يشكل هذا التقرير استكمالًا لمقالة نشرها مركز ماكنزي العالمي للأبحاث في شهر مايو من العام الحالي 2022 بعنوان "تأمين مستقبل أوروبا أبعد من الطاقة: التصدي للفجوة المؤسسية والتكنولوجية".
لعبت الأزمات دورًا رئيسيًا في رسم ملامح أوروبا كما نعرفها اليوم، حيث جاء تأسيس الاتحاد الأوروبي بعد الكوارث التي سببتها الحرب العالمية الثانية، وشكل سقوط جدار برلين نقطة الانطلاق لمسيرة انتعاش الاقتصادات في أوروبا الوسطى والغربية. فيما أدت الأزمة المالية العالمية عام 2008 وما تلاها من أزمة في منطقة اليورو إلى تعزيز التعاون المالي بين الدول الأوروبية. أما جائحة كوفيد-19 فقد دفعت بأوروبا إلى الارتقاء بالتنسيق المالي إلى مستوى جديد من خلال صندوق التمويل ”نيكست جينيريشن إي يو“.
وجاءت أحدث الهزات التي ضربت القارة الأوروبية من خلال الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي لم يتسبب بكارثة إنسانية وحسب، بل وكشف الكثير من نقاط الضعف في القارة، بدءًا من الأمن الغذائي، مرورًا بالطاقة، وانتهاءً بالدفاع. وجاءت الحرب لتؤكد أن القدرة على مقاومة الأزمات تعتمد على قوة الاقتصاد والاستقلال الاستراتيجي في الجوانب الحساسة، وهي المقومات التي ظل توافرها لفترة طويلة يُعتبر أمرًا مفروغًا منه.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
وتلعب التكنولوجيا بدورها دورًا حيويًا، وإذا لم تستطع أوروبا اللحاق بغيرها من المناطق العالمية الكبرى في مجال التقنيات الرئيسية، فإنها ستعاني من ضعف في النمو والتنافسية في مختلف القطاعات (وهو ما سيضعف بدوره من سجل القارة المتميز نسبيًا على صعيد الاستدامة والشمول)، بما في ذلك الأمن والقوة الاستراتيجية، ما سيعيق بالتالي قدرتها على مواجهة الأزمات على المدى الطويل. ويمكن القول إن الهزات الكبرى التي تشهدها القارة في قلب أراضيها قد جعلت الحاجة إلى أوروبا قوية أكبر من أي وقت مضى، إلا أن تحقيق ذلك يتطلب من المنطقة التصدي لأزمة التنافسية التي تتطور ببطء منذ عقدين من الزمن، والتي تتمحور حول الفجوة التكنولوجية والمؤسساتية التي تفصلها عن باقي المناطق الكبرى، وهو الموضوع الذي تتناوله هذه المقالة. ويتطلب التصدي لهذه الفجوة من قادة أوروبا إبداء القدر ذاته من الحزم والتعاون الذي أبدوه في استجابتهم الأولية للحرب في أوكرانيا.
وعلى الرغم من وجود العديد من الشركات عالية الأداء في أوروبا، فإن الأداء الإجمالي للشركات الأوروبية هو أضعف مقارنة بأداء الشركات في بقية المناطق الكبرى: فالشركات الأوروبية متأخرة عن الشركات الأمريكية من حيث سرعة النمو، وحجم الإيرادات، وقيمة الاستثمار في مجال البحوث والتطوير. ويعكس ذلك بشكل كبير حقيقة أن أوروبا لم تنجح في الإفادة من آخر الثورات التكنولوجية كما ينبغي، وتأخرت عن المنافسين من حيث النمو والقيمة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وغيرها من الابتكارات الثورية.
وقد أدت الثورة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وغيره من القطاعات التقنية إلى نشوء مجموعة من التقنيات العرضانية*، أي التي تنتشر أفقيًا على امتداد مختلف القطاعات وتحدد بذلك آليات المنافسة. ونتناول في هذه الدراسة عشر تقنيات عرضانية*، لنجد أن أوروبا تحتل الصدارة في اثنتين منها فقط. وإذا لم تنجح أوروبا في المنافسة في هذه التقنيات، فستخسر مواقعها الراسخة في القطاعات التقليدية أيضًا. ومن الأمثلة العديدة على ذلك قطاع السيارات، الذي لطالما كانت أوروبا تتمتع بموقع ريادي فيه، لكنها قد تتأخر عن الركب في مجال القيادة الذاتية.

