ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com
ففي مطلع العقد الحالي, شكّلت الجائحة نقطة تحوّلٍ مفاجِئة في حياة الأفراد، إذ تبنّى الكثير منهم أنماطًا جديدة كليًا، من أبرزها العمل عن بُعد، والتواصل الرقمي، وغيرها من الأنشطة الفردية التي فرضتها ظروف العَزل.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
ورغم عودة الحياة إلى طبيعتها إلى حدٍ كبير، إلا أن آثار تلك المرحلة لا تزال واضحةً على سلوك المستهلكين وتفضيلاتهم.
بعد مرور أكثر من خمس سنواتٍ على بداية الجائحة، لا يزال المستهلكون حول العالم يعيشون في ظل حالةٍ من الضبابية، وسط مخاوف متزايدة مرتبطة بالتضخم، وارتفاع الأسعار، وتكاليف المعيشة. ومع ذلك، لم تُسجّل معدلات الإنفاق تراجعًا ملحوظًا، حتى مع ضعف العلاقة التقليدية بين الثقة الاقتصادية وحجم الإنفاق. وتشير قرارات المستهلكين اليوم إلى نمطٍ متقلب؛ إذ يقلّصون إنفاقهم في بعض المجالات، مقابل الإنفاق بسخاءٍ على منتجاتٍ أو تجارب تمنحهم شعورًا أعلى بالقيمة أو الراحة. وقد يبدو هذا التفاوت في السلوك محيّرًا بعض الشيء، لكنه يعكس واقعًا جديدًا تجاوزت فيه سلوكيات المستهلكين الأطر التحليلية القديمة.
فالعادات التي نشأت بفعل أزمةٍ مؤقتة، تحوّلت إلى سلوكياتٍ راسخة تُصعّب مهمة التنبؤ بما هو قادم. ومن هذا المنطلق، يصبح فهم دوافع المستهلك المتغيّرة شرطًا أساسيًا لبقاء الشركات في قلب المشهد التنافسي خلال النصف الثاني من هذا العقد.
واستنادًا إلى نتائج وتحليلات استطلاعيّ ماكنزي حول ثقة المستهلك وحالة السوق الاستهلاكية، تم تحديد خمسة تحوّلاتٍ رئيسية في سلوك المستهلك من المتوقع أن تترك أثرًا كبيرًا على هذا القطاع في السنوات المقبلة، بالإضافة إلى أربع خطواتٍ استراتيجية تتيح للمؤسسات تعزيز قدرتها على النمو.1 (كما يُعد النمو في الأسواق الناشئة، إلى جانب التحولات السكانية العالمية مثل شيخوخة السكان وتراجع معدلات الولادة، من العوامل المؤثرة أيضًا، إلا أن هذا التقرير يركّز على التغيرات السلوكية العميقة التي أصبحت جزءًا ثابتًا من المشهد الاستهلاكي في كبرى الأسواق العالمية).
خمسة تحوّلاتٍ استهلاكية أفرزتها الجائحة ولا تزال ترسم ملامح السوق
مع بداية الجائحة، تغيّرت سلوكيات المستهلكين بشكلٍ كبير وبسرعةٍ لافتة، حتى أن الكثير من هؤلاء المستهلكين مازالوا يحتفظون بهذه العادات حتى اليوم. وللوقوف على أبعاد هذه التغيّرات بشكلٍ دقيق، قامت "ماكنزي" بإجراء استطلاعٍ موسّع حول ثقة المستهلك، شمل أكثر من 25 ألف مستهلك في 18 سوقًا تُمثّل نحو 75 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.2 إلى جانب استطلاعٍ آخر حول حالة السوق الاستهلاكية. وقد كشفت نتائج الاستطلاعين عن تحوّلاتٍ جوهرية في طريقة إدارة المستهلكين لأوقاتهم، ومصادر ثقتهم، والمعايير التي يعتمدونها لتقييم المنتجات والخدمات.





1. اتجاه الأفراد نحو العزلة والحياة الرقمية
بات الاعتماد على الإنترنت والأنشطة المنزلية عادةٌ ثابتة في حياة كثيرٍ من المستهلكين، بعد أن كانت وسيلةً للتأقلم مع الإغلاق خلال الجائحة. فقد تغيّرت أولويات الإنفاق والزمن بشكلٍ لافت مقارنةً بما كانت عليه قبل خمس سنواتٍ مضت، إذ باتوا يركّز المستهلكون على راحتهم الشخصية، ويسعون لإشباع رغباتهم بشكلٍ فوري.
