أسهمت أزمة كوفيد-19 واضطرابات سلاسل التوريد والتغيرات المناخية في زيادة أسعار الغذاء، وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليُفاقم هذه الضغوط في نهاية شهر فبراير الماضي. وأدى استمرار الحرب في منطقة البحر الأسود إلى زيادة مستويات المخاطر المحيطة بالأمن الغذائي العالمي، حيث تشكّل المنطقة إحدى سلال الخبز العالمية الست ومركزًا مهمًا لتوريدات وإمدادات القمح والأسمدة.
وأفضى الاتفاق المُّوقع يوم 22 يوليو، والذي يسمح بعبور 20 مليون طن من الحبوب العالقة في موانئ البحر الأسود، إلى حالة من الارتياح النسبي في الأسواق، ما ساهم في عودة أسعار بعض أنواع الحبوب إلى المستويات التي كانت عليها قبل الغزو الروسي. ولكن على الرغم من هذا التحول الإيجابي في الأحداث، تظهر مؤشرات على تنامي مستويات المخاطر بفعل الاضطرابات المباشرة والتحديات بعيدة المدى. وتشمل المخاوف على المدى القريب حالة عدم اليقين المرتبطة بنتائج اتفاقية الحبوب، على الرغم من دورها في التخفيف من بعض المشكلات اللوجستية في الموانئ. كما تعاني سلاسل التوريد من اختناقات داخلية كبيرة وتعقيدات أخرى قد تتسبب باستمرار صعوبات توصيل الحبوب إلى العملاء. وفي حال لم يتم تخزين كمية الحبوب المشمولة بالاتفاقية، والبالغة حوالي 20 مليون طن، وفق الشروط المطلوبة خلال فترة تخزينها في صوامع الحبوب الأوكرانية، والتي وصلت إلى 5 - 6 أشهر، فمن الممكن أن تتراجع جودة هذه الحبوب إلى حد كبير بحيث تصبح غير قابلة للاستهلاك البشري. وتشمل قائمة المخاوف أيضًا توقعاتنا التي تشير إلى انخفاض محصول القمح الأوكراني لموسم 2022-2023 إلى ما دون مستوياته الاعتيادية بأكثر من 30 مليون طن، نتيجة تراجع المساحات المزروعة وانخفاض توافر مستلزمات الإنتاج (بالإضافة إلى احتمال عدم حصاد بعض المساحات المزروعة بالحبوب).
وتتزامن هذه المخاوف مع التحديات طويلة المدى التي بدأت في مطلع العام 2020 مع ظهور أزمة كوفيد-19، والتي أدت إلى اضطرابات في سلاسل التوريد. كما ساهمت السياسات النقدية والمالية الرامية للتخفيف من تداعيات الجائحة الصحية في زيادة أسعار السلع اعتبارًا من منتصف العام 2020. وحتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، ارتفعت أسعار القمح والذرة بنسبة تتراوح بين 40 إلى 50% مقارنة بمستوياتها خلال العقد الماضي. وأدى الحصار المفروض على موانئ البحر الأسود، نتيجة الحرب في أوكرانيا، إلى فرض قيود مشددة على توريدات الحبوب في عام 2022، وهو ما دفع الكثير من الدول نحو السعي لحماية أمنها الغذائي عن طريق تقليص صادراتها من الحبوب. ويُضاف إلى هذه العوامل موجات الحرّ التي ضربت الهند مؤخرًا، وموجات الجفاف الحالية في أوروبا الغربية، والتي قد تسهم بمجموعها في الحد من توريدات الحبوب إلى الأسواق العالمية بأكثر من 10 ملايين طن، وتقدم مثالًا حيًا على المخاطر العالية التي تحيط بالسلع الغذائية نتيجة تداعيات التغير المناخي. وعلى الرغم من الانخفاض الأخير في أسعار الحبوب، فقد بقيت أسعار الأسمدة الزراعية مرتفعةً، ما دفع بعض المزارعين إلى تقنين كمياتها المستخدمة بالتوازي مع مؤشرات تراجع أسعار الحبوب.