أنتم مدعوون
هناك الكثير على المحك بالنسبة لأوروبا، إذ تشير تقديراتنا إلى أن القارة مهددة بخسارة 2-4 تريليون يورو من القيمة المؤسسية المضافة سنويًا بحلول عام 2040، وهي قيمة من شأنها توفير فرص العمل والأجور، والاستثمارات، والنمو الاقتصادي بما يعود بالنفع على المجتمع عمومًا. ولكي نفهم الحجم الحقيقي للقيمة المهددة، فهي تعادل 30 - 70 بالمئة من الزيادة المتوقعة في الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا بين عامي 2019 و2040، أو ما يعادل نموًا بمعدل نقطة مئوية واحدة لكل سنة؛ وستة أضعاف القيمة الإجمالية التي تحتاجها القارة للوصول إلى الحياد المناخي بحلول عام 2050؛ و90 بالمئة من إجمالي الإنفاق الاجتماعي الأوروبي الحالي، أو ما يعادل 500 يورو من الدخل الإجمالي لكل مواطن أوروبي في الشهر.
وإن الفشل في التصدي لهذه الأزمة سيعيق أوروبا على أكثر من صعيد، بما فيها النمو، والشمول، والاستدامة، والاستقلال الاستراتيجي، والتأثير على المسرح الدولي. وتستطيع أوروبا مواصلة الاستفادة من نقاط قوتها، وفي مقدمتها النموذج الاقتصادي-الاجتماعي الناجح حتى الآن، ولكن إذا أرادت الشركات الأوروبية أن تتمتع بالحجم والسرعة المطلوبتين للمنافسة في عالم يشهد انتشار الثورة التكنولوجية في جميع القطاعات، وهي منافسة أصبحت كثيرًا ما تنتهي بفوز طرف وحيد بالنصيب الأكبر من المكاسب المتاحة، فإن عليها إعادة النظر في المبادئ والأولويات التي تلتزم بها منذ فترة طويلة. ويمكن توفير البيئة المناسبة لتحقيق ذلك من خلال حزمة متكاملة من المبادرات، والتي تضمن في الوقت ذاته الحفاظ على السوية العالية من جودة الحياة التي يتمتع بها اليوم العديد من المواطنين الأوروبيين على المدى الطويل.
تتمتع أوروبا تاريخيًا بسجل ممتاز في مجال الاستدامة والشمول، مع أداء متفاوت في مجال النمو
يتطلب التحسين المتواصل لحياة جميع الأوروبيين على المدى الطويل تحقيق الاستدامة، والشمول، والنمو، وهي عوامل تقوي - أو تضعف - بعضها البعض، لذا فإنها ليست مسألة مفاضلة بين هذه العوامل، بل ضرورة الجمع بينها. فما هو موقع أوروبا على هذه الصعيد؟ (انظر العمود الجانبي: "أوروبا: النطاق الجغرافي للدراسة").
يظهر تحليلنا أن أوروبا، على الأقل بجزئها الشمالي والقاري، تحتل مكانة ريادية في مجال الاستدامة والشمول (الشكل 1). وعندما تنجح أوروبا في جانب ما، فإن نجاحها يكون متميزًا. إلا أن أداءها على صعيد النمو أقل قوة في الوقت الحالي، حيث كان النمو في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بطيئًا خلال العقدين الماضيين، على نحو يشابه الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، ما يزال نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أوروبا أقل من نظيره في الولايات المتحدة بنسبة 30 بالمئة، إذ ثبتت الفجوة بين الاثنين بعد أن كانت آخذة في التضاؤل.
وبالنسبة للاستدامة، فإن معدل الانبعاثات التي تنتجها أوروبا من غاز ثنائي أوكسيد الكربون أقل من الولايات المتحدة بواقع 2.4 مرة لدى قياسه بالنسبة للفرد، وبواقع 1.8 مرة لدى قياسه بالنسبة لواحدة الناتج المحلي الإجمالي. كما أن كِلا هذين الرقمين قد انخفضا بسرعة أكبر في أوروبا من الولايات المتحدة منذ عام 1990. إلى جانب ذلك، تعهدت أوروبا بالوصول إلى الحياد الكربوني قبل المناطق الأخرى.