فعلى سبيل المثال، أظهر استطلاعٌ أُجري في الولايات المتحدة عام 2025 أن المستهلكين باتوا يتمتعون بوقت فراغٍ يزيد بأكثر من ثلاث ساعاتٍ أسبوعيًا عن عام 2019.3 إلا أنهم يخصّصون قرابة 90 في المائة من هذا الوقت للأنشطة الفردية. وتشمل هذه الأنشطة: ممارسة الهوايات، الاسترخاء الشخصي، التسوّق، التمارين الرياضية، وقضاء الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي. في المقابل، ظلّ الوقت المُخصّص للتفاعل مع العائلة والأصدقاء والمشاركة في الفعاليات الثقافية الحيّة (مثل السينما أو المسرح أو الحفلات) على حاله، مما أدى لتراجع نسبة الوقت المخصص للأنشطة الجماعية من مجمل وقت الفراغ.
هذا لا يعني بالضرورة أن المستهلكين يسعون عمدًا إلى قضاء وقتٍ أطول بمفردهم. فالعمل عن بُعد وتوسع التجارة الإلكترونية ساهما في زيادة وقت الفراغ بشكلٍ أكبر خلال الأسبوع، كما وفّرا وسيلةً للبقاء على اتصالٍ دون مغادرة المنزل. ومن المؤكد أن السلوكيات الاستهلاكية تختلف من سوقٍ إلى أخرى؛ فالمستهلكون في الصين يميلون إلى قضاء وقتٍ أطول مع العائلة أو الأصدقاء، إلى جانب تخصيص وقتٍ أكبر للتنمية الذاتية والتسوّق الترفيهي، مقارنةً بنظرائهم في الولايات المتحدة.
فيما زاد الاعتماد على التسوّق الإلكتروني وخدمات توصيل الطعام على نطاقٍ واسع. فوفقًا لاستطلاعنا، أفاد أكثر من 90 في المائة من المستهلكين في الصين والولايات المتحدة، وأكثر من 80 في المائة في ألمانيا والمملكة المتحدة، بأنهم قاموا بالتسوّق عبر المتاجر الإلكترونية فقط خلال الشهر الماضي.4 بالإضافة إلى ذلك، ارتفع الإقبال على خدمات توصيل البقالة بشكلٍ لافتٍ، وذكر ما يقرب من 40 في المائة من المستهلكين في ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى استخدامهم هذه الخدمات خلال أسبوعٍ واحدٍ فقط.5 بينما أكد أكثر من ثلث المشاركين في الدول الأربع أنهم يعتمدون بشكلٍ أساسي على منصّتيّ "أمازون" أو "تاوباو" لتلبية احتياجاتهم الشرائية6
لقد أعاد هذا الحرص المتزايد على الراحة تشكيل قواعد اللعبة في قطاعاتٍ عدة، فقد أصبح مبدأ "كل شيءٍ يصلني إلى باب المنزل" يفرض نفسه بقوة، ليس على تجارة التجزئة فقط، بل على خدمات توصيل الطعام والبقالة أيضًا. فقد ارتفعت حصة توصيل الطعام من إجمالي الإنفاق العالمي على قطاع الأغذية من 9 في المائة في عام 2019 إلى 21 في المائة في عام 2024 (الشكل 1).7
ومع تزايد تطلعات المستهلكين إلى خدماتٍ أسرع وأكثر كفاءة، من المتوقّع أن تقل قدرتهم على تحمّل أي تأخيرٍ أو تعقيدٍ في التجربة - ليس فقط على صعيد القطاعات التقليدية، بل عبر مختلف التجارب الاستهلاكية. فقد أصبحت السرعة اليوم مطلبًا أساسيًا في خدمات التوصيل والتجارة الإلكترونية، إلى جانب عوامل لا تقل أهميةً، مثل انخفاض التكلفة، وضمان الموثوقية، وسهولة إعادة المنتجات.
