يشهد مصطلح المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة نموًا مطردًا منذ إطلاقه للمرة الأولى في عام 2005. وارتفعت، على سبيل المثال، عمليات البحث عن هذا المفهوم على الإنترنت بمقدار خمسة أضعاف منذ عام 2019، حتى مع تراجع عمليات البحث عن مصطلح المسؤولية الاجتماعية للشركات، وهو أحد مجالات التركيز السابقة الذي يرتبط أكثر بمدى التفاعل المؤسسي عوضًا عن نموذج الأعمال الرئيسي للشركات. وتتجه الشركات، من مختلف الأحجام وعلى امتداد مختلف القطاعات والمناطق الجغرافية، نحو تخصيص قدر أكبر من الموارد بغرض تحسين المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة. وتُصدر أكثر من 90% من الشركات المُدرجة على قائمة "ستاندرد آند بورز500"، وحوالي 70% من شركات "راسل 1000" تقاريرها الخاصة بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، بينما أصبح إعداد مثل هذه التقارير بشأن هذه المعايير إلزاميًا أو قيد الدراسة الفعلية في بعض المناطق. وتدرس هيئة الأوراق المالية والبورصات في الولايات المتحدة طرح قوانين جديدة تتطلب قدرًا أكبر من الإفصاح حول المخاطر المتعلقة بالمناخ وانبعاثات الغازات الدفيئة. واقترحت الهيئة فرض أنظمة إضافية على جوانب مختلفة أخرى من المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، بينما يبقى بعضها الآخر قيد الدراسة.
للمزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
وتنعكس الأهمية المتزايدة للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة بشكل واضح في أنشطة الاستثمارات، برغم التراجع المُسجل في أعداد الاستثمارات الجديدة مؤخرًا. فعلى سبيل المثال، ارتفعت الاستثمارات في الصناديق المستدامة من 5 مليارات دولار أمريكي في عام 2018 إلى أكثر من 50 مليار دولار أمريكي في عام 2020، لتصل إلى قرابة 70 مليار دولار أمريكي عام 2021؛ ووصلت الإيرادات النقدية الجديدة التي حققتها هذه الصناديق إلى 87 مليار دولار أمريكي خلال الربع الأول من العام الجاري و33 مليار دولار أمريكي في الربع الثاني. وتُقدر قيمة الأصول المستدامة حول العالم لغاية منتصف عام 2022 بحوالي 2.5 تريليون دولار أمريكي، وهو ما يمثّل انخفاضًا بنسبة 13.3% عن الأرقام المُسجلة في نهاية الربع الأول لعام 2022، إلا أنه يبقى أفضل من التراجع بنسبة 14.6% التي سجلتها السوق الأوسع خلال الفترة ذاتها.
وتمثّل الجوانب البيئية والاستجابة المتعلقة بالتغير المناخي من العوامل الرئيسية الدافعة لنمو مجال المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، تُضاف إليها الأهمية المتنامية للعناصر الأخرى، لا سيما الاجتماعية منها. وكشفت إحدى الدراسات عن زيادة نسبة مقترحات حملة الأسهم المرتبطة بالجانب الاجتماعي بنسبة 37% في الفترة بين منتصف أبريل ومنتصف يونيو 2021 بالمقارنة مع العام السابق.
وأشار المنتقدون، على خلفية الحرب في أوكرانيا والمأساة الإنسانية المترتبة عليها والتداعيات الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية المتنامية، إلى أن مستويات الاهتمام بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة قد وصلت إلى ذروتها. ويرى هؤلاء أنّ الاهتمام سينتقل تدريجيًا نحو العناصر الأساسية ذات الصلة باحتياجات القطاعين العام والخاص، مع إمكانية أن يتحول الاهتمام الحالي بهذه المعايير إلى مُجرد صيحة مؤقتة تتلاشى حالها كحال الكثير من المفاهيم التي سبق لها أن ظهرت في الماضي. ويرى البعض الآخر بأنّ المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة تُمثل مزيجًا غير مألوف وغير متسق، وبوجوب حصر التركيز في جانب الاستدامة البيئية فحسب، توازيًا مع تزايد التحديات التي تواجه الاستثمارات في هذا المجال. وبرغم تركيز بعض هذه الآراء على واضعي السياسات والمحللين والصناديق الاستثمارية، يُركز التحليل المطروح في هذه المقالة (والمقالة المرافقة لها "سُبل تطبيق المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في العالم الواقعي") على مستوى الشركات، وبمعنى آخر: هل تحمل المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة أهمية حقيقية بالنسبة للشركات؟ ما هو الأساس المنطقي الاستراتيجي الذي يوجب اعتماد هذه المعايير؟
نظرة نقدية للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة
لا تُعتبر الانتقادات الموجهة للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة أمرًا جديدًا، فلطالما ترافق نمو هذه المعايير ورواجها مع تشكيك وانتقادات مستمرة. وتندرج أبرز الانتقادات الموجَّهة ضمن أربع فئات أساسية.
1. المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة غير مرغوبة لأنّها تشتت تركيز الشركات
قد يكون الاعتراض الأكبر الذي يواجه المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة هو دورها في تشتيت تركيز الشركات بعيدًا عن مهمتها الرئيسية، وهي "تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب المالية بما ينسجم مع القواعد الأساسية للمجتمع" بحسب ما كتب "ميلتون فرايدمان" قبل أكثر من 50 عامًا. وبالنظر إليها من هذه الزاوية، تُعد المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة مجرد جهود جانبية، أو خطوةً لتحسين صورة الشركة العامة، أو حتى وسيلةً لتحقيق الأرباح بالاستفادة من دوافع العملاء أو المستثمرين أو الموظفين. وبالتالي فإن هذه المعايير تفيد في دعم حضور الشركة وسمعتها، ولكنّها لا تُشكّل عنصرًا جوهريًا من استراتيجية الشركة، بل هي مُجرد عنصر إضافي وعارِض عليها. وكشفت مؤسسة ''MSCI''، المختصة بوضع تقييمات ومؤشرات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، أنّ حوالي 60% من عمليات "التصويت بشأن المناخ" في عام 2021 كانت أحداثًا منعزلة، حيث أُجريت متابعة سنوية لأقل من 25 من عمليات التصويت هذه. ووصف منتقدون آخرون المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة المؤسسية بـ "الغسل الأخضر" أو "التضليل البيئي" أو "تبييض أنشطة الشركة". وكشف استبيان لمؤسسة "إدلمان"، على سبيل المثال، بأنّ حوالي ثلاثة من كُلّ أربعة مستثمرين مؤسسيين لا يثقون بقدرة الشركات على تحقيق ما تُعلن عنه من التزامات في مجالات الاستدامة والمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة المؤسسية والتنوع والمساواة والشمولية.
2. المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة غير مجدية بسبب طبيعتها صعبة التنفيذ
تركز شريحة أخرى من منتقدي المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة على صعوبة الوفاء بالمتطلبات الفنية لكل من جوانب هذه المعايير، بالإضافة إلى صعوبة تحقيق التوازن المطلوب لتنفيذ هذه المعايير بصورة تنسجم مع متطلبات العديد من الجهات المعنية. وعلى عكس الإجراءات المالية التقليدية، التي تركز دومًا على تحقيق أكبر قدر ممكن من القيمة لصالح المؤسسة والمساهمين فيها، تتسم الحلول ذات الصلة بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة بنطاق أوسع وبطبيعة أكثر تعقيدًا، فقد يتطلب تحقيق التوافق بين مجموعة متنوعة من الجهات المعنية تقديم العديد من المساومات، وقد يكون غير ممكن في بعض الأحيان. كما يجب تحديد الجهة التي ستستفيد من المكاسب الإضافية من المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة. فهل يجب توجيه هذه المكاسب للعملاء عن طريق خفض الأسعار؟ أم للموظفين من خلال زيادة المستحقات والأجور؟ أم للموردين؟ أم لصالح القضايا البيئية من خلال فرض ضريبة كربون داخلية على سبيل المثال؟ بالتالي فإن الخيار الأمثل ليس واضحًا على الدوام، وحتى في حال كان هذا الخيار واضحًا بالنسبة للشركة، فليس من المؤكد أن حملة الأسهم سيمنحونها الصلاحية اللازمة لتنفيذه.
3. المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة غير قابلة للقياس بطريقة ممكنة عمليًا على أقل تقدير
يتمثل الاعتراض الثالث على المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في عدم إمكانية قياسها بدقة، وهو ما ينعكس في نتائج مؤشراتها بشكل واضح. وفي حين يمكن تقييم كل جانب منها على حدة عن طريق جمع البيانات المطلوبة القابلة للمراجعة، يرى بعض المنتقدين بأنّ دلالة النتائج الإجمالية للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة تبقى محدودة للغاية. ويزداد هذا الخلل تعقيدًا بسبب الفوارق في عوامل الترجيح والمنهجيات المتبعة من قبل مُختلف المؤشرات ومزودي خدمات القياس. فعلى سبيل المثال، يوجد تقارب بنسبة 99% بين درجات الأهلية الائتمانية الصادرة عن مؤسستي "ستاندرد آند بورز" و"موديز"، بينما يبلغ مستوى ترابط مؤشرات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، الصادرة عن ستة من أبرز مزودي النتائج والتصنيفات المختصين، نسبة 54% فقط، وتتراوح بين 38 و71%. وإلى جانب ذلك، يمكن قياس الظاهرة ذاتها بطرق مختلفة من قبل عدة مؤسسات. فعلى سبيل المثال، تقيس المبادرة العالمية لإعداد التقارير جانب تدريب الموظفين، جزئيًا، بالاعتماد على المبالغ المستثمرة في التدريب، بينما يقيسها مجلس معايير محاسبة الاستدامة بحسب عدد ساعات التدريب. وبالتالي من المتوقع أن تتباين النتائج والقياسات مع اختلاف مزودي القياسات، لا سيما في ضوء اعتماد كُلّ منهم لمبادئ التحليل والترجيح الخاصة به. وإلى جانب ذلك، يستخدم أبرز المستثمرين غالبًا منهجياتهم الخاصة، والتي طوروها على مر السنين وتعتمد على مجموعة متنوعة من المدخلات (بما فيها نتائج مؤشرات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة).
4. غياب العلاقة المُجدية بين المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة والأداء المالي حتى عندما يكون القياس ممكنًا
يتمثل الاعتراض الرابع في عدم وجود علاقة سببية بين تحسّن الأداء والمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، مع إمكانية أن يكون هذا الترابط الإيجابي ناتجًا عن عوامل أخرى مختلفة. فمن غير المنطقي الوصول إلى نتائج متطابقة تنسجم بالكامل مع أداء الشركات عند إجراء تقييمات من قبل مؤسسات مختلفة، تستخدم منهجيات متنوعة، وتعتمد عوامل ترجيح متباينة، وتشمل شركات تنشط في عدة قطاعات ومناطق جغرافية. ويُمكن تفسير الترابطات مع الأداء من خلال العديد من العوامل القابلة للتغيّر (مثل الظروف المواتية أو المعاكسة للقطاع). وطرحت دراسات مختلفة العديد من التساؤلات بشأن العلاقة السببية بين أداء المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة والأداء المالي. وفي حين تُسجل غالبية الصناديق الاستثمارية المتمحورة حول المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة أداءً متفوقًا بالنسبة للسوق الأوسع، لا ينجح بعضها الآخر في هذا الصدد، بحسب دراسة أجريت مؤخرًا. ويُمكن أن يعود الأداء المتفوق لتلك الشركات أو الصناديق للعديد من الأسباب غير المقترنة بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة. (فعلى سبيل المثال، تتصدر شركات التكنولوجيا والشركات التي تعتمد على الأصول الخفيفة السوق الأوسع في تصنيفات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة المؤسسية في غالب الأحيان؛ إذ تُساعدها بصمتها الكربونية المحدودة نسبيًا على تسجيل نتائج أفضل على تلك التصنيفات). وكان أحد المسؤولين عن دراسة أجريت مؤخرًا قد أشار بشكل واضح إلى أنّ: "المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة لا تُثمر عن عائدات سوقية ضخمة".
