤسسة، أو بين وكلاء الشركة ووكلاء يمثلون العملاء أو الموردين، ممارسة طبيعية وشائعة. وبهذا، تبدأ الحدود التقليدية بين الإدارات في التلاشي، ليحل محلها نموذج أكثر ترابطًا ومرونة، يجعل المؤسسة تعمل كوحدة متكاملة يقودها الذكاء الاصطناعي المدعوم بالبشر، لا مجرد مجموعة أقسام منفصلة تتبادل المهام.
  • تحوّل الموظفين إلى "قادة فرق للوكلاء": أصبح استخدام وكلاء الذكاء الاصطناعي هو الوضع الطبيعي الجديد داخل المؤسسات، حيث تجاوزت معدلات تبنّيهم 75 في المئة في جميع الوظائف الأساسية. ومع هذا التحول، لم يعد الموظفون يتعاملون مع الوكلاء كأدوات مساعدة فحسب، بل كـ "فرق رقمية" يعملون على قيادتها وإدارتها. فأغلب المتخصصين بات لديهم وكيل واحد على الأقل، بينما يدير الكثيرون بين ثلاثة إلى خمسة وكلاء يتولون مهام محددة لدعم عملهم اليومي، في حين يتمكن المستخدمون الأكثر تقدمًا من إدارة عشرات الوكلاء في الوقت نفسه. وهكذا، يتحول الدور البشري من التنفيذ المباشر إلى الإشراف والتنسيق والتوجيه، في نموذج عمل جديد يقوم على التعاون الذكي بين الإنسان والآلة
  • تغيّر ملحوظ في نسبة عدد الوكلاء إلى الموظفين بدوام كامل: تشهد المؤسسات تحولًا كبيرًا في هيكل القوى العاملة، إذ ارتفعت نسبة وكلاء الذكاء الاصطناعي إلى الموظفين بشكل واضح. وأصبحت موثوقية أداء الوكلاء في المهام الأساسية والمتوسطة عالية، وإن ظل الإشراف البشري ضروريًا لضمان الدقة وجودة النتائج. ومع هذا التحول، تشهد العديد من المجالات تحديثًا وظيفيًا شاملًا، حيث يمكن أن تنخفض الحاجة إلى الموظفين في دورة تطوير البرمجيات بنسبة تتراوح بين 30 و40 في المئة، بينما ينخفض عبء العمل في أقسام التخطيط المالي والتقارير بما يصل إلى 75 في المئة.

مع نضوج قدرات الشركة في مجال وكلاء الذكاء الاصطناعي، سيحتاج تركيز الرئيس التنفيذي إلى الانتقال نحو تغييرات تنظيمية وتشغيلية أعمق.

إعادة تصور القيمة وتصميم مسار التحول: رغم أهمية البرامج الأولية التي تركز على خفض التكاليف واكتساب الخبرة، فإن على الرؤساء التنفيذيين في هذه المرحلة التحول من التفكير في التوفير إلى السعي نحو تحقيق قفزات إنتاجية وقيمية تتجاوز 50 في المئة. ويتطلب ذلك استعدادًا حقيقيًا لإعادة النظر في كل ما تقوم به المؤسسة، من عملياتها التشغيلية إلى نماذج أعمالها وأساليب اتخاذ القرار فيها. فهذه المرحلة لا تتعلق بمجرد تحسين الكفاءة، بل بإعادة تخيل الطريقة التي تُدار بها الأعمال وكيف يمكن لوكلاء الذكاء الاصطناعي أن يصبحوا محركًا لخلق قيمة جديدة تتجاوز حدود الممكن التقليدي، لتصنع مؤسسة أكثر ابتكارًا ومرونة وقدرة على المنافسة في المستقبل.

في هذه المرحلة، يحتاج الرؤساء التنفيذيون إلى طرح أسئلة جوهرية حول مستقبل نماذج أعمالهم في عالم أصبح فيه لوكلاء الذكاء الاصطناعي دور محوري. عليهم أن يحددوا بوضوح أي أجزاء من نموذج العمل الحالي يمكن أن تظل قادرة على المنافسة والصمود، وأي جوانب يمكن أن تستفيد من ابتكارات قائمة على الوكلاء لتوليد تجربة مختلفة ومميزة تضمن للشركة تفوقًا طويل الأمد. كما يصبح من الضروري تكوين رؤية واضحة حول مصادر التميّز المستقبلية، لأنها هي التي ستوجّه القرارات الاستراتيجية الكبرى: هل من الأفضل أن تطور الشركة قدراتها بنفسها، أم أن تشتري حلولًا جاهزة، أم أن تبني شراكات ذكية؟ كذلك تساعد هذه الرؤية على تحديد ما يجب حمايته من بيانات وملكية فكرية وأصول معرفية لضمان احتفاظ المؤسسة بأفضليتها التنافسية في عالم يتغير بسرعة ويتّسع فيه دور الذكاء الاصطناعي يومًا بعد آخر.