وعلى صعيد الشمول، تحتل أوروبا الصدارة في معظم المجالات، بما فيها المساواة، والتقدم الاجتماعي، والرضا عن الحياة. كما تبلغ اللامساواة في الدخل 30 نقطة مئوية فقط على مؤشر جيني، مقارنة بـ 41 في الولايات المتحدة. وتحتل الدول الأوروبية المراتب العشر الأولى على مؤشر الحراك الاجتماعي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. كما تتميز أوروبا إجمالًا بأعلى معدل حياة على مستوى العالم، والذي يبلغ 80 سنة في الدول الـ 27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (و80.3 سنة في مجموعة الثلاثين الأوروبية)؛ مقارنة بـ 79 سنة في الولايات المتحدة الأمريكية و77 سنة في الصين.
وفي مجال النمو والرخاء، فقد جاء النمو في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أوروبا مشابهًا للاقتصادات المتقدمة الأخرى من حيث وتيرته البطيئة في الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2019، بمعدل سنوي مركب يبلغ 1.2 بالمئة، وهو قريب من المعدل الذي حققته الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها، والذي بلغ 1.1 بالمئة. إلا أن النمو في الناتج الإجمالي المحلي بقيمته المطلقة بلغ 1.9 بالمئة في السنة بالنسبة للولايات المتحدة، مقارنة بـ 1.4 بالمئة بالنسبة لأوروبا، وهو ما يعكس المعدل الأكبر للنمو السكاني في الولايات المتحدة. ولا يزال نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أوروبا يقل عن نظيره في الولايات المتحدة بنسبة تبلغ حوالي 30 بالمئة. وتأتي نسبة 40 بالمئة من هذا الفارق من الاختلاف المقصود في شروط العمل (تتميز أوروبا، على سبيل المثال، بسن تقاعد أخفض وإجازات سنوية وإجازات أمومة أطول مقارنة بالولايات المتحدة)، فيما تنتج نسبة 30 بالمئة من الفارق عن الانقسامات الكبيرة المستمرة بين مختلف مناطق أوروبا. ومع ذلك، وعلى صعيد توزيع الدخل، فإن العاملين الـ 9 بالمئة الأعلى دخلًا في الولايات المتحدة الأمريكية يتقاضون أجورًا أعلى من نظرائهم من الشريحة نفسها في أوروبا، فيما تشكل شريحة العاملين الـ 10 بالمئة الأقل دخلًا الشريحة الوحيدة التي تتقاضى في أوروبا أجورًا أعلى من نظيرتها في الولايات المتحدة.
الشركات الأوروبية تتأخر عن المنافسين مع انتشار الضعف التكنولوجي في مختلف القطاعات
يشكل المجال التقني نقطة ضعف مزمنة للشركات الأوروبية، والتي أصبحت أكثر وضوحًا أكثر من أي وقت مضى في ضوء الأرقام الحالية. واعتُبرت هذه الفجوة لوقت طويل نتيجة للتخصص والأفضلية التنافسية لأوروبا في مجالات أخرى (في قطاعات الكيماويات، والمواد، والأزياء على سبيل المثال)، وبالتالي فإنها لا تشكل سببًا للقلق. إلا أن هذا لم يعد صحيحًا اليوم، حيث تنتشر التكنولوجيا في مختلف القطاعات من خلال التقنيات الرئيسية واسعة الانتشار، كالذكاء الاصطناعي والثورة الحيوية والتكنولوجيا السحابية.
تُشكل التكنولوجيا نقطة ضعف واضحة ومعروفة بالنسبة لأوروبا بوصفها تحديًا ضخمًا ومتزايدًا يعيق أداء الشركات الأوروبية
وتُظهر البيانات أن الأداء الإجمالي للشركات الأوروبية لا يزال دون المتوقع. ولفهم الفوارق في أداء الشركات بين أوروبا وغيرها من المناطق الكبرى، استخدمنا أداة ماكنزي لتحليل أداء الشركات، وقمنا من خلالها بدراسة عينة تضم أكثر من ألفي شركة أمريكية وأوروبية تبلغ عوائدها أكثر من 1 مليار دولار سنويًا.
وأظهر التحليل أن أداء الشركات الأوروبية كان أضعف من الشركات الأخرى المشمولة بالدراسة في الفترة الممتدة بين عامي 2014 و2019، حيث كانت ربحيتها أقل بنسبة 20 بالمئة (من حيث العائد على رأس المال المستثمَر)، وسرعة نمو عوائدها أبطأ بنسبة 40 بالمئة، واستثماراتها أقل بنسبة 8 بالمئة (من حيث قيمة الإنفاق الرأسمالي نسبة إلى رأس المال المستثمَر)، وإنفاقها على البحوث والتطوير أقل بنسبة 40 بالمئة خلال تلك الفترة.