وعند دراسة الظروف التي أدت إلى أزمة الغذاء العالمية بين عامي 2007- 2008، وارتفاع أسعار الأغذية الذي أسهم في انطلاق اضطرابات الربيع العربي بين عامي 2010-2011، نجد بأن نظام الغذاء العالمي يواجه مستويات مخاطر أعلى في الوقت الحالي.
ويعادل هذا العجز الكبير كميات الغذاء اللازمة لحوالي 250 مليون شخص على مدى عام كامل، أي ما يساوي 3% من التعداد السكاني العالمي. وبالإضافة إلى المعاناة الإنسانية الناجمة عن هذا العجز، تشير أزمات الغذاء الأخيرة إلى وجود مجموعة أخرى من العواقب المحتملة التي تسهم في زعزعة الاستقرار.
ونستعرض فيما يلي رؤيتنا الخاصة بأبعاد أزمة الغذاء الحالية المتنامية ودائمة التغيّر:
- تراجعت الصادرات خلال العام الحالي نتيجة المعوقات اللوجستية في أوكرانيا والقيود التي فرضتها الدول الأخرى على صادرات الحبوب.
- قد يكون العام القادم أسوأ من الحالي، إذ تشير توقعاتنا إلى انخفاض مستويات إنتاج الحبوب في أوكرانيا بنسبة تتراوح بين 35 إلى 45 خلال موسم الحصاد التالي، والذي يبدأ في شهر يوليو المقبل.
- قد تعاني بعض الدول أكثر من غيرها، ويمكن أن نشهد تداعيات أكثر وضوحًا مقارنةً بأزمات الغذاء المشابهة الأخيرة.
- يمكن أن يسهم العمل بسرعة للحد من تداعيات الأزمة في تجنب الوصول إلى أسوأ النتائج، إلا أن إمكانية تحقيق هذا الهدف تتضاءل مع مرور الوقت.
ويؤدي النزاع في أوكرانيا إلى اضطراب الركائز الأساسية التي يقوم عليها نظام الغذاء العالمي، والذي يعاني بالفعل من حالة عدم الاستقرار. ويصعب حاليًا الوصول إلى فهم كامل حول الأحداث الحالية والمستقبلية وتحديد الجهات الأكثر تأثرًا والخطوات الممكنة للتخفيف من تداعيات الأزمة. لذا من الضروري اتخاذ إجراءات حاسمة وتعزيز مستويات التعاون بهدف إدارة الظروف الراهنة وتحقيق أفضل النتائج الممكنة.
الصادرات تراجعت خلال العام الحالي نتيجة المعوقات اللوجستية في أوكرانيا والقيود التي فرضتها الدول الأخرى على صادرات الحبوب
تواجه توريدات الغذاء العالمية حاليًا عقبتين أساسيتين هما انخفاض حجم الصادرات من أوكرانيا، وروسيا إلى حد ما، والتأثيرات غير المباشرة التي يمكنها زيادة المعوقات المفروضة على التوريدات العالمية. وتعود غالبية أسباب العجز الحالي في الصادرات إلى تراجع القدرة على نقل الحبوب المخزنة في الصوامع إلى خارج منطقة البحر الأسود. وإذا تم الالتزام ببنود الاتفاقية الموقعة على أكمل وجه، فمن الممكن تخفيف الكثير من المشاكل على المدى القصير، رغم أن تحقيق هذه النتائج المُثلى ليس مؤكدًا على الإطلاق.