وكجزء من برنامج إعادة التصور السريع، يمكن للرؤساء التنفيذيين الذين يمتلكون عقلية منفتحة على التجربة والتعلم السريع من خلال وكلاء الذكاء الاصطناعي أن يحققوا مكاسب استراتيجية كبيرة. فعند تشغيل الوكلاء ضمن بيئات رقمية تحاكي الواقع، سيكون بإمكانهم اختبار نطاق واسع من العمليات والتطبيقات والعروض بسرعة وكفاءة وبتكلفة منخفضة. وما يميز هذه التجارب أن نتائجها الناجحة يمكن تطبيقها فورًا تقريبًا، لأن الوكلاء قادرون على تنفيذ التغييرات مباشرة دون الحاجة إلى دورات إدارة تغيير معقدة أو مكلفة. ومع ارتفاع مستوى الأتمتة في سير العمل، تنخفض تكاليف التغيير بشكل ملحوظ، مما يمنح الشركات قدرة غير مسبوقة على التطوير المستمر والتكيف السريع مع متغيرات السوق.

في إطار هذا التحول السريع، سيحتاج الرؤساء التنفيذيون إلى إعادة التفكير في الميزانيات ونماذج الأعمال والاستثمارات بما يتماشى مع المتغيرات التي تفرضها اقتصاديات وكلاء الذكاء الاصطناعي. فمع تقدم هذه التقنية، ستشهد المؤسسات تحولًا جذريًا في التوازن بين عدد الموظفين وعدد الوكلاء، حيث ستتجه الاستثمارات تدريجيًا من التركيز على القوى العاملة البشرية إلى التركيز على التكنولوجيا والبنية الرقمية. وللتعامل مع هذه المرحلة بفعالية، سيكون من الضروري أن يتعاون الرؤساء التنفيذيون مع المديرين الماليين ومديري الموارد البشرية لتطوير نموذج متكامل لإدارة القدرات المالية والبشرية، يتيح لهم إعداد الميزانيات بشكل أكثر دقة، وتتبع الإنفاق، وتوزيع الموارد بين التكنولوجيا والأفراد بطريقة تضمن تحقيق أقصى قيمة ممكنة من الاستثمار في وكلاء الذكاء الاصطناعي.

توسيع نطاق التحول: مع امتداد سير العمل وتجارب العملاء المعتمدة على وكلاء الذكاء الاصطناعي عبر مختلف الوظائف داخل المؤسسة، ستفقد النماذج التنظيمية التقليدية معناها تدريجيًا. فالإصرار على التمسك بتلك الهياكل القديمة أو محاولة بناء أنظمة قائمة على الوكلاء تعكسها سيؤدي في النهاية إلى عرقلة التوسع الحقيقي وإبطاء قدرة المؤسسة على النمو. فنجاح التحول يعتمد على التحرر من التقسيمات المتأصلة بين الإدارات، واعتماد نموذج أكثر انسيابية يربط بين المهام والوظائف ضمن منظومة ذكية متكاملة يقودها الذكاء الاصطناعي.

بدلًا من التمسك بالهياكل التنظيمية التقليدية، سيكون من الضروري إعادة توجيه الأعمال نحو تحقيق النتائج وتصميم المؤسسة المعتمدة على وكلاء الذكاء الاصطناعي بما يتماشى مع تلك الأهداف. يمكن أن يقوم أحد النماذج الناجحة على تنظيم الفرق البشرية والوكلاء معًا حول مسارات القيمة مثل تجربة انضمام العملاء الجدد أو عمليات البيع الأولى لهم. غير أن الانتقال إلى هذا النموذج لن يكون بسيطًا، إذ يتطلب قرارات صعبة ومفاضلات دقيقة تتعلق بالحوكمة وتوزيع المسؤوليات، مثل تحديد الجهة المسؤولة عن إدارة كل مسار من مسارات القيمة، إضافة إلى الحاجة للاستثمار في آليات متقدمة لمتابعة أداء الوكلاء وقياس نتائجهم. فالتوسع في هذا الاتجاه لا يقتصر على إعادة هيكلة الفرق، بل يستلزم بناء نظام إداري جديد يربط الأداء بالنتائج الفعلية ويضمن التكامل الكامل بين الإنسان والذكاء الاصطناعي داخل المؤسسة.