وبرز القسم الأعظم من هذه الفوارق في قطاعات الابتكار التكنولوجي، وتحديدًا تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والصناعات الدوائية. وقد كانت هذه القطاعات مجتمعةً مسؤولة عن 90 بالمئة من الفارق الملاحظ بين الشركات الأوروبية ونظيرتها الأمريكية في العائد على رأس المال المستثمَر، و80 بالمئة من الفارق في الاستثمارات، و60 بالمئة من الفارق في النمو، و75 بالمئة من الفارق في الإنفاق على البحوث والتطوير (الشكل 2).
لا يمكن لأوروبا أن تواصل السير على منهجيتها الحالية في ظل انتشار التكنولوجيا في مختلف القطاعات، والزيادة في المكاسب التي تتيحها التكنولوجيا من ناحية التوسع وحجم الأعمال، وتنامي الاستقطاب في المنافسة
كانت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في السابق تُعد قطاعًا مستقلًا، لكنها اليوم تشكل جزءًا لا يتجزأ من مختلف القطاعات الأخرى. كما أن القاعدة التكنولوجية التي تأسست في هذا القطاع شكلت نقطة انطلاق لظهور طيف متنوع من التقنيات الرئيسية واسعة الانتشار، والتي تنتشر بشكل أفقي لتشمل مختلف القطاعات العمودية. ويؤدي ذلك إلى انتقال عملية إنشاء القيمة المضافة لتتركز في هذه المناطق الأفقية، مع تغير شروط المنافسة لتتيح لطرف وحيد الاستئثار بمعظم المكاسب المتاحة، وهو ما يؤدي بدوره إلى آثار شبكية متسلسلة على مستوى الابتكار التكنولوجي، إلى جانب مكاسب الحجم التي يحققها اعتماد التكنولوجيا. ووفقًا لتقديرات المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن 70 بالمئة من إجمالي القيمة المضافة للاقتصاد ككل خلال السنوات العشر المقبلة سيعتمد على الوسائط الرقمية، وهو الاتجاه الذي اكتسب زخمًا وتسارعًا إضافيين نتيجة جائحة كوفيد-19 (الشكل 3).
افتقار أوروبا إلى الحجم المطلوب في التقنيات الرئيسية واسعة الانتشار يهدد مواقعها في جميع القطاعات الأخرى تقريبًا، بما في ذلك مواقع الصدارة التقليدية في قطاع السيارات والبضائع الفاخرة
لم تستطع أوروبا مجاراة الولايات المتحدة في موجة التكنولوجيا الأولى، والتي تركزت على الإنترنت والبرمجيات، وهو ما يضعف موقعها اليوم بالنسبة للتقنيات الرئيسية واسعة الانتشار في مختلف القطاعات. ونلقي الضوء على عشر تقنيات رئيسية واسعة الانتشار يتوقف عليها أداء أوروبا وازدهارها المستقبلي، ونجد أن أوروبا تحتل الصدارة في اثنتين فقط من هذه التقنيات (الشكل 4).
ونورد هنا بضعةً من بين أمثلة عديدة على الفجوة التي تفصل أوروبا عن المنافسين في التقنيات الرئيسية واسعة الانتشار. ففي مجال الحوسبة الكمومية، فإن 50 بالمئة من الشركات العشر الكبرى التي تستثمر في هذه التقنية هي من الولايات المتحدة الأمريكية، و40 بالمئة منها في الصين، بينما لا توجد أية واحدة منها في دول الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة لتقنية الجيل الخامس، والتي تشكل عنصرًا رئيسيًا من وسائل الاتصال المستقبلي، تستحوذ الصين على ما يقارب 60 بالمئة من التمويل الخارجي، متقدمة على الولايات المتحدة (27 بالمئة) وأوروبا (11 بالمئة). وفي مجال الذكاء الاصطناعي، استحوذت الولايات المتحدة الأمريكية على 40 بالمئة من التمويل الخارجي في الفترة بين عامي 2015 و2020، فيما استحوذت آسيا (متضمنة الصين) على 32 بالمئة وأوروبا على 12 بالمئة فقط. وتتمتع أوروبا بقاعدة علمية قوية وخزان كبير من الكفاءات في مجال التكنولوجيا الحيوية، كما أثبتت خلال الجائحة قدرتها على الابتكار في هذا القطاع. إلا أن الاستثمار في التكنولوجيا الحيوية لا يزال متباينًا بين المناطق المختلفة، حيث بلغ حجم الاستثمارات الأمريكية في القطاع 260 مليار دولار أمريكي في الفترة بين عامي 2018-2020، مقارنة بـ 42 مليار دولار أمريكي استثمرتها أوروبا، و19 مليار دولار أمريكي استثمرتها الصين في هذا القطاع خلال الفترة ذاتها.
