كيف توظّف الإدارات المالية تقنيات الذكاء الاصطناعي في ممارساتها اليومية

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

وعلى امتداد العامين الماضيين، تصدّر الذكاء الاصطناعي عناوين الأعمال حول العالم، ولم تكن الإدارات المالية بمنأى عن هذا التحوّل المتسارع. وتشير بيانات مسحية خاصة أعدّتها ماكنزي وشملت 102 من الرؤساء الماليين في مختلف القطاعات والمناطق، إلى تنامٍ لافت في وتيرة تبنّي هذه التقنيات. فقد أفاد 44 في المائة من المشاركين بأنهم استخدموا نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي في أكثر من خمسة استخدامات خلال عام 2025، مقارنة بـ 7 في المائة فقط في العام الذي سبقه، ما يعكس انتقال الذكاء الاصطناعي من مرحلة التجربة المحدودة إلى الاستخدام الواسع والمؤثر. ولا يقتصر التحوّل على تبنّي الاستخدامات فحسب، بل يمتد أيضًا إلى حجم الاستثمار. إذ أشار 65 في المائة من المشاركين إلى أن مؤسساتهم سترفع مخصصات الاستثمار في الذكاء الاصطناعي التوليدي خلال عام 2025، فيما لم يتجاوز هذا المعدل قبل عامين ربع المشاركين تقريبًا. هذا التصاعد السريع يشير إلى إدراك متزايد بأهمية الذكاء الاصطناعي في تعزيز قدرات التحليل والتنبؤ، ودعم اتخاذ القرار المالي على مستوى المؤسسة.

ومع ذلك، تكشف التجربة الفعلية داخل المؤسسات عن حقيقة مختلفة؛ إذ ما يزال تحويل تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى قيمة ملموسة أمرًا صعب المنال. فوفقًا لإحدى الدراسات، لم ينجح سوى نحو 5 في المائة فقط من المشاريع التجريبية للذكاء الاصطناعي في إحداث تأثير حقيقي على الأرباح والخسائر.1 وهذا الرقم المتدني يعكس فجوة واضحة بين الطموح والنتائج الفعلية على أرض الواقع. ويعود هذا الأداء الضعيف في الغالب إلى مجموعة من الأسباب المتشابكة. فالكثير من المشاريع التجريبية تنهار عندما تواجه ظروف التشغيل الحقيقية، أو تفشل في التكيّف مع تدفّق البيانات الجديدة والمتغيّرة، أو تبقى معزولة عن العمليات الجوهرية للمؤسسة دون دمج فعلي يتيح لها إحداث أثر مستدام. وهكذا، يظل الذكاء الاصطناعي في كثير من الحالات مجرد تجربة واعدة لم تُترجم بعد إلى قيمة مؤسسية قابلة للقياس.

وعلى الرغم من التحديات التي تواجه الكثير من المؤسسات في تحويل الذكاء الاصطناعي إلى قيمة فعلية، فإن بعض إدارات المالية استطاعت تحقيق نتائج ملموسة من خلال الاستخدام المنهجي لهذه التقنيات. فقد نجحت فرق مالية محددة في توظيف الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك النماذج التوليدية والجيل الجديد من "وكلاء الذكاء الاصطناعي"، لتعزيز الكفاءة، وتحسين جودة التحليلات، والتخفيف من الأعباء التشغيلية المرتبطة بالمهام اليدوية المتكررة. اطلع على العمود الجانبي بعنوان: "مصطلحات أساسية لفهم المصطلحات المتخصصة في تقنيات الأتمتة والذكاء الاصطناعي ". وتتميّز هذه المؤسسات بأنها لا تعتمد على مشاريع تجريبية معزولة، بل تطبّق الذكاء الاصطناعي بشكل متكامل داخل أهم مجالات العمل المالي. وقد لاحظنا أن عددًا من الرؤساء الماليين وفرَقهم بدأوا يستخدمون الذكاء الاصطناعي لتحسين دقة التوقعات المستقبلية، ومراقبة رأس المال بصورة لحظية، وتسريع دورات إعداد التقارير، إضافة إلى كشف فرص جديدة لخفض التكاليف ورفع الكفاءة. ومع انتشار هذه الممارسات، باتت تلك الفرق المالية أكثر قدرة على التكيّف، وأكثر استعدادًا لاستشراف المتغيرات، وأفضل انسجامًا مع متطلبات مؤسساتهم المتنامية. وهكذا يتحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة دعم إلى عنصر محوري يعيد صياغة طريقة العمل المالي داخل الشركات.