وبالإضافة إلى هذه الاعتراضات الأربعة، دفعت الأحداث الأخيرة والأسواق المتقلبة البعض للتشكيك في قابلية تطبيق مؤشرات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في هذه المرحلة. وبات من المؤكد أنّ الحاجة المُلحة لتعزيز أمن الطاقة على خلفية غزو أوكرانيا قد يؤدي إلى زيادة أنشطة استخراج واستخدام الوقود الأحفوري في الأجل القريب، بالإضافة إلى التأثيرات السلبية للحرب وتداعياتها على التعاون العالمي المطلوب لتحقيق الانتقال السلس نحو الحياد الكربوني. ويُرجح عندها أن تعتمد الشركات نهجًا متسرعًا للوصول إلى النتائج المرتبطة بالأداء عوضًا عن منح هذه الجهود الوقت اللازم للوصول إلى ثمارها الحقيقية، والتي تستند إلى استراتيجية مدروسة بعناية تهدف إلى الارتقاء بأهداف الشركة ونموذج أعمالها. (الشكل)

ومع ذلك، تتخذ العديد من الشركات اليوم العديد من القرارات المهمة استجابةً للمخاوف المجتمعية، مثل وقف عملياتها في روسيا وحماية الموظفين في الدول المعرضة للخطر وتنظيم جهود الإغاثة بمستويات غير مسبوقة، كما تستمر في التزامها بتحقيق الأهداف القائمة على النتائج العلمية، وتطوير الخطط الضرورية لتحقيق هذه الالتزامات وتنفيذها. ويوضح هذا الاتجاه مدى ازدياد أهمية الاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة فيما يتعلق بعملية اتخاذ القرار لدى الشركات.
الأداء المستدام غير مُمكن دون القبول الاجتماعي
تتمثل المسألة الرئيسية التي تقوم عليها الانتقادات الأربعة السابقة في إخفاق المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في الحصول على القبول الاجتماعي، والذي يُعرّف على أنه إدراك أصحاب المصلحة بأنّ الشركة أو القطاع يتصرف بطريقة عادلة ومناسبة وموثوقة. وأصبح من الضروري واللازم التصريح بأنّ هدف الشركات الأساسي هو توفير القيمة على المدى البعيد. بالتالي فإن أي تقويض للقيمة ينتج عن قرارات الشركات (مثل سوء تخصيص الموارد بهدف التماشي مع القيم الجديدة، أو محاولة تقديم قياسات دقيقة لشيء لا يقبل إلّا التقدير من خلال المؤشرات الخارجية)، قد يعزز الانتقادات التي تطال المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، لا سيما عند تطبيق رؤية طويلة الأمد لتحقيق القيمة.
مع ذلك، يتغاضى بعض النقاد عن كون إدارة العوامل الخارجية الضخمة ذات الأثر الكبير والتعامل معها هو أحد الشروط الأساسية لاستدامة القيمة على المدى الطويل. ويمكن للشركات تنفيذ عملياتها بطريقة عقلانية وأن تطمح لتحقيق العائدات الفصلية وتحديد استراتيجيتها على مدى خمسة أعوام أو أكثر. غير أنّ توقعاتها، وحتى استراتيجياتها الأساسية، لن تكون قابلة للتحقيق في حال افترضت مسبقًا عدم شمول الحالة الأساسية لأيّ عوامل خارجية أو إمكانية تقويض القبول الاجتماعي بسبب الإخفاق في أخذ العوامل الخارجية في الاعتبار. ويُمكن للمديرين، في ضوء كثرة المقاييس والتقديرات والأهداف والمعايير، أن يغفلوا المغزى الجوهري من عملية القياس في المقام الأول، وهو ضمان استمرار أعمالهم، بدعم مجتمعي، وبطريقة مستدامة ومجدية بيئيًا.