أما في مجال التكنولوجيا النظيفة، فإن أوروبا تحمل طموحات أكبر من معظم المناطق الأخرى من حيث أهدافها في تخفيف الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2030، لكنها بدأت تفقد أفضليتها ضمن الموجة الجديدة من التقنيات النظيفة. ورغم أن الشركات الأوروبية تتفوق على نظيرتها الأمريكية بنسبة 38 بالمئة، وعلى الصينية بنسبة تتجاوز الضعفين، من حيث عدد براءات الاختراع في التكنولوجيا النظيفة، كما أنها تتفوق من حيث عدد التقنيات الجاهزة التي تم تركيبها نسبة للفرد، فإن فرص أوروبا في مواصلة ريادتها لهذا القطاع آخذة بالتراجع. إذ تحتل الصين صدارة إنتاج التقنيات النظيفة في جميع المجالات تقريبًا، وبحصص سوقية تتجاوز 50 بالمئة في كثير من الحالات، كما أن الولايات المتحدة تتمتع بالصدارة في معظم التقنيات الجديدة.
ويشكل افتقار أوروبا إلى الحجم المطلوب في التقنيات الرئيسية واسعة الانتشار تهديدًا لمواقعها في جميع القطاعات الأخرى تقريبًا، بما في ذلك مواقع الصدارة التقليدية في قطاع السيارات والبضائع الفاخرة. فعلى مستوى قطاع السيارات، فإن الشركات المصنعة الأمريكية مسؤولة عما يقارب 70 بالمئة من المسافة المقطوعة من قبل السيارات ذاتية القيادة من المستوى الرابع.
ثمة قيمة كبيرة على المحك، ليس على صعيد النمو وحسب، بل أيضًا على صعيد الاستدامة والشمول واستقلال أوروبا الاستراتيجي.
لا يقتصر التهديد على أداء الشركات الأوروبية، أو خبراتها التكنولوجية، أو نموها وازدهارها الاقتصادي وحسب، لكنه يشمل أيضًا التقدم الذي أحرزته أوروبا حتى الآن على صعيد الاستدامة والشمول. وعلى الرغم من وجود أصوات تنادي بالحاجة إلى إبطاء النمو بهدف تحقيق الاستدامة وكبح التغير المناخي، فإن الحجج المناهضة لهذا الموقف تبدو مقنعةً أيضًا، إذ تقول بأن النمو يعزز الثقة ويوفر مناخًا صحيًا للاستثمارات، بما يتيح تقديم ابتكارات جديدة تتركز على الاستدامة، إلى جانب توفير مصادر دخل جديدة ستكون مطلوبةً لتحقيق التحول على مستوى الطاقة. كما أن إبطاء النمو سيقوض من جهود الشمول نتيجة تقليل الموارد المتاحة لتمويل البرامج الاجتماعية.
وإذا لم تحسّن أوروبا من أدائها في مجال التقنيات الرئيسية واسعة الانتشار، فإن الشركات الأوروبية مهددة بفقدان قيمة مضافة تقدر بـ 2 - 4 تريليون دولار أمريكي سنويًا بحلول عام 2040،وبالتالي تفويت الفرصة لاستغلال هذه القيمة في تحسين الأجور والرعاية الصحية وزيادة الاستثمارات في مجال الاستدامة، وغيرها من المجالات. وتعادل القيمة المضافة المهددة 30 - 70 بالمئة من الزيادة المتوقعة في الناتج الإجمالي لأوروبا بين عامي 2019 و2040، أي ما يعادل النمو بواقع نقطة مئوية واحدة في سنة. ولكي نفهم الحجم الحقيقي لهذه القيمة على نحو أفضل، يكفي أن نقول إنها تعادل ستة أضعاف القيمة الإجمالية التي تحتاجها القارة للوصول إلى الحياد المناخي، و90 بالمئة من إجمالي الإنفاق الاجتماعي الأوروبي الحالي (الشكل 5).