2. القنوات الرقمية تزداد انتشارًا بين المستخدمين ولكنها تخسر ثقتهم
في الوقت الذي أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، فإنها لا تزال تُعدّ من أقل المصادر موثوقيةً عند اتخاذ قرارات الشراء، بحسب ما أفاد به المستهلكون في استطلاعات الرأي. والمفارقة أن هذه المنصات تُستخدم في التواصل مع الأصدقاء والعائلة، وهما المصدران الأكثر تأثيرًا وثقةً لدى المستهلكين. وفي ظل تراجع الثقة بالمؤسسات ووسائل الإعلام التقليدية، تواصل القنوات الرقمية – لاسيما تلك النشطة على مدار الساعة – التأثير بشكل خفي في قرارات الشراء وتشكيل انطباعات المستهلكين تجاه العلامات التجارية.
وقد أدّت جائحة كوفيد-19 إلى تسريع وتيرة التحول الرقمي بما يعادل عقدًا كاملًا في أقل من عام، مما غيّر جذريًا طريقة تفاعل المستهلكين مع العلامات التجارية ووسائل الإعلام. ومع تزايد انتشار المنصات الرقمية – من محركات البحث، إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات البث، والألعاب – باتت "مجمّعات الجمهور" تلعب دورًا أكبر في جذب الانتباه وتوجيه السلوك، في وقتٍ أصبح فيه انتباه المستهلك أكثر تشتتًا من أي وقتٍ مضى. ومع هذا التغيير، سارعت الشركات إلى اللحاق بالمستهلكين على هذه المنصات، لكن بث الحملات الإعلانية عبر القنوات الرقمية لم يعد كافيًا لتغيير سلوك الشراء أو بناء ولاءٍ حقيقي.
ومن جانب آخر، تُظهر أبحاث ماكنزي أن المستهلكين في أوروبا والولايات المتحدة يثقون أكثر بتوصيات العائلة والأصدقاء عند اختيار المنتجات والعلامات التجارية، فيما تراجعت منصات التواصل إلى أدنى مستويات التأثير (الشكل 2). أما في الصين، فما زال الأصدقاء والعائلة في الصدارة، إلا أن المستهلكين هناك أظهروا تأثرًا ملحوظًا أيضًا بمنصات التواصل الاجتماعي والتقييمات الإلكترونية.8 ويتفاوت تأثير هذه المصادر حسب الفئة؛ فعلى سبيل المثال، صنّف 38 في المائة من المشاركين في الولايات المتحدة المؤثرين ضمن أكثر ثلاث جهاتٍ يعتمدون عليها في قرارات السفر,9 في حين لم تتجاوز النسبة 13 في المائة بالنسبة لمنتجات الوجبات الخفيفة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار تأثير المنصات الرقمية في قرارات الشراء. ففي مختلف الأسواق، ترتفع نسبة المستهلكين الذين يستخدمون وسائل التواصل للبحث عن المنتجات، لتصل إلى 32 في المائة في 2025 مقارنة بـ 27 في المائة في 2023. بينما تُسجّل الأسواق الناشئة نسبًا أعلى بكثير؛ إذ أفاد نحو نصف المشاركين في الهند بأنهم يلجؤون إلى وسائل التواصل للاطلاع على المنتجات قبل الشراء.10 وفي ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، قال 29 في المائة من المستهلكين إنهم اشتروا بالفعل مُنتجًا بعد التعرّف عليه عبر وسائل التواصل.11
ولم يعد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مقتصرًا على الأجيال الشابة؛ إذ أفاد 33 في المائة من أبناء الجيل" إكس" في أوروبا والولايات المتحدة بأنهم يستخدمون "تيك توك"، في حين يتصفّح 35 في المائة من جيل الطفرة السكانية "إنستغرام".12 أما في الصين، فتصل نسبة استخدام "دويين" و"ويتشات" إلى 90 في المائة تقريبًا بين جميع الفئات العمرية.
وسط هذا المشهد الرقمي المتداخل، تواجه العلامات التجارية اليوم تحديًا في الحفاظ على رسائل تسويقية تتسم بالأصالة وتلائم كل مستخدم، مع ضمان اتساقها عبر مختلف المنصات. ويتطلّب ذلك النظر في مصادر متعددة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، وأصوات المؤثرين، ومراجعات المستخدمين، وتقييمات المنتجات، لصياغة رسائل فعّالة تعكس تطلعات المستهلك.