حجم الصادرات العالمية يسجل انخفاضًا ملحوظًا
تشكل ست مناطق المصدر الرئيسي لمعظم واردات الحبوب العالمية، وتمثل أوكرانيا وروسيا إحدى هذه المناطق، حيث تنتجان معًا حوالي 28% من محصول القمح و15% من محصول الذرة العالمية (الشكل 1). وشهدنا خلال الفترة الماضية حدوث انخفاض مفاجئ في حجم الصادرات العالمية من الحبوب نتيجة إغلاق موانئ البحر الأسود، ونشر الألغام على طول طرق الشحن، ومحدودية مسارات الشحن البديلة. وواجهت إمدادات القمح والذرة التي نُقلت من أوكرانيا باستخدام السكك الحديدية أو الشاحنات اختناقات لوجستية كثيرة، بما في ذلك اختلاف قياسات خطوط السكك الحديدية بين أوكرانيا والدول المجاورة لها، والنقص الحاصل في عربات السكك الحديدية، إضافة إلى قدرات الشحن المحدودة في الموانئ البولندية والرومانية. وعلى الرغم من أن الاتفاقية الأخيرة تتيح إمكانية تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية الرئيسية على البحر الأسود، من المرجح أن يبقى الوضع هشًا ومتقلبًا.
وأدت المعوقات اللوجستية وحدها إلى انخفاض حجم الصادرات من أوكرانيا بنحو 16 إلى 19 مليون طن متري، ومن 2 إلى 3 ملايين طن متري من روسيا، مع إمكانية ازدياد حجم الصادرات إذا بدأ تدفق الحبوب بكميات كبيرة من موانئ البحر الأسود. ويشّكل انخفاض صادرات الدولتين من الحبوب 5% من إجمالي الحبوب التي يتم تداولها عالميًا، والتي يبلغ حجمها 400 مليون طن متري. ورغم أن هذا الانخفاض قد يبدو صغيرًا نسبيًا، إلا أنه قد يكون كافيًا لحدوث اضطرابات كبيرة في دورة السلع التي تستمر لمدة عامين، لأنه يفرض الحاجة إلى توقيع عقود شراء جديدة، ويؤدي إلى زعزعة الثقة بمستويات سيولة السوق، الأمر الذي قد يدفع بعض الدول لزيادة احتياطاتها من الحبوب.
وتشير التوقعات إلى انخفاض التوريدات خلال موسم الزراعة القادم، نتيجةً لتعطيل عمليات الزراعة والحصاد في أوكرانيا بسبب الحرب، بالإضافة إلى عدم كفاية مستلزمات الإنتاج الزراعي في روسيا والبرازيل وغيرهما من الدول المنتجة الأخرى. ونتوقع بأن تؤدي هذه العوامل إلى عجز يتراوح بين 23 إلى 40 مليون طن متري من الحبوب التي يتم تداولها عالميًا في عام 2023 (الشكل 2). ويمكن تقليص مستويات العجز إذا تم احترام الاتفاقيات، وازداد حجم الصادرات من أوكرانيا عن طريق البحر الأسود. بينما يتمثل أكثر السيناريوهات تشاؤُمًا في بقاء الموانئ الأوكرانية متوقفة لفترة طويلة، واستمرار محدودية سيولة المزارعين وعدم قدرتهم على الوصول إلى المستلزمات الزراعية، وكذلك تراجع المساحات المزروعة.
تعرضت إمدادات الحبوب أيضًا لضغوط إضافية من جانب الدول التي حاولت حماية أسواقها المحلية من خلال فرض قيود على الأنشطة التجارية. وتم إصدار حوالي 40 قرارًا يفرض حظرًا أو قيود ترخيص جديدة على الصادرات خلال الفترة بين بداية الحرب وشهر مايو 2022. وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات قد تعود ببعض المكاسب على الدول التي تقوم باتخاذها، إلا أن التجارب السابقة تبيّن بأن مثل هذه الخطوات تتسبب بضغوط إضافية على مخزونات الأغذية المتاحة، فضلًا عن زيادة الأسعار، ومفاقمة التهديدات المحدقة بالأمن الغذائي للدول الفقيرة حول العالم.