وفي سياق التوسع المتسارع لاستخدام الذكاء الاصطناعي داخل الإدارات المالية، يتوقف هذا المقال عند ثلاثة مجالات رئيسية نرى استنادًا إلى خبراتنا العملية أنها تحقق أعلى قيمة مضافة للمؤسسات عند تبنّي هذه التقنيات. وتشمل هذه المجالات: التخطيط الاستراتيجي وإدارة الضوابط، وإدارة السيولة التشغيلية اليومية، وتحسين بنية التكاليف داخل المؤسسة. ولتعميق فهم هذه المحاور، يستعرض المقال في كل قسم مجموعة من دراسات الحالة التي توضّح كيف توظّف المؤسسات الرائدة نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي وأنظمة وكلاء الذكاء الاصطناعي لتطوير آليات عملها المالية ورفع كفاءتها التشغيلية. وتكشف هذه التجارب عن تحولات ملموسة في طريقة جمع البيانات وتحليلها واتخاذ القرارات، بما يعزز قدرة الفرق المالية على الاستجابة للمتغيرات بسرعة أكبر وبصورة أكثر دقة. كما يسلّط المقال الضوء على خمسة أخطاء شائعة قد تُبطئ رحلة التحوّل، ويبيّن العوامل الحاسمة اللازمة لتجاوز هذه المعيقات والانطلاق نحو تطبيق أكثر نضجًا وفاعلية للذكاء الاصطناعي داخل الوظائف المالية.

التخطيط الاستراتيجي وإدارة الضوابط: دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز جودة الرؤى المالية

تسهم أدوات دعم القرار، المعتمدة على مزيج من التحليلات التنبؤية وتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، في تسريع الوصول إلى بيانات المؤسسة وتسهيل إعداد التقارير وتشغيل عمليات التوقعات وبناء السيناريوهات المختلفة. وتعمل هذه الأدوات على تعزيز دور القيادات المالية وفرقها، مع توسيع نطاق إتاحة البيانات لتصل إلى صانعي القرار في مختلف وحدات الأعمال. وغالبًا ما تعتمد حلول الذكاء الاصطناعي على مجموعة من القدرات المشتركة، تشمل آليات تنبيه تساعد القيادات المالية على توجيه اهتمامها نحو النقاط ذات الأولوية، وتحليلات تفاعلية لأسباب الانحرافات تسهم في تفسير العوامل المؤثرة في الأداء، إلى جانب اقتراح سيناريوهات بديلة يمكن أخذها في الاعتبار عند التخطيط أو التقييم. وتبرز فاعلية الذكاء الاصطناعي في هذه المجالات بفضل قدرته على دمج طبقات متعددة من المعلومات سواء كانت خارجية أو مالية أو تشغيلية، وصياغتها في رؤية متكاملة تدعم القرارات المالية والتنظيمية ذات الأثر.

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

فعلى سبيل المثال، تعتمد إحدى الشركات العالمية العاملة في قطاع السلع الاستهلاكية على مساعد يعتمد على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدعم الفرق المالية في تحليل الفروقات بين الميزانيات ومشاركة النتائج مع القيادات التشغيلية في مختلف الأقسام والأسواق. ويُسهم هذا النظام في استبدال العمليات اليدوية المعقّدة الخاصة بمعالجة الأرقام وتجميعها، مما يؤدي إلى خفض الوقت المستغرق في هذه المهام بنحو 30 في المائة وفق التقديرات الداخلية، ويتيح للكوادر المالية التركيز على أنشطة تحليلية ذات قيمة أعلى.

وفي مثال آخر، قامت شركة عالمية في قطاع الصناعات الدوائية الحيوية بتطوير أداة متقدمة لدعم القرارات، تعتمد على الذكاء الاصطناعي التوليدي والذكاء الاصطناعي الوكيلي، وأسهمت في تقليص الزمن الذي تحتاجه الفرق المالية لاتخاذ قرارات تخصيص الموارد إلى النصف. فبدلًا من الاكتفاء بجمع التقارير يدويًا وربط البيانات بين الإدارات، أصبح الفريق يبني سيناريوهات معقّدة باستخدام اللغة الطبيعية خلال جلسات التخطيط الشهرية. وتستند هذه الأداة إلى دمج بيانات واردة من مصادر متعددة تشمل أنظمة إدارة علاقات العملاء، والبيانات المالية، وتحليلات مزيج الأنشطة التسويقية، وذلك من أجل لتوليد تنبيهات أداء دقيقة، مثل رصد تجاوزات الميزانية أو ملاحظة انخفاض العائد على الاستثمار في قنوات معينة. كما تقدّم تحليلات تفسيرية توضّح سبب التراجع، عبر تحديد الجزء المسؤول عنه داخل المنظومة، مثل القول: "يعود السبب إلى إحدى فئات الإنفاق المحددة داخل ميزانية الشركة في منطقة جغرافية بعينها". وهذا الأسلوب يوضح أن المشكلة ليست شاملة، بل مرتبطة ببند إنفاق محدد ومكان محدد، ما يُسهّل معالجتها مباشرة بدلًا من مراجعة الميزانية بأكملها. كما تقترح الأداة خطوات عملية تعتمد على البيانات، مثل التوصية بإعادة توزيع جزء من الميزانية، على سبيل المثال تحويل 10 في المائة من مخصصات فريق المبيعات نحو التسويق الرقمي استنادًا إلى الأداء الفعلي والعوائد المتوقعة. ويعكس هذا النهج كيف تسهم تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطوير عمليات التخطيط المالي وتمكين اتخاذ قرارات أكثر سرعة ودقة.