تدور الكثير من النقاشات حول الاستقلالية أو الاعتماد على الغير في مجال الطاقة، إلا أن التحولات في الاقتصاد العالمي تبرز الحاجة إلى تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية في مجال التقنيات الحساسة. ولا تتعارض الاستقلالية التكنولوجية مع الاقتصاد المفتوح والتعاون الدولي، بل يمكن تحقيقها بالاعتماد على مصادر عالمية متعددة ومستقلة إلى جانب الشركات الأوروبية ذات البصمة القوية على مستوى العالم. لكن ذلك سيحتاج بدوره إلى بناء قدرات الشركات الأوروبية وتوسيع حجم أعمالها، إذ لا يلبي إنتاج أوروبا اليوم، مثلًا، من أشباه الموصلات سوى 9 بالمئة من حاجة القارة، فيما تقتصر حصة الشركات الأوروبية على 10 بالمئة من سوق أشباه المواصلات، ويشمل ذلك مختلف مراحل سلسلة القيمة. كما لا يوجد في أوروبا أي شركة تزيد حصتها من سوق البنية التحتية كخدمة عن 1 بالمئة.
ينبغي لصناع القرار والشركات الأوروبية المبادرة بشكل فعّال لإحداث نقلة نوعية على مستوى القدرات التكنولوجية للقارة وموقعها التنافسي
لدى أوروبا العديد من نقاط القوة التي ينبغي أن تستفيد منها، ومن ضمنها أنظمة التعليم عالية الجودة، والتي تخرج كفاءات ريادية في مجالات العلم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، إلى جانب العاملين المدربين مهنيًا، والذين يتميزون بأعلى مستويات الإنتاجية. كما تُشكل أوروبا الاقتصاد الكبير الأكثر انفتاحًا وتواصلًا على مستوى العالم. إلا أن حجم التهديد الاقتصادي المحدق بالقارة يقتضي من صناع القرار التفكير في اعتماد منهجيات جديدة ومبتكرة، وإعادة ترتيب الأولويات التي يتخذون قراراتهم بناءً عليها، وهي خطوات لم يتم الإقدام عليها حتى الآن نظرًا لتعقيدها وحساسيتها.
في ظل ازدياد صعوبة المنافسة، تحتاج أوروبا إلى زيادة سرعة وحجم نشاطها وتهيئة بيئة متكافئة تعزز من قدرة شركاتها على المنافسة
بالتوازي مع انتقال مصادر المنافسة والنمو لتتركز حول الابتكارات الثورية والجوانب غير الملموسة، فقد شهدت المنافسة بحد ذاتها تغيرًا في طبيعتها، وأصبحت تقود إلى استئثار رابح وحيد بمعظم المكاسب المتاحة، ما يزيد من الأهمية الفائقة لحجم الأعمال وسرعتها وتوافر المنظومات التقنية الموثوقة. كما يزداد هذا التحدي تعقيدًا وعمقًا مع التغيرات التي يمر بها المشهد الجيوسياسي.
وفي هذا السياق، فإن أوروبا تواجه مجموعة من التحديات التي تُضعف موقفها، ومن بينها أربعة تحديات بارزة على وجه الخصوص تزيد من شدة بعضها البعض، وهي: التجزئة والافتقار إلى حجم الأعمال الكبير؛ والافتقار إلى المنظومات التقنية الموثوقة؛ وقلة النضج والتطور على مستوى التمويل من قبل رأس المال المخاطر؛ والمنظومة التشريعية التي لا تدعم الابتكارات الثورية بالقدر الكافي.
ويعرف قادة أوروبا هذه التحديات جيدًا، كما يدركون باهتمام الخطوات المطلوبة على المستوى المؤسسي، وهو ما تُرجم عمليًا من خلال تصميم وإطلاق العديد من المبادرات لهذا الهدف. فعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، تم إطلاق برنامج أفق أوروبا الذي تبلغ قيمته 95 مليار دولار، ومبادرة التخصص الذكي، وإطار عمل المشاريع الهامة ذات المصلحة الأوروبية المشتركة، وبرنامج العقد الرقمي.