ولاحظنا تراجع التأثيرات السلبية لهذه الإجراءات إلى حدٍ ما، ويمكن خفضها بشكل أكبر من خلال زيادة الصادرات، حيث تشير التوقعات إلى نجاح بعض المناطق بتحقيق زيادات قياسية في المحاصيل، بالإضافة إلى سعي عدد من الدول للاستفادة من زيادة الأسعار عن طريق بيع جزء من مخزونها الاحتياطي من الحبوب. ولكن يبقى التأثير الإيجابي لهذه الإجراءات غير واضح بعض الشيء، لأنها تتسم بطابع طوعي وتكون مدفوعة بمتغيرات السوق والتوجهات السياسية.
العام القادم قد يكون أسوأ من الحالي
قد تتعرض إمدادات الغذاء العالمية لمزيد من الأضرار مع نهاية العام الحالي وطوال العام القادم. وقد أدت المشاكل اللوجستية التي شهدناها خلال هذا العام إلى تراجع حجم الصادرات الأوكرانية والروسية من الحبوب بمقدار يتراوح بين 18 إلى 22 مليون طن متري. ويحول النزاع المستمر دون قدرة المزارعين على تهيئة حقولهم، وزراعة البذور، وحماية المحاصيل وتسميدها، الشيء الذي سيؤدي بدوره على الأرجح إلى انخفاض كميات الحبوب التي يتم حصادها في الموسم القادم. كما يمكن التعويض عن هذا العجز بالاعتماد على نجاح اتفاقيات التصدير عبر البحر الأسود، بالإضافة إلى تحسّن الظروف اللوجستية وغيرها من الإجراءات الإيجابية الأخرى. ولكن ثمة عوامل كثيرة تلقي بظلالها على هذه التوقعات، تشمل تأثيرات الجفاف على سلال الخبز العالمية، والذي نتوقع أن يتفاقم بمرور الوقت.
التوقعات تشير إلى تراجع إنتاج أوكرانيا وصادراتها القادمة من الحبوب إلى أدنى مستوى لها خلال السنوات العشر الماضية
استنادًا إلى البيانات المحلية والمقابلات التي أجريناها مع المزارعين، قمنا بإعداد نماذج توضيحية عن كميات الإنتاج المحتملة ضمن المناطق المختلفة في أوكرانيا. وتشير توقعاتنا إلى انخفاض مستويات إنتاج الحبوب في أوكرانيا بنسبة تتراوح بين 35 إلى 45% خلال موسم الحصاد المقبل. وتتمثل الأسباب الرئيسية في ذلك بتراجع مساحات الحصاد نتيجة للعمليات العسكرية المستمرة والألغام الأرضية، ونقص السيولة المالية للمزارعين (بسبب عدم القدرة على شحن وبيع أقسام كبيرة من محصول العام الماضي)، وتراجع كميات المحاصيل بسبب تراجع وصول المزارعين إلى الأسمدة، إضافة إلى اضطراب توقيت عمليات الزراعة والحصاد، وتراجع استخدام المواد والتقنيات المتقدمة في حماية المزروعات، والتأثيرات السلبية لارتفاع أسعار المحروقات والأسمدة.
وعلاوة على المشكلات الخاصة بالعمليات الزراعية، لا يزال المزارعون يواجهون تحديات تتعلق بالمتطلبات اللوجستية لعمليات التصدير. ونتيجةً لهذه العوامل مجتمعة، من المرجح أن تنخفض الصادرات الأوكرانية بكميات إجمالية تتراوح بين 30 إلى 44 مليون طن متري خلال موسم التسويق 2022-2023 بالمقارنة مع مستوياتها قبل الحرب.