وبناء عليه، تتمحور الردود على منتقدي المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة حول ثلاث نقاط رئيسية، تتمثل بالطبيعة الحادة للعوامل الخارجية، والنجاح المبكر لبعض الشركات، وتحسن أدوات قياس المعايير. ولا يُمكن الحكم على مسألة المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة من خلال الرابط بين مؤشراتها والأداء المالي والتغييرات التي تطرأ على هذه المؤشرات مع مرور الوقت. (للاطلاع على النقاش حول مقاييس المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة وعلاقتها بالأداء المالي، يُرجى الاطلاع على العمود الجانبي "تصنيفات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة: ما مدى جدوى التغيير؟)
1. تنامي العوامل الخارجية
قد تترك أنشطة الشركة تداعيات مؤثرة على الأشخاص ممن لا تربطهم بها أيّ علاقة مباشرة. وباتت العوامل الخارجية، مثل انبعاثات غازات الدفيئة والآثار على سوق العمل والتداعيات على صحة الموردين وسلامتهم، من التحديات المُلحة في عالمنا شديد الترابط. ولا يخفى هذا الأمر على الجهات التنظيمية بطبيعة الحال. ولكن حتى في حال توجهت بعض الحكومات، والجهات التابعة لها، نحو تسريع إنجاز التغييرات وبشكل أكبر فعالية، لا يُمكن للشركات متعددة الجنسيات، على وجه التحديد، الاكتفاء بمجرد الانتظار والترقب. بل على العكس، حيث يتوقع أصحاب المصلحة من هذه الشركات المشاركة بشكل مباشر في تحديد آليات تطوير وصياغة المشهد التنظيمي والنطاق الاجتماعي الأوسع. وعلى سبيل المثال، تعهدت أكثر من 500 شركة بتحقيق الحياد الكربوني كجزء من مبادرة "السباق نحو الصفر" التي أطلقتها الأمم المتحدة. كما يولي الموظفون من جانبهم قدرًا أكبر من الأولوية لعوامل مثل الانتماء والشمولية أثناء اختيار الاستمرار مع شركاتهم أو الانضمام إلى شركة منافسة. ومن ناحية ثانية، تتجه الكثير من الشركات بقوة نحو إعادة تخصيص الموارد والعمل بطريقة مختلفة توازيًا مع الضغوطات الكبيرة التي تواجهها لإنجاز التغيير. ودفعت أزمة كوفيد-19 الشركات إلى إعادة التفكير بطبيعة عملياتها التجارية الأساسية والعمل على تغييرها، حتى قبل اتخاذ التدابير الجذرية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا. وانطلقت العديد من الشركات في المسار ذاته فيما يتعلق بالتغيّر المناخي. ويُمثل هذا الضغط العميق والملموس مظهرًا من مظاهر القبول الاجتماعي، والذي يكتسب أهمية إضافية مع زيادة إلحاح العوامل الخارجية الناشئة.
2. بعض الشركات قدمت أداءً مميزًا يُظهر بالفعل إمكانية نجاح المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة
لا يُعد القبول الاجتماعي مفهومًا ثابتًا، ولا يُمكن للشركات كسب ثقة المستهلكين والموظفين والموردين والجهات التنظيمية وغيرها من الأطراف المعنية، بناءً على إجراءات مسبقة فقط. وفي حقيقة الأمر، يُماثل كسب رأس المال الاجتماعي كسب الديون أو أسهم رأس المال - إذ يبحث أولئك الذين يُقدّمونه ضمن النتائج السابقة للحصول على التحليلات الدقيقة حول الأداء الحالي، بينما يتمحور جُلّ اهتمامهم على الآفاق المتوسطة وطويلة الأجل. ومع ذلك، وبخلاف غيرها من مصادر رأس المال التقليدية، حيث تتوفر العديد من بدائل التمويل المبتكرة، لا تتوفر أيّ بدائل أخرى أمام الشركات التي لا تنسجم مع المتطلبات المجتمعية، ولا توجد أمامها أيّ آفاق اعتيادية أو بديلة في ضوء الظروف الكارثية للتغيّر المناخي.
ولا بد من مواجهة العديد من التحديات أثناء تطبيق المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، لا سيما وأنّ هذه المساعي تحتاج لفترة زمنية طويلة حتى تتبلور. ولا توجد شركة مثالية بطبيعة الحال؛ إذ من الممكن إغفال التوجهات وارتكاب الأخطاء والمخالفات، ويمكن للقرارات أن تتسبب بعواقب غير مقصودة. ومع ذلك، يستحيل لأيّ شركة أن تستمر دون ضمان حصولها على القبول الاجتماعي، والذي يُعد الركيزة الأساسية لبقائها، ولا يُمكن للشركات أن تنتظر وتأمل أن تسير الأمور على ما يُرام من تلقاء نفسها. وبدلًا من ذلك، يتعين عليها استباق المشكلات والأحداث المستقبلية من خلال توجيه نموذج الأعمال الخاص بها نحو غاية محددة، وإظهار قدرتها على تحقيق المنفعة لمُختلف أصحاب المصلحة والجمهور الأوسع. وتملك كُلّ شركة غايةً ضمنية ومبررًا فريدًا يُقدم إجابة للسؤال الجوهري حول ما يُمكن للعالم أن يخسره في حال لم تعد هذه الشركة موجودة فيه؟ ولا تقتصر المزايا التي تُحققها الشركات التي تدمج الغاية في نموذج أعمالها على الحد من المخاطر فحسب؛ إذ يُمكنها أيضًا توليد القيمة من القيم التي تستند إليها. فلطالما كانت شركة "باتاغونيا" الأمريكية للملابس والمعدات الخارجية، على سبيل المثال، مدفوعة بالغاية الرئيسية التي وضعتها لنفسها والتي ترمي إلى "إنقاذ الكوكب". ومن جانبها، كشفت شركة "ناتورا آند كو"، المزود الرائد لمستحضرات التجميل والعناية الشخصية التي تتخذ من البرازيل مقرًا لها، بأنّها تسعى "لتعزيز العلاقة المتناغمة للفرد مع نفسه ومع الغير والطبيعة بشكل عام". وتركز الشركة مساعيها المتعلقة بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة على مبادرات مثل حماية غابات الأمازون والدفاع عن حقوق الإنسان واعتماد المنهجية الدائرية. وتعتمد العديد من الشركات الأخرى، في مُختلف القطاعات والمناطق الجغرافية، المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة لتحقيق الأثر الاجتماعي والمزايا المالية الإضافية في الوقت ذاته.