ولكن إذا أرادت أوروبا أن تتصدى للفجوة التي تواجهها على مستوى أداء الشركات، وتجنب أزمة قد تتطور ببطء خلال السنوات المقبلة، فقد يكون من المفيد لها أن تجيب على سؤال واحد: هل يعد مجموع المبادرات التي يجري العمل عليها أو التخطيط لها حاليًا، مساويًا من حيث الحجم لما تقوم به المناطق الرائدة الأخرى، أم أنه يفوقه وبالتالي يتيح اللحاق بتلك المناطق انطلاقًا من موقع أوروبا المتأخر حاليًا؟
يمكن لأوروبا أن تعزز قدرة شركاتها على المنافسة من خلال إعادة النظر في أولوياتها ضمن 11 مبادرة تتصل بالسياسات والتشريعات المعمول بها
نقدم كبداية 11 مبادرةً يمكنها أن تشكل جزءًا من حزمة متكاملة تهدف إلى تغيير قواعد اللعبة بالنسبة للشركات الأوروبية وتتيح لها تجاوز مجموعة متنوعة من العقبات المختلفة (الشكل 6). ومن شأن هذه المبادرات أن تساعد الشركات على زيادة حجمها واستقطاب التمويل اللازم لذلك، وتسريع وتيرة أعمالها ودرجة حريتها، فضلًا عن تعزيز فرص المنافسة المتكافئة مع المناطق الأخرى والشركات التقليدية ذات المكانة الراسخة. وتدور العديد من المبادرات حول مواضيع كانت محط جدل لفترة طويلة، وتتطلب تنازلات كبرى، لكن تحليلنا هذا يدعو إلى إعادة النظر في الموقف الحالي الذي تتخذه أوروبا من هذه الجوانب الشائكة. وقد أظهرت الاستجابة الأولية للغزو الروسي لأوكرانيا أن أوروبا قادرة على الاستفادة من حجمها والتحرك بسرعة لدى مواجهة تحديات خطيرة، وهي المنهجية ذاتها التي ينبغي اعتمادها لمواجهة الأزمة التي تتطور ببطء على مستوى التكنولوجيا والقدرة التنافسية. ونرحب بالتعليقات ومشاريع التعاون لتطوير هذه الأفكار المبدئية.
- التوسع وتمويله. يُعد حجم الأسواق والشركات والاستثمارات جانبًا هامًا في التقنيات الرئيسية واسعة الانتشار، فهل تستطيع أوروبا زيادة وتجميع مواردها في هذا المجال، وصياغة لائحة قواعد للشركات الأوروبية تنظم عمل الشركات عالية النمو، وتسرع وتشجع الاندماج العابر للدول، بما في ذلك إتمام السوق الواحدة؟ هل تستطيع أوروبا زيادة خزانها من رأس المال التوسعي، وبحث إمكانية إقامة تحالف بين الجهات المهتمة لزيادة المشتريات العامة ودعم الأبحاث والتطوير؟ كما يمكن في هذا الإطار بحث زيادة الدعم التنموي لدول أوروبا الوسطى والشرقية وأجزاء من أوروبا الجنوبية.
- السرعة والبساطة. هل يمكن لأوروبا أن تعيد موازنة منهجيتها التشريعية بالنسبة لبعض التقنيات الثورية، والتي تنطلق حاليًا من الحرص البالغ على حماية المستهلك، إلى منهجية أخرى توازن بين تكاليف وفوائد التجريب السريع والابتكار الثوري؟ هل يمكن لأوروبا أن تدرس تطوير عمليات تسرع من اتخاذ القرار وإصدار الموافقات القانونية اللازمة، وخاصة في ما يتعلق بالابتكارات الثورية؟ وما هو النطاق المتاح لتسريع عمليات إعادة توزيع وإعادة بناء مهارات اليد العاملة في مواجهة الثورة التكنولوجية التي تواصل انتشارها؟
- تهيئة الفرص المتكافئة. أين يمكن لتدخل الدولة أن يدعم القدرة التنافسية للشركات الأوروبية على المستوى العالمي؟ هل ستدرس أوروبا تهيئة الفرص المتكافئة للشركات الأصغر حجمًا لمنافسة الاحتكارات الرقمية التقليدية؟ هل يمكن لأوروبا أن تفتح النقاش حول كيفية حماية الشركات الناشئة ذات الخبرة التكنولوجية قبل أن تجد نفسها في مواجهة القوة الضاربة للمنافسين من الحجم العالمي؟ وأخيرًا، هل يمكن لأوروبا أن تدرس السبل المتاحة لتعزيز قدرتها على استقطاب الكفاءات؟
سواء تحسن المشهد التنافسي أم لا، فينبغي على ملّاك وقادة الشركات الارتقاء بأدائهم والمخاطرة من أجل المنافسة
حتى إذا تم توفير بيئة أكثر ملاءمة للمنافسة بالنسبة للشركات الأوروبية، فإن على الأخيرة أيضًا الارتقاء بأدائها، وتحقيق التوسع والمرونة المطلوبين لتحقيق النمو والنجاح ليس على الصعيد المحلي أو الإقليمي فقط، بل والدولي أيضًا. وتشمل الخيارات المتاحة ما يلي:
- تحديد أهداف بعيدة المدى تتجاوز الواقع الحالي وتعديل نظام المكافآت والحوافز. في ضوء الواقع الحالي الذي يتسم بالابتكارات الثورية المتلاحقة، ينبغي على الشركات وضع الخطط والأهداف بما يتجاوز الأعمال القائمة، وتطوير رؤية لتحقيق الريادة على المستوى العالمي خلال 10 إلى 20 سنة، مع المخاطرة والاستثمار في رأس المال والبحوث والتطوير بما يضمن تحقيق هذه الرؤية. كما يمكن للشركات الأوروبية ومجالس إدارتها أن تبحث تعديل منظومة التعويضات التي يتقاضاها الموظفون والمدراء بما ينسجم مع هذه الرؤى والمخاطر الواجب اتخاذها، إذ تبلغ نسبة موظفي القطاع الخاص في أوروبا الذين يتمتعون بشكل من أشكال الملكية في شركاتهم أقل من 5 بالمئة، مقارنة بـ 20 بالمئة في الولايات المتحدة. وقد بدأت كبرى الشركات التكنولوجية الأوروبية بالفعل في اعتماد هذه المنهجية.
