وقد أعلنت شركة "فيسبوك" في وقت سابق من العام الماضي عن خططها لتعيين 10 آلاف موظف في أوروبا، وذلك بهدف تطوير مشروع ميتافيرس القائم على تقنية الواقع المعزز. بينما كشفت "أمازون" عن خطط لتوظيف أكثر من 55 ألف موظف في وظائف إدارية وتقنية في الولايات المتحدة، في حين ستقوم شركة "جوجل" بتعيين آلاف الموظفين.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
وتفاقمت هذه المشكلة نتيجة الاستنزاف الكبير للمواهب الذي شهدته الكثير من الشركات، حيث يتسرب أصحاب المواهب التقنية خارجها بحثًا عن فرص وظيفية أفضل. وساهمت نماذج العمل عن بُعد في تسهيل مغادرة الموظفين للشركات، ولم يعد تباعد المواقع الجغرافية يمثل عائقًا أمام عملية الاستحواذ على المواهب من شركات أخرى.
ويعد ذلك تحذيرًا خطيرًا للكثير من الشركات، إذ يشير إلى وجود توجه هائل نحو استنزاف مواهبها الوظيفية دون أن تشعر بذلك.
وتتزامن هذه التحولات الجذرية مع النقص الحاد الذي يشهده السوق في المواهب التقنية. وتبين تحليلاتنا وجود فجوة كبيرة في المهارات ضمن سبعة مجالات مختلفة، ونتوقع لهذه الفجوة أن تتعمق بمرور الوقت (يرجى مراجعة الشريط الجانبي "المواهب التقنية: المهارات المطلوبة"). وتحتاج ألمانيا، على سبيل المثال، إلى 780 ألف خبير تقني إضافي بحلول عام 2026 لمواكبة متطلبات اقتصاد الدولة. وشهد الاقتصاد العالمي وجود أكثر من ثلاثة ملايين وظيفةٍ بقيت شاغرةً في مجال الأمن الرقمي منذ عام 2020.
ويشعر قادة الأعمال بخطورة الوضع الراهن. وبحسب استبيان أجرته شركة ماكنزي والذي شمل أكثر من 1,500 من كبار الموظفين التنفيذيين، أشار 87% منهم إلى عدم استعداد شركاتهم بشكل كافٍ لمعالجة الفجوة في المهارات. ووفقًا لاستبيان آخر أجرته ماكنزي، فإن 61% من موظفي المواهب البشرية يعتقدون أن توظيف مطوري البرامج يمثل التحدي الأكبر الذي سيواجهونه خلال الأعوام القادمة.
وعلى الرغم من التحديات الهائلة للعثور على المواهب التقنية، فلا يمكن للشركات القائمة أن تتوقع تحقيق النجاح في العالم الرقمي دون امتلاك المقومات الداعمة في المجال التقني، وهو أمر غير ممكن دون وجود قاعدة وظيفية راسخة من المواهب التقنية. ويعد تطوير استراتيجيات فعالة لإدارة الموظفين وأصحاب المواهب من أهم الممارسات التي يمكن للشركات اتباعها، ولذا يجب أن يكون أصحاب المواهب التقنية في مقدمة أولويات الرؤساء التنفيذيين.
واستنادًا إلى دراسة أجريناها على أكثر من 80 حالة انتقال جرت على مستوى شريحة أصحاب المواهب التقنية، قمنا بتحديد عشر قضايا يتعين على الشركات أخذها بعين الاعتبار، بالإضافة إلى الحلول اللازمة لمعالجتها.
1. تحقيق النجاح في إدارة المواهب يتطلب الإلمام بمختلف جوانب عمليات الإدارة
أصبحت عملية تلبية احتياجات أصحاب المواهب التقنية منافسة متعددة الأوجه بين الشركات، إذ من غير المُجدي العثور على أصحاب المواهب المتميزة دون إمكانية توظيفهم، أو حتى توظيفهم إذا كانوا سيتركون العمل في شركتكم بعد فترة وجيزة. ويحتّم ذلك على الشركات الاستثمار بشكل متزامن في جميع جوانب منظومة دورة الحياة الوظيفية، من وقت التعيين وحتى التقاعد.