3. المقاييس قابلة للتحسُّن مع مرور الوقت
لا بد من الإشارة إلى التحسينات التي طالت مقاييس المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة حتى الآن، والتي ستستمر في التطور مع مرور الوقت. ويشهد هذا المجال تغييرات فاعلة في الوقت الحالي، حيث يُلاحظ اتجاه نحو توحيد تقارير المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة وأطر الإفصاح الخاصة بها، والذي قد يكون توجهًا محدودًا ينتهي عند نقطة معينة. ويتنافس مزودو خدمات التصنيف والقياس في القطاع الخاص، مثل "MSCI" و"ريفينيتف" و"ستاندرد آند بورز جلوبال" و"ساستيناليتكس"، لتقديم المقاييس المعمقة والنموذجية لأداء المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة.
ويُضاف إلى ذلك توجه جديد نحو اعتماد لوائح تنظيمية ومتطلبات أكثر فاعلية ودقة. ويركّز التوجه في هذا السياق، برغم الاختلافات في أساليب تقييم المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، على اعتماد تدابير إفصاح أكثر دقة ورسوخًا، بدلًا من خفض نقاط البيانات أو وضع معايير أقل تحديدًا. ويُشار أيضًا إلى أنّ المحاسبة المالية ظهرت كنتيجة لضغوط أصحاب المصلحة، وليس كنتيجة الزخم التنظيمي العفوي، وما زالت لم تتبلور أو تأخذ شكلها المتكامل بالانسجام مع المبادئ والنماذج التي نراها اليوم. وبدلًا من ذلك، كانت ممارسات إعداد التقارير ثمرة رحلة طويلة من التطور، وبعض الجدالات الحادة أحيانًا، وما زالت تتطور وتتباين فيما بينها، كما هي الحال بالنسبة للمبادئ المحاسبية المقبولة عمومًا والمعايير الدولية لإعداد التقارير المالية. وتعكس هذه التباينات مدى أهمية هذه القضايا لدى أصحاب المصلحة، ولا تتناقض مع الحاجة إلى لإعداد التقارير الدقيقة، بل تُعززها في حقيقة الأمر.
وتحافظ قيمة المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة على أهميتها المحورية من حيث المبدأ، برغم من فقدان هذا المصطلح بعضًا من بريقه في الوقت الحالي. وتختلف المصطلحات والتسميات مع اختلاف المرحلة (فقد ظهر مصطلح المعايير البيئية الاجتماعية والحوكمة بعد مصطلحات المسؤولية الاجتماعية للشركات والتفاعل المؤسسي وغيرها من التعابير المماثلة)، وتتسم هذه التعهدات بصعوبتها بطبيعة الحال، ولا يُمكن أن تصل لصيغتها النهائية إلّا بعد العديد من التجارب. ومع ذلك، نرى بأنّ أهمية الأفكار الكامنة لم تبلغ ذروتها بعد؛ وفي الواقع، تجد الشركات نفسها مضطرة بشكل متزايد لكسب القبول الاجتماعي. لذا لا بد أن تتعامل الشركات مع العوامل الخارجية بصفتها تحديات استراتيجية أساسية، ليس لمجرد المساعدة في إعداد المؤسسة للمستقبل، بل لتحقيق الأثر المُجدي على المدى الطويل.