الأحداث التي تشهدها دول أخرى قد تسبب مزيدًا من الانخفاض في حجم التبادلات التجارية العالمية
على الرغم من الترجيحات التي تشير إلى وفرة المحاصيل الروسية خلال موسم الصيف والخريف الحالي، فمن المحتمل أن تواجه هذه المحاصيل انخفاضًا في المواسم القادمة نتيجة للقيود التجارية العالمية المفروضة عليها. فقد تُفرض قوانين حظر استيراد على البذور المهجنة، ومنتجات حماية النباتات من الآفات الزراعية، بالإضافة إلى الآليات والبرمجيات الزراعية بدرجة أقل، ما يؤثر بالدرجة الأولى على إنتاج القمح.
ومن المتوقع أيضًا أن يؤدي نقص الأسمدة وارتفاع أسعارها إلى تراجع إنتاج الحبوب في الدول التي تعتمد بشكل كبير على استيراد الأسمدة، مثل البرازيل؛ والذي سيؤدي بدوره إلى تراجع كميات الحبوب في الأسواق العالمية.
كما تؤثر ممارسات الدول المصدرة الأخرى على إمدادات الحبوب العالمية زيادةً أو نقصًا. إذ يؤدي استمرار أو تشديد القيود التجارية إلى تفاقم نقص وندرة الإمدادات الغذائية العالمية؛ بينما تسهم زيادة المحاصيل وتقليص احتياطيات الدول من الحبوب في التخفيف من تأثيرات النقص الحاصل. وتؤثر التغيرات المناخية أيضًا على هذا التوازن الدقيق. وفي الواقع يصعب معرفة أي من هذه السيناريوهات المختلفة سيتحقق فيما بعد.
قد تصبح التداعيات أكثر وضوحًا مما كانت عليه في أزمات الغذاء المشابهة التي شهدناها مؤخرًا
نواجه ظروفًا جديدة تشهد فيها سلوكيات المستهلكين تحولات جذرية، ما يؤدي إلى ارتفاع مستويات الطلب العالمية على المواد الغذائية الغنية بالبروتينات والوقود الحيوي، في نفس الوقت الذي تفرض فيه التغيرات المناخية مزيدًا من المخاطر على القطاع الزراعي. إذ يزداد ترابط مختلف الأجزاء المكونة لسلسلة توريد الغذاء مع زيادة الاعتماد على العمليات التجارية، بالتوازي مع تراجع المخزونات وتركّزها في عدد قليل من الدول. وتقترب أسعار النفط والأسمدة والتكاليف اللوجستية والقيود التجارية من أعلى مستوياتها خلال السنوات العشر الماضية، كما تؤثر التغيرات المناخية سلبًا على المحاصيل.
وتتمتع بعض الدول بظروف تمكّنها من مواجهة الاضطرابات من خلال اعتماد منهجية تتطلب تحقيق توازن دقيق. بينما تُعتبر دول أخرى أقل حظًا، حيث تضم الدول المعرضة بشدة للأزمات الغذائية 18% من تعداد سكان العالم، و41% من سكان العالم الذين يعانون من سوء التغذية. ووصل عدد الأشخاص الذين يعانون من سوء أو نقص التغذية حول العالم إلى 811 مليون نسمة خلال عام 2020.
التأثيرات تختلف من دولة لأخرى وقد تحمل تداعيات كارثية على بعض الدول
يؤثر ارتفاع أسعار الغذاء على جميع الدول دون استثناء، وتختلف تداعيات هذا الارتفاع بين دولة وأخرى (الشكل 3). وتتمتع بعض الدول، مثل الصين والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بقدرة جيدة على مواجهة هذه المخاطر، بسبب امتلاكها قدرات إنتاج كبيرة، ومخزونات غذائية ضخمة، وقدرات شراء عالية.