ستتطلب هذه الجوانب من الرؤساء التنفيذيين الحرص على ألا يؤدي تطبيق نموذج المؤسسة القائمة على الوكلاء إلى حالة من الفوضى التنظيمية. فعلى سبيل المثال، إذا بدأت الأقسام المختلفة أو الفرق المستقلة في تطوير وكلاء متنافسين دون تنسيق، فقد يؤدي ذلك إلى تضارب في الأدوار، وتشويش في سير العمل، بل وقد يعرّض الشركة لمخاطر جديدة تتعلق بالأمن، والحوكمة، واتساق القرارات. ومن ثم، يصبح من الضروري وضع إطار موحد لإدارة تطوير الوكلاء واستخدامهم، يضمن التكامل والتعاون بين الفرق بدل التكرار والتعارض، ويحافظ على وضوح الأهداف والمسؤوليات داخل المؤسسة.

المواهب ونموذج العمل: تشير أبحاث ماكنزي إلى أن ما يصل إلى 30 في المئة من ساعات العمل الحالية يمكن أتمتتها بحلول عام 2030، مع احتمال أن تكون النسبة الفعلية أعلى من ذلك بكثير. وسيؤدي هذا التحول إلى إعادة تشكيل جوهر العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا داخل المؤسسات، حيث ستتغير نسبة الاعتماد على العنصر البشري مقابل الأنظمة الذكية بشكل جذري. ومع توسّع دور وكلاء الذكاء الاصطناعي، ستنشأ نماذج عمل جديدة تقوم على التفاعل بين الوكلاء بعضهم بعضًا، وكذلك بين الإنسان والوكيل، في بيئة عمل هجينة يتشارك فيها الطرفان المهام والمسؤوليات لرفع الكفاءة وتحقيق نتائج أسرع وأكثر دقة.

سيحتاج الرئيس التنفيذي بالتعاون الوثيق مع رئيس إدارة الموارد البشرية، إلى تحديد شكل القوى العاملة الجديدة التي تجمع بين البشر ووكلاء الذكاء الاصطناعي، ووضع تصور واضح لكيفية تطور القدرات والمهارات المطلوبة مع نضوج أداء الوكلاء. كما سيكون عليهما دراسة أفضل السبل لإعادة توظيف الطاقات البشرية التي سيتم تحريرها نتيجة الأتمتة، سواء من خلال تطوير مهارات جديدة أو توجيه الموظفين نحو مجالات تتطلب الإبداع والتحليل والتفاعل الإنساني. فإدارة هذا التوازن بين الإنسان والوكيل ستكون من أهم عوامل نجاح التحول في بيئة العمل المستقبلية.

ونظرًا لسرعة التغيرات المتسارعة التي تشهدها بيئة العمل، ستحتاج أنظمة الموارد البشرية إلى إعادة ضبط شاملة تتيح مراجعة مستمرة للوظائف والأدوار داخل المؤسسة، بهدف تحديد المهارات التي يجب تطويرها، وتلك التي ينبغي استحداثها أو الاستغناء عنها. كما سيتعيّن على إدارات الموارد البشرية إدارة وتيرة متزايدة من برامج التطوير والتأهيل المهني لضمان مواكبة الموظفين للتحول الرقمي القائم على وكلاء الذكاء الاصطناعي. وسيستلزم ذلك أيضًا إعادة تصميم منظومة العمل بالكامل، بما في ذلك توزيع الأفراد على المهام، وهيكل المسارات المهنية، وأنظمة تقييم الأداء والحوافز وآليات التقارير الإدارية، بحيث تتماشى مع متطلبات نموذج التشغيل الجديد القائم على التعاون بين الإنسان والوكلاء.