- اعتماد آلية منهجية لعمليات الاستحواذ والدمج وبناء التحالفات بما يتيح اكتساب الحجم والقدرات المطلوبة. ويشمل ذلك الاندماج العابر للدول في أوروبا نفسها وعلى المستوى الدولي أيضًا، مع ما يتطلبه ذلك أحيانًا من اللجوء إلى الخيار الصعب ولعب دور الطرف البائع في إطار عمليات الدمج والاستحواذ، وذلك عندما يكون تحقيق الريادة العالمية خارج المتناول. كما تشمل هذه الناحية اللجوء إلى عمليات الاستحواذ العمودية والمعتمدة على القدرات، بهدف تسريع بناء البيئة ونقاط القوة المطلوبة للابتكار، ومن الأمثلة على ذلك الاعتماد على رأس المال المؤسسي المغامر. ويجدر بالشركات إضافة إلى ذلك أن تبادر بشكل فعّال واستباقي إلى تطوير التحالفات العابرة للقطاعات بهدف تسريع تطوير التقنيات الرئيسية واسعة الانتشار، كما يمكن للشركات ورواد الأعمال أيضًا السعي إلى تأسيس شركات ثورية جديدة.
- الاستثمار في قدرات وحوكمة التكنولوجيا والابتكار بالسرعة والحجم المطلوبين. ستحتاج الشركات إلى تطبيق حوكمة أكثر مرونة في مجال الابتكار، تركز بشكل أكبر على احتياجات العميل، وتمتاز بالقدرة على التعامل مع المشاريع طويلة الأمد الأكثر خطورةً. كما سيكون عليها إيجاد أو إعادة تخصيص الأموال للابتكار وتطوير الأعمال على المدى الطويل وبحجم أكبر مما اعتادت عليه. وأخيرًا، سيكون على الشركات بناء المهارات المطلوبة
كانت الدول الأوروبية ولا تزال تتمتع بمواقع ريادية في مجال الاستدامة والشمول، وهي منشغلة اليوم بتأمين سلامة سلاسل التوريد والطاقة والغذاء والدفاع. فمتى، وإلى أيَّة درجة ينبغي أن تقلق أوروبا أيضًا بشأن الفجوة التكنولوجية والمؤسسية التي تواجهها، والتي تهدد نموها المستقبلي واستقلاليتها الاستراتيجية؟ هل يمكن الآن الاستفادة من الزخم الكبير المتولد عن العمل المشترك في مواجهة الحرب في أوكرانيا، لإجراء التنازلات الضرورية بهدف دعم التطوير والقدرة التنافسية في مجال التكنولوجيا، والتي اعتُبرت لفترة طويلة قرارات صعبة وحساسة؟
لا زال أمام أوروبا الكثير من العمل لتحديد الطريقة المناسبة للتصدي للفجوة التي تواجهها على صعيد الابتكار والأداء المؤسسي بشكل مفصل وعملي، مع تناول كل تقنية وكل قطاع على حدة، وصولًا إلى إكساب النموذج الأوروبي القدرة على مقاومة الأزمات على المدى الطويل. وفي هذا السياق، تشكل هذه المقالة انطلاقة مبادرة ماكنزي لجمع وجهات النظر والتحليلات من مختلف أنحاء أوروبا، في محاولة للمساهمة في الإجابة على هذه الأسئلة.