بالمقابل، ثمة عدد كبير من الدول المعرضة بشدة للأزمات الغذائية، مثل بنغلادش وإثيوبيا والصومال واليمن، والتي تعتمد في غذائها بدرجة كبيرة على واردات الحبوب، ولديها مخزونات محدودة منها، وقدرتها الشرائية منخفضة جدًا. وقد يترتب على ارتفاع أسعار الغذاء تأثيرات كارثية على هذه الدول. وتضم هذه المناطق أكثر من 1.4 مليار نسمة، يتوزع معظمها على قارتي آسيا وأفريقيا، وقد يرتفع هذا الرقم إلى 1.9 مليار نسمة في حال استمر نقص الإمدادات الغذائية العالمية واستنفدت هذه الدول مخزونها الاحتياطي.
ويبدو المشهد أكثر سوداوية بالنظر إلى قدرة بعض الدول على معالجة العواقب المالية والاجتماعية المترتبة على وضعيتها الضعيفة. فقد شهدت قيمة العملات المحلية في الكثير من الدول تراجعًا حادًا في عام 2022، مما أدى إلى زيادة تكاليف الواردات من السلع المقوّمة بالدولار الأمريكي (مثل القمح والزيوت) بالنسبة إلى سكانها. وتعاني هذه الدول فعليًا من عجز أكبر من المعتاد في الميزانية وارتفاع معدلات البطالة لأسباب تعود بمعظمها إلى تداعيات أزمة كوفيد-19. وقد تواجه هذه الدول أيضًا معدلات تضخم مرتفعة توازيًا مع تراجع الإمدادات الغذائية، ما يؤدي إلى تفاقم الضغوط على ميزانيتها عند محاولة حماية سكانها من تأثيرات ارتفاع أسعار الغذاء. بينما قد يُسفر إخفاقها في تحقيق هذا الهدف إلى زيادة معدلات سوء التغذية.
العواقب المحتملة
أدت حالات نقص الإمدادات الغذائية في الماضي إلى عواقب شملت ما يلي:
- التضخم: ترتفع أسعار السلع الاستهلاكية نتيجة لانخفاض العرض، وزيادة تكاليف المستلزمات وعمليات النقل، وتأثير عمليات المضاربة.
- الضغوط على الأنظمة المالية والضريبية: تزداد الضغوطات على الأنظمة المالية والضريبية لمعالجة تداعيات التضخم، وضمان توفير تداولات تجارية كافية، وتقديم الإعانات إلى الفئات التي تحتاجها بشدة. وغالبًا ما تواجه هذه الجهود معوقات تنتج عن زيادة معدلات الدَّين العام وتباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي.
- سوء التغذية والمجاعات: تزداد المعاناة الإنسانية، ولاسيما بالنسبة للفئات الأكثر ضعفًا، نتيجة لارتفاع الأسعار بالدرجة الأولى، وانخفاض الإمدادات الفعلية بدرجة أقل.
ويمكن أن تقود الظروف الحالية إلى حدوث تأثيرات مشابهة للأزمات الغذائية السابقة، بالإضافة إلى صعوبات اقتصادية واجتماعية أخرى. ولكن قد تعجز حكومات بعض الدول الضعيفة هذه المرة عن معالجة النقص الحاصل في الإمدادات، كما فعلت خلال الأزمات السابقة الأخرى، بما في ذلك اضطرابات الربيع العربي وأزمة كوفيد-19 (الشكل 4).
المخاطر التي تهدد النظام الغذائي قد تتجاوز في حجمها الأزمات المعاصرة
أثّرت أزمة كوفيد-19 سلبًا على ميزانيات الدول ومخزونها الاحتياطي من العملات الأجنبية، وأوصلت ديونها إلى مستويات قياسية جديدة، ما أضعف قدرتها على مواجهة ارتفاعات الأسعار. وتمثّل مشتريات الأغذية حصة أكبر من المعتاد من النفقات الاستهلاكية، بينما ارتفعت معدلات البطالة في الكثير من الدول. وإذا لم تتمكن الحكومات من التخفيف من وقع هذه الصدمة، فستكون الأسر فيها مجبرة على زيادة مخصصات الغذاء ضمن ميزانياتها. وبالتالي فإن حدوث انقطاع طفيف في الإمدادات قد يؤدي إلى اضطرابات كبيرة في أسعار الغذاء العالمية بحيث تعجز المجتمعات عن معالجة تداعياتها.