وفي مثال ثالث، اعتمدت مؤسسة مالية كُبرى في أميركا الشمالية على أداة تعمل بالذكاء الاصطناعي التوليدي لتوليد المسودات الأولى للتقارير الخاصة بمتطلبات نماذج المخاطر الداخلية والتحديثات المرتبطة بها. وتمثل هذه التقارير وثائق أساسية تُستخدم لتوضيح كيفية بناء نماذج تقييم المخاطر داخل المؤسسة وكيف تتطور مع تغيّر الظروف التنظيمية أو السوقية. كما تُسهم الأداة في إعداد نماذج مخاطر مخصّصة للأسواق المختلفة، وذلك عبر دمج بيانات المؤسسة الداخلية مع مصادر معلومات عامة متاحة للجمهور، مثل بيانات السوق والتقارير الاقتصادية. ويؤدي هذا الدمج إلى تسريع عملية كانت تستغرق سابقًا وقتًا طويلًا بسبب الحاجة إلى جمع البيانات من جهات متعددة ثم تحليلها يدويًا. ومع اعتماد هذه المنهجية، أصبحت المؤسسة قادرة على إنتاج نماذج أكثر سرعة ودقة، مع تقليل الزمن التشغيلي المرتبط بالبحث، والتحليل، وإعداد الوثائق التنظيمية. ويبرز هذا المثال الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في تحسين عمليات الامتثال وإدارة المخاطر داخل المؤسسات المالية الكُبرى.

وتتباين تطبيقات الذكاء الاصطناعي من مؤسسة إلى أخرى، إلا أنّ التجارب التي جرى اعتمادها بشكل راسخ داخل بعض الإدارات المالية تكشف عن أثر متكرر في طريقة توزيع الوقت والمهام. فقد أظهرت هذه التطبيقات أن المتخصصين في المالية باتوا يقضون وقتًا أقل يتراوح بين 20 إلى 30 في المائة في معالجة البيانات يدويًا، وهو ما أتاح لهم تحويل تلك الساعات نحو أدوار أكثر استراتيجية ترتبط بدعم تنفيذ خطط المؤسسة وتوجيه قراراتها التشغيلية. كما أسهمت هذه الأدوات في تسريع إعداد تقارير مخصّصة تستند إلى مستويات مختلفة من الصلاحيات وضوابط الوصول، بما يحافظ على أمن البيانات وهيكليتها الداخلية. ومع هذا التطور، أصبح توفير الرؤى المالية إلى وحدات الأعمال المختلفة أكثر سهولة وانتظامًا، الأمر الذي يعزز دور الإدارات المالية كجهة محورية في تحليل الاتجاهات ودعم القرارات عبر المؤسسة.

إدارة السيولة التشغيلية: دور الذكاء الاصطناعي في تدقيق الشروط والفواتير لتحقيق دقة أكبر

تُسهم مسارات العمل المعزَّزة بأنظمة وكلاء الذكاء الاصطناعي في دفع الأتمتة إلى مستوى أكثر تطورًا ضمن عمليات المدفوعات والمقبوضات "الصرف والتحصيل "، عبر إدارة الخطوات المتتابعة في هذه العمليات بطريقة متكاملة وأكثر دقة. وتشمل هذه المهام مراجعة الفواتير، ومطابقة الشروط، والتحقق من البيانات، وتحديد الأخطاء أو التعارضات التي قد تعرقل الدفع أو التحصيل. ومع هذا التطور، تصبح فرق المشتريات والمكاتب المرتبطة بها قادرة على معالجة عدد أكبر من المعاملات بوقت أقل، وبمستوى أعلى من الدقة، مقارنة بالأساليب اليدوية التقليدية. ويأتي التحسّن نتيجة قدرة هذه الأنظمة على تحليل الوثائق، وربط المعلومات من مصادر مختلفة، والتنبيه إلى أي خلل أو اختلاف يحتاج إلى تعديل، بما يرفع الكفاءة ويقلل الهدر التشغيلي.