3. جيل "زد" يفرض نفسه كلاعبٍ رئيسي في مشهد الإنفاق العالمي
يمثّل جيل "زد" اليوم واحدةً من أكبر الفرص أمام العلامات التجارية وتجار التجزئة، إذ يُتوقّع أن يكون الجيل الأكثر عددًا والأعلى ثراءً في التاريخ. هذا الجيل، المولود بين عامي 1996 و2010، بدأ في دخول سوق العمل وممارسة النشاط الاستهلاكي بقوة. ففي الولايات المتحدة مثلًا، يبلغ متوسط دخل الأسرة لشابٍ من جيل "زد" في سن 25 عامًا نحو 40 ألف دولار، أي ما يزيد بنسبة 50 في المائة عن دخل نظرائه من جيل الطفرة السكانية عند العمر ذاته، بعد احتساب الضرائب والتضخم والتحويلات الحكومية. وتُظهر البيانات أن إنفاق هذا الجيل ينمو بمعدلٍ يُعادل ضعف معدل نمو الإنفاق لدى الأجيال السابقة في نفس المرحلة العمرية، ومن المتوقع أن يتجاوز حجم إنفاقهم عالميًا إنفاق جيل الطفرة السكانية بحلول عام 2029، على أن يُضيفوا نحو 8.9 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول .13
وتبرز أهمية فهم هذا الجيل في كونه أول من نشأ بالكامل في بيئةٍ رقمية، ومرّ بمرحلة البلوغ خلال جائحةٍ عالمية أثّرت في نظرته لكثيرٍ من المفاهيم التقليدية حول تلك المرحلة.
فبحسب الاستطلاعات، لم يعد الزواج أو الإنجاب من أولويات هذا الجيل كما كان الحال مع الأجيال التي سبقته، وهو ما تؤكده نتائج الاستطلاع من أن 73 في المائة من أبناء جيل "زد" يعتبرون النجاح المهني هدفًا رئيسيًا، مقابل 36 في المائة يركّزون على بناء الثروة، وهي نسبٌ تفوق بكثير ما تم تسجيله لدى الأجيال الأكبر سنًا.14 ويبدو أن هذا التوجه يعود في جانبٍ منه إلى الضغوط التي يواجهها الجيل، مثل ارتفاع تكاليف المعيشة، وتحمّل أعباء الديون الدراسية، والتي جعلت من تحقيق الأمان المالي أولويةً ملحّةً بالنسبة لهم.
كما أن نظرة هذا الجيل للعالم تختلف عن نظرة الأجيال السابقة؛ إذ يُبدي أبناء جيل "زد" قدرًا أكبر من التفاؤل تجاه القضايا الاجتماعية، مقابل قدرٍ أقل من الثقة في تحسّن الأوضاع الاقتصادية، خاصةً فيما يتعلق بالتضخم وارتفاع الأسعار.15 ففي ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، أعرب 40 في المائة من أبناء جيل "زد" عن قلقهم حيال مستقبلهم المالي، مقارنة بـ 31 في المائة من الأجيال الأكبر سنًا.16 أمّا في الصين، فتبدو الصورة مغايرةً نسبيًا، إذ أبدى 11 في المائة فقط من أفراد هذا الجيل نفس القلق، وهو ما قد يُعزى إلى انتشار ثقافة الادخار هناك بشكلٍ أوسع مقارنةً بدولٍ أخرى.