ويبدأ ذلك بتطوير مُحرّك بحث خاص بأصحاب المواهب التقنية، وهو عبارة عن فريق عمل متخصص بإدارة جميع جوانب تجارب الموظفين، بدءًا من عمليات التوظيف والتعيين، ومرورًا بوضع مسارات مهنية جديدة، ووصولًا إلى تطوير المهارات المتواصل. وقد قامت إحدى الشركات الزراعية الكبرى بإنشاء مُحرّك بحث خاص بأصحاب المواهب التقنية، والذي يركز على تطوير عمليات استقطابهم من خلال استخدام اتفاقيات عقود بهدف التوظيف، والاستعانة بالقنوات الرقمية الجديدة (مثل شركة توب كودر)، بما في ذلك إجراء تمارين حول عمليات التشفير خلال مقابلات العمل، وتطبيق نظام تتبع المُرشحين لإدارة عملية التعيين.
ويمكن تقسيم الأنشطة الرئيسية لهذه المنهجية الشاملة والخاصة بإدارة المواهب إلى ثلاثة مجالات تشمل:
- القوى العاملة: ينبغي وضع تصوّر واضح ودقيق حول فجوة المواهب في شركاتكم، وإعداد خطة عملية لتعيين المواهب، واتباع منهجية تعيين تركز على تجارب المُرشحين.
- نموذج العمل: يتعين عليكم تطبيق نموذج عمل يتيح للفرق الصغيرة من المهندسين القدرة على حل المشاكل التي تهمهم دون التقيد بتراتبية الإدارة.
- مواقع العمل: ينبغي إنشاء بيئة عمل داعمة لأصحاب المواهب، وذلك من خلال اتباع ثقافة قائمة على التنوع والدعم، والتي تكتسب أهمية خاصة عند اتباع أساليب العمل الهجينة ونماذج العمل عن بُعد. ويشمل ذلك توفير مسارات مهنية مختلفة تساعد أصحاب المواهب على تطوير أصولهم الأكثر أهمية والمتمثلة في مهاراتهم.
القوى العاملة
2. معالجة فجوة المواهب: الفجوة أوسع مما تتخيلون
ترتكز الاستراتيجيات الفعالة لإدارة أصحاب المواهب على رؤية واضحة حول القدرات اللازمة للشركات حتى تتمكن من توفير قيمة مضافة بالمقارنة مع قدراتهم الحالية، ولا سيما في مجال أصحاب المواهب المتخصصين بالحوسبة السحابية. وتقوم 58% من المؤسسات بتحليل فجوة المهارات لديها، إلا أن خبراتنا الواسعة في القطاع تشير إلى أن الشركات غالبًا ما تستهين بحجم هذه الفجوات. وينجم ذلك في معظم الأحيان عن اقتصار تحليلات المواهب في الشركات على مستويات الأدوار الوظيفية بدلًا من التحقق من المهارات التي يمتلكها الموظفون.
وعندما قام أحد البنوك الناجحة على سبيل المثال بإجراء تقييم مفصل للمواهب الوظيفية التي يمتلكها، توصل إلى نتائج مفاجئة، حيث تبيّن بأن 35% فقط من كبار مواهبه التقنية يمتلكون المهارات التي يحتاجها، وأن أكثر من 50% من المواهب تتطلب إجراء عمليات بناء منهجية وأساسية لقدراتها.
كما يتعين على المؤسسات تكرار عمليات تخطيط القوى العاملة بما يزيد عن معدلاتها الاعتيادية البالغة مرة واحدة أو مرتين فقط في العام حتى تتمكن من مواكبة المتطلبات المتغيرة والتحولات الحاصلة في هيكلياتها.