وعند دراسة الظروف التي أدت إلى أزمة الغذاء العالمية بين عامي 2007 2008، وارتفاع أسعار الأغذية الذي أسهم في انطلاق اضطرابات الربيع العربي بين عامي 2010-2011، نجد بأن نظام الغذاء العالمي يواجه مستويات مخاطر أعلى في الوقت الحالي.
التطبيق السريع لتدابير الحد من تداعيات أزمة الغذاء قد يسهم في تجنب الأسوأ
يمكن للجهات المعنية حول العالم اتخاذ إجراءات تسهم في تجنب حدوث أسوأ السيناريوهات المتوقعة. ويمكن خفض مستويات المخاطر على المدى القصير من خلال اتخاذ ثلاث خطوات أساسية هي:
- فتح الطرق اللوجستية في البحر الأسود وإزالة المخاطر المرتبطة بها
- تقليص القيود التجارية واستخدام المخزونات الاحتياطية، بهدف إعادة التوازن إلى الإمدادات العالمية، مع ضرورة التزام الدول المنتجة بزيادة إمدادات الحبوب المتاحة للتداول في الأسواق العالمية
- تقديم المساعدات المالية إلى المناطق والفئات السكانية الأكثر تأثرًا
يتوجب على الجهات المعنية التخطيط لتجنب الأزمات اللاحقة وأثناء دراسة سُبل التخفيف من تداعيات الأزمة الحالية، كما يتعين على الحكومات والجهات الفاعلة في سلاسل القيمة الزراعية الغذائية تحسين طريقة إدارة صدمات العرض والطلب. وفيما يتعلق بالمرونة، فهي تكتسب أهمية كبيرة عند مواجهة المخاطر المتعددة، ولاسيما توازيًا مع دور التغير المناخي في إحداث المزيد من الأزمات، مثل حالات الجفاف. وعلى الرغم من أن هذه الاضطرابات قد تحدث في أجزاء محددة من العالم، إلا أنها قد تتسبب بارتفاعات حادة في الأسعار عالميًا، مثل الاضطرابات في إمدادات منطقة البحر الأسود.
ويمكن للتغييرات الإيجابية الجذرية في السلوكيات العالمية، والتي يساهم فيها القطاعان العام والخاص على حد سواء، أن تعزز مستويات الشفافية والمرونة في نظام الغذاء العالمي. وتشمل الخطوات الممكنة في هذا الإطار ما يلي:
- إحداث تحول مستدام في القطاع الزراعي لزيادة المحاصيل، ولاسيما في الدول المستوردة ذات معدلات النمو السكاني السريعة.
- إيجاد طرق لخفض مستويات الهدر الغذائي العالمي وتحسين استخدام الأراضي لإنتاج الغذاء والكتل الحيوية
- تسريع وتيرة تطوير وآليات اعتماد اللحوم البديلة، والتشجيع على استهلاك البروتينات ذات القيمة الغذائية العالية.
أدت اضطرابات نظام الغذاء سابقًا إلى زيادة مستويات التضخم، وانخفاض القوة المالية، وزيادة معدلات سوء التغذية، بالإضافة إلى الدخول في فترات من عدم الاستقرار السياسي والعنف في بعض الأحيان. واعتمادًا على مدة الحرب في أوكرانيا وشدتها، قد تصبح إمدادات الغذاء العالمية غير قادرة على تلبية الاحتياجات الغذائية لـ 250 مليون نسمة. وتبرهن هذه الإحصائيات الواقعية على مدى خطورة الوضع الحالي.