ورغم القلق المالي الذي يُبديه جيل "زد"، إلا أن ذلك لم يثنِه عن الاستمرار في الإنفاق. ففي الولايات المتحدة، أقرّ نصف المشاركين من الجيل "زد" إن مدّخراتهم لن تكفيهم للعيش أكثر من شهرٍ واحدٍ إذا فقدوا مصدر دخلهم، بينما تصل النسبة في ألمانيا والمملكة المتحدة إلى 35 في المائة، وتقل إلى 8 في المائة فقط في الصين. ومع ذلك، يبقى الإنفاق أولويةً بالنسبة لهم.17 كما يستخدم أكثر من ربع هذا الجيل خدمات "اشترِ الآن وادفع لاحقًا"، بالأخص في الصين، التي سجّلت نسبة 40 في المائة، تليها الهند بنسبة 38 في المائة، ثم الإمارات بنسبة 36 في المائة، وأخيرًا، أستراليا بنسبةٍ بلغت 35 في المائة.18
وبما أن قدرتهم المالية محدودة نسبيًا، قد لا يُتوقع من أفراد الجيل "زد" أن يكونوا الأكثر استعدادًا للإنفاق، إلا أن الواقع يعكس خلاف ذلك. حيث يُعدّ هذا الجيل الأكثر ميلاً إلى الإنفاق على الكماليات وتحمل الديون، كما يتضح في (الشكل 3).19 فقد عبر 34 في المائة من أبناء هذا الجيل في الصين وألمانيا والمملكة المتحدة وأمريكا، عن استعدادهم للشراء بالائتمان، وهو ما يتجاوز المعدلات المسجلة لدى الأجيال الأخرى بفارق 13 نقطة مئوية. وتُظهر هذه السلوكيات مزيجًا لافتًا بين الرغبة في تحقيق الأمان المالي من جهة، والنزعة الاستهلاكية من جهة أخرى. ومن هذا المنطلق، تُصبح العلامات التجارية مطالَبة بابتكار منتجاتٍ وتجارب تُلبّي تطلّعات جيل "زد"، وتُقنعهم بأنها تستحق إنفاقهم، سواء من خلال مواكبتها لأحدث الصيحات أو انتشارها الواسع عبر التوصيات. وتجدر الإشارة إلى أن جيل "زد" يُخصّص جزءًا كبيرًا من إنفاقه لقطاعات الموضة والعناية الشخصية، إذ تبلغ نسبة إنفاقه على الأزياء 34 في المائة، وعلى منتجات التجميل 29 في المائة.
ولا يتوانى جيل "زد" عن دفع مبالغ إضافية مقابل الحصول على الراحة، وهو ما تعكسه البيانات التي تُظهر أن نسبةً كبيرة من أفراده تستخدم خدمات توصيل الطعام والبقالة أكثر من أي جيل آخر.20 وبالنظر إلى المستقبل، من المرجّح أن يُحدّد هذا الجيل الإطار العام لتوقّعات المستهلكين، مما يمنح الشركات التي تدرك أولوياته في الإنفاق ميزةً تنافسيةً حقيقية وفرصًا أوسع للنجاح.
4. اتجاه المستهلكون نحو المنتجات المحلية على حساب العالمية
خلال السنوات الأخيرة، بدأ المستهلكون حول العالم يُظهرون ميولًا متزايدة نحو دعم المنتجات المحلية، وهي ظاهرةٌ أصبحت أكثر وضوحًا في عام 2025. فمع اضطراب سلاسل التوريد، وتوقيع اتفاقياتٍ تجارية جديدة، بدأ كثيرٌ من الناس يفضّلون الشراء من الشركات التي تنتمي إلى بلدانهم وأسواقهم المحلية بدلًا من الاعتماد على العلامات العالمية.
وتُشير نتائج الاستطلاع إلى أن نحو 47 في المائة من المستهلكين حول العالم يُعطون أولويةً للشركات المحلية عند اتخاذ قرار الشراء.21 وقد شهدت كندا والولايات المتحدة على وجه الخصوص، ارتفاعًا ملحوظًا في تفضيل العلامات التجارية المحلية مقارنةً بالربع الأول من عام 2025، كما هو موضح في (الشكل 4).
وعند سؤال المستهلكين عن أسباب هذا التوجّه، قال 36 في المائة منهم أنهم يسعون لدعم الاقتصاد الوطني.22 بينما رأى 20 في المائة أن المنتجات المحلية تُلبّي احتياجاتهم بشكلٍ أفضل، في حين أشار 13 في المائة فقط إلى أن الأسعار المحلية أكثر ملاءمةً بالنسبة لهم.
وفي المقابل، بدأت بعض الأسواق خارج الولايات المتحدة تُبدي تحفظًا تجاه العلامات التجارية الأمريكية؛ ففي أوروبا، عَبَّر 42 في المائة من المشاركين عن تراجع نظرتهم الإيجابية إلى العلامات الأمريكية مقارنةً ببداية عام 2025.
ولا يقتصر مَيْل المستهلكين نحو الشراء المحلي على المنتجات الغذائية أو الأساسية، بل يمتد إلى مجالاتٍ أخرى، مثل الأزياء ومستحضرات التجميل. ففي الصين مثلًا، أصبحت ستٌ من أصل أكثر عشر علامات تجميل نموًا منذ عام 2020 هي علاماتٍ محلية، مقارنةً باثنتين فقط في الفترة بين 2015 إلى 2020.23 أما في اليابان، فَتُهيْمِن العلامات المحلية على سوق الوجبات الخفيفة، إذ تشكّل تسعةً من أفضل عشر علامات.