3. التفكير في خبرات المرشحين وليس عملية التوظيف بحد ذاتها
تركز أقسام الموارد البشرية ومدراء التوظيف عادة على تحسين عمليات التوظيف وكفاءتها، سعيًا منها للارتقاء بعملية التوظيف. ولكن ثمة منهجية أكثر فاعلية تتمثل في "معرفة طريقة تفكير المرشحين"، والتركيز على تجربتهم. ويشمل ذلك تحسين التجربة الافتراضية للمرشحين، حيث أشار استبيان صدر مؤخرًا إلى أن 70% من الشركات تقوم بإجراء عمليات التوظيف والتعيين بشكل شبه افتراضي على الأقل.7 وفيما يلي بعض الطرق المتاحة:
- يتطلع أصحاب المواهب التقنية إلى لقاء خبراء آخرين في المجال، لذا ينبغي التأكد من مشاركة المهندسين والموظفين الآخرين ذوي الصلة ضمن فريق مقابلة العمل. كما ينبغي الحرص على مشاركة أفضل الموظفين في المقابلات، فضلًا عن اعداد الفعاليات عبر الإنترنت، واقامة المؤتمرات.
- ويتحلى المرشحون المتميزون بالطموح، ولديهم الكثير من الخيارات الوظيفية الأخرى. لذا ينبغي تطوير منهجيات معينة للمقابلات الخاصة بالتوظيف وتقييمها على نحو يدفعهم لاتخاذ القرار بالعمل خلال فترة لا تزيد عن يوم واحد. كما يجب تقييم مهارات المرشحين قبل وصولهم إلى المقابلات باستخدام أدوات مثل منصة "هاكر رانك".
- لا يعد نشر الإعلانات على الوظائف وانتظار المتقدمين استراتيجية فعالة. إذ لن يقتصر بحث أصحاب المواهب التقنية على مواقع التوظيف الإلكترونية، لذا يتعين عليكم المشاركة بفعالية في قنوات التوظيف غير التقليدية، مثل فعاليات "الهاكاثون"، واستخدام قنوات التوظيف مفتوحة المصدر، والمواقع الإلكترونية المتخصصة للعثور على المهارات المختلفة. وتعد منصة "جيت هاب" قناة التوظيف الأفضل بالنسبة لبعض الشركات.
- ويحرص أصحاب المواهب المتميزة على بدء العمل مباشرةً، لذلك ينبغي التأكد من وجود نقاط الاتصال الوظيفية اللازمة لمساعدتهم على التعرّف على الشركة بمختلف أقسامها. ويجب تبسيط عملية التوظيف بما يتيح لمطوري البرامج البدء بالإنتاج في نهاية الأسبوع الأول من عملهم.
وعلى سبيل المثال، قامت إحدى الشركات المتخصصة بقطاع الترفيه بتجديد تجربة المُرشحين عن طريق تقليص خطوات عملية التعيين والتوظيف، وزيادة وضوح المهام الخاصة بكل دور وظيفي، والتأكد من إجراء مقابلات العمل من قِبل مهندسين متخصصين. وساهمت هذه التغييرات الثلاثة في تقليص المدة اللازمة لتقديم عرض العمل بعد التواصل الأول مع المُرشحين، حيث تقلصت المدة الزمنية التي كانت تمتد في السابق لأكثر من 90 يوم لتصل بعد هذه التغييرات إلى أقل من عشرة أيام.
4. أصحاب المواهب التقنية المتميزة هم من يقومون بإجراء المقابلات معكم وليس العكس
يتعين عليكم تحديد الأسباب التي قد تدفع أفضل أصحاب المواهب التقنية للعمل معكم. وإلى جانب الأهمية الكبيرة لارتفاع الأجور، ينصب اهتمام أفضل المُرشحين للعمل على أحدث التقنيات، وبناء مهاراتهم، والمساهمة الفعالة في ثقافة تقدّر التكنولوجيا، بالإضافة إلى تحديد الأهداف المجدية بالنسبة لهم، والأهم من ذلك كله؛ تمكينهم من العمل على إيجاد حلول ملهمة، وابتكار حلول لمشاكل تلفت اهتمامهم. وللمثال على ذلك، وقع اختيار الرئيس التنفيذي لشؤون المعلومات لدى إحدى الأسواق الإلكترونية الرائدة في أوروبا على استخدام برمجيات "سكالا" بدلًا من برمجيات "جافا" لأنها كانت تمثل عنصر التميز للمواهب التقنية في وقتها.