يشمل ذلك، على سبيل المثال، دمج مؤشرات أداء خاصة بإدارة الوكلاء ضمن تقييمات الأداء الوظيفي، واستحداث أدوار جديدة تتماشى مع طبيعة بيئة العمل القادمة، مثل "منسق الوكلاء" الذي يتولى توجيه عمل الوكلاء وضمان تكاملهم، و"مدرب الوكلاء" المسؤول عن تحسين أدائهم وتحديث مهاراتهم باستمرار. كما ينبغي ربط مسار الترقي الوظيفي بمدى كفاءة الموظف في أداء هذه الأدوار الجديدة، وقدرته على إدارة فرق مختلطة تضم البشر ووكلاء الذكاء الاصطناعي معًا، بما يعكس التوازن المطلوب بين القيادة البشرية والتشغيل الذكي.

ومع توسّع انتشار وكلاء الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسة، سيصبح تأثيرهم ملموسًا في جميع جوانب العمل دون استثناء، من العمليات اليومية إلى القرارات الاستراتيجية طويلة المدى. وسيتعين على الرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارة العمل بوتيرتين متوازيتين: الأولى تركز على تحقيق التحول الفعلي على المدى القصير لضمان سرعة التكيف، والثانية تنظر إلى الآثار البعيدة المدى لهذا التحول لضمان استدامته وتناغمه مع أهداف الشركة المستقبلية.

ويمكن أن تساعد الأسئلة التالية الرؤساء التنفيذيين وأعضاء مجالس الإدارة على التفكير بعمق في الآثار طويلة المدى لتحوّل مؤسساتهم إلى نموذج أعمال قائم على وكلاء الذكاء الاصطناعي:

  • كيف ستؤثر وكلاء الذكاء الاصطناعي في نموذج أعمالنا؟ وهل سيُضعف مصادر تميّزنا الحالية أم سيساعدنا على خلق مزايا جديدة؟ وما الاستراتيجيات التي يمكننا تبنّيها لحماية أسواقنا الحالية والتوسع في أسواق جديدة؟
  • كيف يمكن لوكلاء الذكاء الاصطناعي أن يغيّروا طبيعة أعمالنا الأساسية وعلاقاتنا مع العملاء والموردين والشركاء؟ وهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقليص دور الوساطة أو إعادة تشكيل سلسلة القيمة بطرق غير متوقعة؟
  • كيف يمكنني الاستعداد لتشكيل وإدارة القوى العاملة الجديدة التي تضم وكلاء الذكاء الاصطناعي جنبًا إلى جنب مع الموظفين، مع الحفاظ في الوقت نفسه على قيم الشركة وثقافتها المؤسسية؟
  • كيف يمكننا إدارة الانتقال إلى نموذج تشغيلي هجين يجمع بين الإنسان ووكلاء الذكاء الاصطناعي، في وقت أصبحت فيه سير العمل يتجاوز الحدود الوظيفية التقليدية داخل المؤسسة بشكل متكامل وسلس؟
  • ما هي استراتيجيتنا لإدارة المواهب، وكيف يمكن أن توجهنا لتحديد النسبة المثلى بين الكفاءات الداخلية والقدرات المستعان بها من الخارج؟ وما هو التوازن الأنسب بين استخدام التقنيات مفتوحة المصدر، أو التعامل مع مزودين متعددين، أو الاعتماد على منصة واحدة، بما يحقق أعلى قدر من المرونة والقيمة التشغيلية للمؤسسة؟
  • كيف ينبغي أن تبدو خريطة طريق التحول والاستثمار في المؤسسة بحيث توازن بين تحقيق الأهداف القصيرة المدى للأعمال، وبين بناء الأسس الصحيحة اللازمة لتطوير مسار التحول وتوسيعه على المدى الطويل؟

وأخيراً، قد تكون عبارة "وتيرة التغيير" من أكثر المصطلحات تكرارًا في عالم الأعمال، لكنها تكتسب اليوم معنى جديدًا وإلحاحًا غير مسبوق مع ظهور وكلاء الذكاء الاصطناعي. فرغم حالة الغموض التي ما زالت تحيط بهذه التقنية، فإن على القادة ألا يسمحوا لها بأن تعيق حركتهم أو تبطئ قراراتهم. على العكس، إن التحرك السريع والمدروس هو السبيل الوحيد لتبديد هذا الغموض وبناء مؤسسات قائمة على وكلاء الذكاء الاصطناعي قادرة على فتح آفاق جديدة للإنتاجية والنمو. فالمستقبل لن ينتظر المترددين، بل سيكافئ أولئك الذين يبادرون إلى استيعاب هذا التحول وصياغة مستقبلهم من خلاله.

Explore a career with us