وفي ظل هذا التحوّل، تجد الشركات متعددة الجنسيات نفسها مضطرةً لإعادة النظر في طرق عملها. إذ لم يعد النجاح في الأسواق العالمية مرهونًا بحجم الانتشار أو قوة العلامة التجارية فقط، بل أصبح مرهونًا بمدى قدرة الشركات على فهم احتياجات كل سوقٍ من الأسواق المحلية وتكييف عروضها بما يتماشى مع أذواق المستهلكين المحليين. بالإضافة إلى ضرورة اعتماد العلامات التجارية على سلاسل التوريد المحلية بما يُقربها من السوق المستهدفة. كما يتطلب الأمر اتخاذ قراراتٍ أكثر انتقائيةً بشأن المحافظ والعلامات القابلة للنجاح في كل سوق. وفي بعض الحالات، قد يكون التركيز على الأنشطة الأساسية والأسواق الأكثر استقرارًا هو الخيار الأفضل، لتجنّب المخاطر التي قد تنتج عن الاستثمار في بيئاتٍ غير مستقرة، خاصةً في ظل ما يشهده العالم اليوم من تقلباتٍ اقتصادية وتجارية يصعب التنبؤ بمسارها.
5. المستهلكون يعيدون صياغة مفهوم القيمة وفق أولويات جديدة
في ظل تصاعد الضغوط المعيشية، بات ارتفاع الأسعار المتواصل يشكّل مصدر القلق الأول للمستهلكين في الأسواق الـ18 التي شملها استطلاعنا,24 متقدّمًا على قضايا أخرى مثل التغير المناخي، والصراعات الدولية، ومخاوف فقدان الوظائف. وفي مواجهة هذا الواقع، يعيد الكثيرون النظر في سلوكهم الاستهلاكي، فيبحثون عن بدائل اقتصادية، ويُقبلون على تقليل النفقات ليس فقط ضمن الفئة الاستهلاكية الواحدة، بل عبر مجموعةٍ واسعةٍ من المنتجات والخدمات.
بحسب نتائج الاستطلاع، فإن 79 في المائة من المستهلكين يتجهون إلى خفض إنفاقهم، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة تقليص الكميات أو الاعتماد فقط على المتاجر الأرخص. إذ أصبح البحث عن العروض والتخفيضات نهجًا ثابتًا لدى أكثر من نصف المستهلكين في كل عملية شراءٍ يقومون بها. وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، يخطط نحو نصف المستهلكين لتأجيل مشترياتهم خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.25 بينما يشير 47 في المائة إلى أنهم يترقبون العروض الترويجية قبل شراء الملابس، مقارنةً بـ 22 في المائة فقط من المستهلكين في ألمانيا والمملكة المتحدة.26
ومع تغيّر السلوك الاستهلاكي، أصبحت ظاهرة "المقايضة بين الفئات" أكثر شيوعًا؛ إذ يُقدِم الكثير من المستهلكين على خفض إنفاقهم في فئةٍ معينة من أجل التمتع بمنتجاتٍ أو خدماتٍ في فئةٍ أخرى. ففي النصف الأول من عام 2025، أفاد أكثر من ثلث المشاركين في الاستطلاع بأنهم خفّضوا نفقاتهم في مجالٍ معين لتخصيص المزيد من المال لمجالٍ آخر.27 ومن اللافت، قيام نحو 19 في المائة من المستهلكين حول العالم بالتخطيط لتقليص إنفاقهم على الاحتياجات الأساسية، مقابل تخصيص مزيدٍ من المال لشراء كمالياتٍ أو منتجاتٍ غير ضرورية، مما يعكس تحوّلًا واضحًا في أولويات الإنفاق.
المخاوف المتعلقة بارتفاع الأسعار لم تُثنِ الكثير من المستهلكين عن التمسك بعادات الإنفاق التي اكتسبوها خلال فترة الجائحة، إذ يخطط أكثر من ثلثهم لإنفاق مزيد من المال على الترفيه والكماليات، كما هو موضح في (الشكل 5).28 وتَظهر هذه السلوكيات بوضوح في أسواقٍ مثل البرازيل، الصين، والإمارات العربية المتحدة.