ويلعب عرض القيمة المقدم إلى الموظفين دورًا محوريًا في معالجة هذه القضايا. فقد كانت إحدى مؤسسات القطاع العام الأوروبية تواجه مشكلة في ملء شواغر 400 وظيفة في المجال التقني. ولذلك فقد عملت على إعادة النظر في عروض القيمة التي تقدمها إلى الموظفين بحيث تركز رسالتها على العمل لمنفعة "الصالح العام"، مثل إنشاء خدمات رقمية تعود بالنفع على جميع المواطنين، وتحسين تجارب المواطنين، وجعل الخدمات التي تقدمها أكثر سرعة وموثوقية. ونجحت المؤسسة بتحقيق زيادة كبيرة في عدد طلبات العمل التي تلقتها، وبالتالي استطاعت تقليص مدة العمليات اللازمة لملء الشواغر الوظيفية إلى عدة أسابيع بدلًا من شهور طويلة كما كان الوضع سابقًا.
وتتطلب عروض القيمة المقدمة للموظفين توفير دعم حقيقي "على أرض الواقع"، ويكون ذلك من خلال البرامج وثقافة العمل التي تفي بالوعود المقدمة. ولكن إذا لاحظ أصحاب المواهب عدم وجود ارتباط بين عروض القيمة التي تم الإعلان عنها وتطبيقها العملي على أرض الواقع، فسيسارعون إلى مغادرة مواقع العمل، وإخبار الآخرين بذلك، وهو ما سيترك أثرًا سلبيًا على المؤسسة. وقد يترتب على ذلك عواقب وخيمة، لأن الطريقة الشائعة التي يستخدمها الباحثون عن عمل للحصول على معلومات حول الشركات تتمثل بالاطلاع على تقييمات الشركات من المواقع الإلكترونية لأطراف ثالثة مثل موقع "جلاسدور" أو "بلايند".
5. مشكلة نقص المواهب لا يمكن حلها بالاعتماد كليًا على التوظيف أو الاستعانة بمصادر خارجية
تتمثل مشكلة الاعتماد على التوظيف في أن الموظف الجديد غالبًا ما يستغرق وقتًا طويلًا قبل أن يصبح قادرًا على الإنتاج، بالإضافة إلى وجود نقص عام في المواهب المؤهلة للعمل. وبالمثل، ينبغي أن تبقى القدرات الأساسية داخل الشركة لتمكينها من العمل بسرعة، لذلك فإن الاستعانة بالموارد الخارجية لا تشكل الحل المنشود. وانطلاقًا من ذلك، ينبغي تأمين معظم المواهب اللازمة من داخل المؤسسات. ويجب أن يتضمن تخطيط القوى العاملة تحديد التوازن الصحيح بين بناء المهارات داخليًا، والتوظيف الخارجي، والاستعانة بالموارد الخارجية (الشكل 1).
وتنتقل الشركات الكبرى، في إطار سعيها لبناء المهارات داخليًا، من برامج التدريب التقليدية والفرعية، إلى أنشطة التدريب المستمرة من خلال اتباع مسيرة التعلم المستمرة، أو المخصصة باستخدام برامج التعلم التي تم إنشاؤها لأدوار وفئات وظيفية محددة. ويقدم (الشكل 2) مثالًا على مسيرة التعلم هذه. وتركز هذه الشركات على بناء الخبرات بدلًا من تقديم الشهادات. وتستند المنهجية الفعالة لإعادة صقل المهارات على فهم المهارات القائمة التي سيتم تحويلها إلى مهارات جديدة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن لمدراء المشاريع عادة أن يصبحوا قادة جيدين لفرق عمل المشاريع البرمجية، بينما يتمتع مهندسو الحواسيب المركزية بالقدرة على تعلم التقنيات واللغات البرمجية الجديدة.
نموذج العمل
6. بناء فرق عمل صغيرة وعالية الأداء ذات مهام محددة، ومنحهم الفرصة لتنفيذ مهامهم
يتفوق مطور البرمجيات الخبير عشرة أضعاف بالمقارنة مع زميله المبتدئ من حيث الإنتاجية. ولكن يصعب على الكثير من هؤلاء المهندسين الخبراء أن يعملوا في المؤسسات ذات منهجيات العمل التقليدية، حيث تحول كثرة المدراء والإجراءات البيروقراطية (مصطلح يشير إلى نظام إداري معقد يُطبق القوانين بقوة ويوزع المسؤوليات بطريقة هرمية ووفقًا للعلاقات الشخصية) دون قدرتهم على إنجاز العمل بوتيرة سريعة. وتبلغ نسبة المهندسين إلى المدراء وموظفي التنسيق والدعم في الكثير من المؤسسات 30:70، ولذا ينبغي تغيير هذا الواقع.
ويعمل قادة التكنولوجيا على إعادة هيكلة مؤسساتهم المتخصصة بتكنولوجيا المعلومات لتضم فرق عمل صغيرة وذاتية الإدارة تمتاز بالحماسة والمرونة العالية. وبدلًا من إدارة شؤون الفرق بشكل يومي أو تزويدها بالتعليمات اللازمة للعمل؛ يركز قادة التكنولوجيا الناجحون على إزالة المعوقات التنظيمية، وتمكين الفرق من اتخاذ القرارات، وتحديد الرؤى والتوجهات.
وبالتطرق إلى احدى النماذج والأمثلة، واجهت إحدى شركات التأمين الجماعي مصاعب في تحديد آلية استقطاب عملاء جُدد، ولذا قررت بناء فريق عمل صغير ومستقل يضم نخبة من أفضل مواهبها الهندسية. ومنحت الشركة فريق العمل صلاحيات واسعة لإعادة ابتكار آلية جديدة لاستقطاب العملاء الجدد، كما جنّبته معظم الإجراءات الروتينية. ونجح الفريق بتصميم تجربة عملاء غامرة، وتطوير تقنية مبتكرة ترتبط بنظام معلومات الموارد البشرية لدى كل عميل. وتقوم هذه التقنية بتحميل معلومات الموظفين، وتحديد حالة التأمين بشكل تلقائي، ودمج الموظفين في الخطة التأمينية الجديدة. وساعدت هذه المنهجية شركة التأمين على إنجاز أول عملية بيع بملايين الدولارات الأمريكية بعد أربعة أشهر فقط من إطلاقها. كما استفاد أعضاء الفريق من هذه التجربة وأصبحوا روادًا في تطبيق طريقة العمل الجديدة.
7. إزالة مهام العمل المجهدة غير الضرورية والممارسات الخاطئة لأن أصحاب المواهب المتميزة لن يقبلوا بها
يجب تكليف أصحاب المواهب بالمهام الوظيفية التي تلائمهم، فمن غير المنطقي توظيف عازف بيانو خبير في موسيقى الجاز وإرغامه على عزف السلّم الموسيقي طوال الوقت. وعلى نفس النهج، يحتاج أصحاب المواهب التقنية المتميزة إلى بيئة عمل تتيح لهم العمل والاستفادة من قدراتهم الحقيقية بشكل كامل. وينصب تركيز المؤسسات الكبرى على إزالة أكبر قدر ممكن من المعوقات التي تؤثر على عمل خبراء البرمجة لديها. وتستثمر هذه المؤسسات على سبيل المثال في تطوير برمجيات عالية الجودة وقابلة لإعادة الاستخدام، بالإضافة إلى تطوير أدوات تسهّل من طريقة عمل المهندسين. كما تسعى المؤسسات إلى أتمتة أكثر من 80% من اختباراتها وجعلها مستمرة، إلى جانب إنجاز عملية التطوير بعد توثيق حالات الاختبار.
وتتكامل بيئات العمل المتطورة في مجال مرحلة الإنتاج وما قبله على النحو الأمثل مع بيئات التطوير والاختبار، بينما تشكل ممارسات مثل "التكامل المستمر" و"التسليم المستمر"، واستخدام الحوسبة السحابية أفضل العميات المتبعة في آلية العمل الأساسية.
كما تستثمر الشركات الرائدة في منصات العمل التي تتطلب الحد الأدنى من البرمجة لتمكين المستخدم العادي في مجال الأعمال من تطوير التطبيقات دون الحاجة لأي خبرات برمجية، ما يتيح لمطوري البرمجيات المتمرسين إمكانية التركيز على المهام الأكثر صعوبة. وقامت إحدى شركات الأدوية على سبيل المثال بتوسيع نطاق مستخدمي منصتها ذات البرمجيات المبسطة من ثمانية مستخدمين إلى 1,400 مستخدم خلال عام واحد فقط.