وقد كشفت هذه الاتجاهات عن دلالةٍ مهمة، وهي أن المستهلكون أصبحوا يعيدون تعريف مفهوم "القيمة"، بما ينعكس بوضوحٍ على قراراتهم الشرائية. فالقنوات التي توفر خصوماتٍ أو تعتمد على البيع بالجملة لا تزال تحظى بجاذبيةٍ واسعة عبر مختلف الفئات العمرية ومستويات الدخل؛ ووفقًا للبيانات، أفاد 80 في المائة من جيل "زد" في الولايات المتحدة بقيامهم بالتسوُّق عبر متاجر بيع الجملة خلال الشهر الماضي.29 لذا، يتعيّن على العلامات التجارية إعادة النظر في استراتيجيات حضورها داخل السوق، والتوجّه نحو المنصات والقنوات التي يبحث فيها المستهلك عن القيمة الفعلية. كما ينبغي أن ترتكز العروض الترويجية على تقديم منافع ملموسة للمستهلك لتعزيز ولائه على المدى الطويل.
أربعة مسارات استراتيجية تعزّز فرص النمو للشركات الاستهلاكية
في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية غير المستقرة، وتراجع ثقة المستهلكين بشكلٍ كبير، بدأت تتغير الطريقة التي يتّخذ بها الأفراد قراراتهم الشرائية. وبينما يواجه قطاع الاستهلاك العديد من التحديات، لا تزال هناك فرصٌ حقيقية للنمو. ومن هذا المنطلق، رصدنا أربعة مساراتٍ استراتيجية يمكن أن تساعد الشركات في الحفاظ على قدرتها التنافسية وتحقيق نتائج ملموسة خلال العام القادم، وهي:
-
فهم المستهلكين بشكلٍ أعمق وأدق: لم يعد من السهل توقّع سلوك المستهلك كما في السابق، إذ لم تعد مشاعره وانطباعاته مرتبطةً بشكلٍ مباشر بقراراته الشرائية. ولهذا، أصبحت الشركات بحاجةٍ إلى فهمٍ شاملٍ ودقيقٍ لعملائها، يُمكّنها من اتخاذ قراراتٍ استباقية ومدروسة. وذلك عبر جمع المعلومات الدقيقة من مختلف القنوات مثل المواقع الإلكترونية أو المتاجر الخاصة بتلك الشركات، والاستفادة من الأدوات الذكية، وأبرزها تقنيات الاستماع الاجتماعي المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والتي تتيح تتبّع ما يُقال عن العلامة التجارية عبر المنصات الرقمية. أما الشركات التي لا تمتلك بياناتٍ مباشرة عن عملائها، فعليها تطوير قدراتها في جمع وتحليل المعلومات، حتى وإن كانت من قطاعاتٍ أخرى خارج نطاقها التقليدي.
غير أن امتلاك البيانات لا يُعد كافيًا بحد ذاته؛ فلكي تتمكن الشركات الاستهلاكية من استثمار هذه البيانات بفعالية، لابد من استخدام أدوات تحليلٍ ذكية تُمكّنها من تحويل البيانات إلى رؤى تنبؤية وتحليلية قابلة للتنفيذ، مثل توقع احتمالية تراجع ولاء العملاء، أو تحديد المنتجات التي يفضلها كل عميل، إلى جانب تقديم توصياتٍ شخصية مخصّصة لكل مستخدم. إن هذا النهج يُمكّن الشركات من تخصيص التجربة التسويقية لكل مستهلكٍ على حدة، ويُعزز من كفاءة الحملات التسويقية من خلال الوصول إلى الجمهور المناسب في الوقت المناسب.