وتتمثل إحدى النماذج التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار في منهجية "هندسة موثوقية الموقع" (SRE)، حيث يتم تكليف مجموعة محددة من الموظفين الخبراء بمهمة إزالة مهام العمل المجهدة غير الضرورية عن كاهل مطوري البرامج.
مواقع العمل
8. التركيز على رضا مطوري البرامج يسهم في تحسين مستويات الإنتاجية والأداء
يتطلب الحفاظ على المواهب المتميزة توفير بيئة عمل يتم التعامل فيها مع مطوري البرامج على أنهم من رواد الابتكار، وليس مجرد موظفين عاديين لتصميم البرمجيات؛ واعتبارهم مشاركين فاعلين في تطور الشركات. وتشير دراسة مؤشر الصحة التنظيمية الصادرة عن شركة ماكنزي إلى أن الأدوار الوظيفية في مجال تكنولوجيا المعلومات تنخفض كثيرًا عن المعدل الوسطي من ناحية "الصحة" التنظيمية (أي القدرة على الانسجام مع الأهداف الاستراتيجية وتحقيقها).
ويمكن لقادة الأعمال تغيير هذا الواقع من خلال تحويل جودة تجارب مطوري البرامج إلى مقياس أساسي للنجاح، واستخدام البيانات المتاحة لتتبع مستويات الرضا الوظيفية عن كثب. فقد اتجهت مايكروسوفت على سبيل المثال إلى استخدام بيانات التقويم الزمني (إلى جانب مجموعة من المصادر الأخرى للمعلومات)، والتي أظهرت بأن الممارسات الإدارية المتعلقة بالاجتماعات كانت تتسبب بانخفاض مستوى الرضا الوظيفي لدى المهندسين في وحدة أجهزة الشركة. وتتمثل إحدى أهم المقاييس في معرفة عدد مطوري البرامج في الشركة الذين يقومون بتوظيف مطورين آخرين، لأن ذلك يشير إلى مدى ثقة الموظفين بالشركة ورؤيتها. لذا ينبغي إضفاء طابع من الشفافية والكفاءة على برامج حوافز الموظفين.
ويلعب النمو أيضًا دورًا أساسيًا في بناء ثقافة العمل الهندسي، ويمكن أن يتخذ أشكالًا عديدة، إذ لا تقتصر رغبة المهندسين المتميزين على الحصول على المزايا الوظيفية رفيعة المستوى فحسب، وإنما يتطلعون لتجربة برمجيات جديدة، والارتقاء بمستوى مهاراتهم كمطورين، ومتابعة المشاريع التي تثير شغفهم مثل خفض الاعتماد على التقنيات الخارجية أو تحسين الأنظمة. وتعمل الشركات الكبرى على تخصيص وقت إضافي لإفساح المجال أمام المهندسين لديها لتجربة لغات أو أدوات برمجية جديدة قد لا تمثل محور تركيزها الأساسي. ويتطلع المهندسون في الوقت نفسه للحصول على أهداف واضحة وملاحظات سريعة حول عملهم حتى يتمكنوا من معرفة مدى نجاحهم في تحقيق الأهداف.
كما يعد إنشاء بيئة توفر "الأمان النفسي" (حيث يمكن للمطورين الشعور بالأمان للمسارعة بطرح القضايا على سبيل المثال) عنصرًا أساسيًا في بناء ثقافة العمل الهندسي، ويشكل عامل التمكين الأول من ناحية تأثير التكنولوجيا على أداء الشركات. ويمكن لقادة التكنولوجيا تقديم نموذج يُحتذى به في ابتاع سلوكيات محددة، مثل إظهار الاهتمام بأعضاء الفريق كأشخاص مستقلين بدلًا من النظر إليهم كموظفين عاديين، والحرص على الاستماع إلى آرائهم.
9. عدم الإصرار على ترقية المهندسين المتميزين إلى مدراء
ينبغي عدم الجزم بأن المهندسين يتطلعون لأن يصبحوا من المدراء في الشركة، إذ يبدي أكثر من ثلثي مطوري البرامج عدم رغبتهم في ذلك. ويفضل هؤلاء الخبراء عادة إبقاء مسيرتهم المهنية ضمن تخصصاتهم، ومواجهة التحديات الرقمية الأكثر صعوبة.
ولهذا، غالبًا ما توفر المؤسسات الرقمية مسارات مهنية إدارية وغير إدارية لأصحاب المواهب التقنية. وتستخدم الشركات الرائدة نموذج التنقلات الوظيفية لتعزيز النمو المهني وتوفير خيارات مهنية تسهم في تحفيز الموظفين. وعلى سبيل المثال، يتم تشجيع الموظفين في شركة "أمازون" على التنقل بين أقسام المنتجات والقنوات و/أو الأدوار الوظيفية المختلفة لتعلم مهارات جديدة واكتساب خبرات في مختلف مجالات العمل. وعلى سبيل مثال مشابه لشركة "أمازون"، يتنقل المهندسون في شركة "سيلز فورس" بين الأدوار الوظيفية الخاصة بعدد من المنتجات لاكتساب خبرات أوسع. ولذا ينبغي أن ترتكز المسارات المهنية التقنية على "هيكليات عمل" واضحة، مع توفير فرص للارتقاء الوظيفي في جميع المستويات.
10. قيم التنوع والمساواة والشمولية ضرورة استراتيجية وليست مبادرات خاصة
تشير الإحصائيات إلى أن الشركات التي تمتاز بطابع التنوع والمساواة بين الجنسين غالبًا ما تتفوق في أدائها المالي بنسبة تزيد 25% مقارنة بالشركات ذات مستويات التنوع والمساواة الأقل، بينما تزداد هذه النسبة إلى 36% لدى الشركات التي تتمتع بالتنوع العرقي. وفي هذا السياق، يتطلع أصحاب المواهب التقنية لدخول بيئات العمل ذات الطابع المتنوع. ووجدنا بأن أصحاب المواهب الرقمية المتميزة غالبًا ما يرفضون العمل أو حتى التقدم للعمل لدى شركات يعتقدون بأنها تفتقر إلى الشمولية. وأشار ثلث أصحاب العمل إلى قيام المتقدمين للوظائف بالاستفسار عن قيم التنوع والمساواة والشمولية لدى شركاتهم. وهنا، يتعين علينا الإجابة عن السؤال التالي: هل تعكس فرقكم القيادية قيم التنوع بما يكفي؟
وسعيًا منها لمعالجة هذا التحدي، اتجهت المؤسسات الرائدة في مجال التنوع والمساواة والشمولية لإرساء آليات تهدف للحد من حالات التحيّز، مثل ضمان قياس مستويات التنوع والمساواة والشمولية بشكل مستمر واتخاذ قرارات حاسمة بشأنها، بما في ذلك تتبع مستويات التنوع والمساواة بين الجنسين في عمليات التوظيف، والاحتفاظ بالموظفين، وتقييمهم، ورواتبهم. كما قامت المؤسسات بتحديد مسارات مهنية وهيكليات وظيفية واضحة المعالم لمجموعات أصحاب المواهب الرئيسية، مع التركيز على تطوير مسارات مهنية جيدة التصميم للمدراء من المستويين الأول والثاني. وتعمل الشركات الرائدة على استكمال هذه المنهجية عن طريق وضع أهداف محددة للتوظيف، وذلك من خلال تحديد متطلبات مجموعات المرشحين، وبذل الجهود لإزالة التحيز اللاواعي. وقد بدأت بعض الشركات باستخدام الذكاء الاصطناعي للمساعدة على الحد من استخدام اللغة المتحيزة في معايير التقييم، وتصميم الحوافز والمعايير الخاصة بالقادة ليكونوا نموذجًا يُحتذى به في السلوك غير المتحيز.
وقد يكون من الصعب اليوم أن نتصور نجاح أي من الشركات دون امتلاكها لقاعدة قوية من المواهب التقنية. ولن تتمكن الشركات من الحصول على القيمة المنشودة من التقنيات الرقمية إلا من خلال قبولها لهذا الواقع، واتخاذ إجراءات شاملة لاستقطاب أصحاب المواهب التقنية اللازمة.