- بناء نظام ذكي لإدارة نمو الإيرادات: في ظل تزايد وعي المستهلكين بالأسعار وتزايد قدرتهم على المقارنة الفورية بين أسعار المنتجات عبر المنصات الرقمية، لم يعد الأداء التسويقي التقليدي كافيًا لتعزيز المبيعات. فأمام هذا التحول في السلوك الاستهلاكي، يتحتم على الشركات تبنّي نهجًا أكثر ذكاءً لإدارة نمو الإيرادات، ليساعدها على اتخاذ قراراتٍ دقيقة حول التسعير، وتحديث تشكيلات المنتجات حسب الحاجة، بالإضافة إلى تحسين العروض الترويجية، حتى تتمكّن الشركات من تقديم المنتجات المناسبة بالسعر المناسب وفي التوقيت المناسب. ويعتمد هذا النهج على استخدام أدوات تحليلٍ متقدمة – مثل الذكاء الاصطناعي التنبؤي، ومصادر بيانات سلوك المستهلك، والرؤى المدعومة من المستهلك – تُمكّن الشركات من توقّع احتياجات المستهلك وتقديم عروضٍ مخصصةٍ بدقة، بما يضمن الوصول إلى الجمهور المناسب وتحقيق أقصى استفادةٍ من الميزانيات التسويقية. كما يُمكن للعلامات التجارية أن تعزز شراكاتها مع متاجر التجزئة من خلال ربط استراتيجيات التسعير بالإعلانات الرقمية داخل المتاجر، وتبادل البيانات لدعم النماذج التحليلية بما يسمح بتحسين الأداء وتطوير عروضٍ أكثر تخصيصًا وقيمة.
- إدارة الحافظة بذكاءٍ لتحقيق النمو المستدام: في عالمٍ سريع التغيّر تقوده علاماتٍ تجارية مبتكرة واتجاهاتٍ استهلاكية متسارعة، تواجه الشركات تحديًا جوهريًا في الحفاظ على وتيرة نموها وسط بيئةٍ غير مستقرة. وهو ما يتطلب إعادة تقييم الحافظة الاستثمارية بشكلٍ دائم، سواء من خلال الاستحواذ على كياناتٍ جديدة، أو التخارج من الكيانات التي لم تعد تواكب تطورات السوق. وتشير الدراسات إلى أن الشركات التي تنجح في تحقيق 20 إلى 30 في المائة من إيراداتها من مصادر جديدة خلال كل عقدٍ زمني، تكون أكثر قدرةً على النمو والمنافسة. وقد أظهرت التجربة أن اتباع هذا النّهج المرن والجريء يساهم في تحقيق عائدٍ إجماليٍ أعلى للمساهمين بنسبة 2.5 نقطة مئوية مقارنةً بالشركات التي تعتمد فقط على النمو التقليدي. ولتحقيق ذلك الهدف، يجب على الشركات تحديث وتغيير أساليبها وإجراءاتها التشغيلية لتناسب التحديات والفرص الجديدة. وفي ضوء هذه التحوّلات، تزداد أهمية التجارة الإلكترونية بوصفها إحدى المجالات التنافسية الأكثر نموًا، خاصةً مع اقتحامها السريع للأسواق الناشئة، وظهور نماذج جديدة للتجارة مثل البيع عبر منصات التواصل الاجتماعي.
- تحديث البنية التقنية للشركات: حتى لو التزمت الشركات الاستهلاكية بجميع التوجهات الاستراتيجية السابقة، فإنها لن تحقّق التميز الحقيقي ما لم تُحدث تغييراتٍ جوهرية في قدراتها التقنية، بما في ذلك إعادة الهيكلة الداخلية لاستيعاب الاستثمارات التكنولوجية الخاصة بالتحوّل الرقمي والاستفادة من حلول الذكاء الاصطناعي الحديثة. وتُظهر التقديرات أن الاستخدام الفعّال لأكثر من 140 حالة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي العاملة والتوليدية، والتي تُحدث تحولًا حقيقيًا في طريقة فهم المستهلك وإدارة القنوات وتحسين تجربة العملاء، يُعد أحد أبرز مفاتيح النجاح. أما الشركات التي تنظر إلى التكنولوجيا كاستثمارٍ طويل الأمد، فقد تتمكن من تحقيق قفزةٍ نوعيةٍ في أرباحها التشغيلية تصل إلى 15 نقطة مئوية.
في ظلّ ضبابية المشهد وتقلّبات السلوك الاستهلاكي، يظلّ التكيّف السريع والقدرة على استباق احتياجات المستهلك، هي السبيل للحفاظ على التنافسية. فالعلامات التجارية التي تمتلك القدرة على استباق تحوّلات السوق والتجاوب بمرونةٍ مع المتغيرات، ستتمكّن من تعزيز مكانتها وتحقيق النمو، حتى في أحلك الظروف.