وفي أحد التطبيقات العملية، قامت شركة عالمية تعمل في مجال التقنيات الحيوية بتطبيق نظام يعتمد على أنظمة وكلاء الذكاء الاصطناعي للتحقق من مطابقة الفواتير لشروط العقود على مدار العام. ويقوم هذا النظام بقراءة العقود والفواتير بشكل مستمر، ثم مراجعة كل معاملة للتأكد من أن الشروط التعاقدية مثل الخصومات عند الدفع المبكر، أو الأسعار المتدرجة المرتبطة بحجم الشراء، أو الحوافز المبنية على الكميات قد طُبِّقت بدقة، وهو ما يحدّ من ضياع القيمة المالية الناتجة عن سوء تطبيق هذه الشروط من قِبل المورّدين. ويعمل هذا النموذج جنبًا إلى جنب مع أدوات الأتمتة الموجودة مُسبقًا، بحيث يوسّع نطاق الرقابة ليشمل كامل محفظة إنفاق الشركة، ويقلّل الحاجة إلى المتابعة اليدوية للعقود عالية القيمة. وتكمن أهميته في قدرته على تفسير كل عقد من عقود المورّدين، وتحليل بنوده التشغيلية، ومراقبة الفواتير الواردة للتحقق من الالتزام الفعلي بالشروط. ويمتاز النظام كذلك بقدرته على كشف المشكلات التي لا تظهر في فاتورة واحدة فقط، وإنما تتضح عند النظر إلى مجموعة من الفواتير المتتابعة. فعلى سبيل المثال، قد ينصّ العقد على أن المورد يقدّم سعرًا أقل عند بلوغ حجم الشراء مستوى معين خلال فترة زمنية محددة. وهذه الميزة تعتمد على "الكميات التراكمية"، أي مجموع ما تم شراؤه من المورد خلال الأشهر السابقة. ومن خلال تتبّع هذه الفواتير بشكل جماعي، يستطيع النظام اكتشاف ما إذا كانت الشركة قد وصلت بالفعل إلى هذا الحدّ الذي يتيح لها الاستفادة من السعر الأقل، ومع ذلك لم يطبّق المورد هذا التخفيض. وفي مثل هذه الحالات، يسلّط النظام الضوء على الخلل ويُظهر أن الشركة كان يفترض أن تدفع مبلغًا أقل وفقًا لبنود العقد، مما يساعد على استرداد القيمة المالية التي قد تضيع عادةً دون ملاحظة. وبهذا الأسلوب، يوفّر النظام طبقة رقابية لم يكن بالإمكان تحقيقها يدويًا بسهولة، لأنه يجمع البيانات عبر فترة كاملة ويتتبع التغيّرات بدقة، بدل الاكتفاء بمراجعة كل فاتورة على حدة.

ومن خلال اعتماد هذا النظام القائم على الذكاء الاصطناعي، تمكّنت الشركة من كشف فجوات مالية في العقود تُقدَّر بنحو 4 في المائة من إجمالي إنفاقها، وهي نسبة تُعد شائعة في هذا القطاع. وتُعرف هذه الفجوات عادةً باسم "الخسائر الناتجة عن سوء تطبيق الشروط التعاقدية"، أي المبالغ التي كان يفترض ألا تُدفع لو طُبِّقت شروط العقود بدقة، لكنها تُفقد بسبب أخطاء في الفواتير أو سوء تنفيذ البنود التعاقدية. وفي الواقع يعد هذا الاكتشاف فرصة واضحة لاسترداد القيمة المفقودة وتحسين أداء الهوامش المالية. ولتوضيح الصورة بشكل عملي، فإذا افترض أن شركة يبلغ إنفاقها السنوي نحو مليار دولار، فإن سد فجوة تسرّب تبلغ 4 في المائة يعني تحقيق تحسّن متكرر في هامش الربحية يساوي حوالي 40 مليون دولار سنويًا. وبذلك يبرز هذا النوع من الأنظمة كأداة قادرة على تحويل رقابة العقود من عملية يدوية محدودة إلى منظومة دقيقة تكشف الفجوات الصغيرة التي تتراكم بمرور الوقت لتشكل خسائر كبيرة.

ترشيد التكاليف: كيف يكشف الذكاء الاصطناعي عن فرص التوفير عبر تحليل عمليات الإنفاق بشكل تفصيلي

يسهم الذكاء الاصطناعي في تبسيط واحدة من أكثر المهام استهلاكًا للوقت داخل الإدارات المالية، والمتمثلة في تصنيف التكاليف التفصيلية. ويتم ذلك من خلال تحليل الفواتير المعقّدة وأوامر الشراء، ثم تنظيمها ضمن فئات واضحة ومهيكلة، الأمر الذي يحوّل بيانات مشتتة وصعبة القراءة إلى معلومات منظمة يسهل التعامل معها. ومع هذا المستوى من الوضوح، يصبح بالإمكان استخدام تقنيات تحليلية متقدمة لاكتشاف الفجوات ومواطن الهدر التي لا تظهر عادة عند مراجعة البيانات بشكل يدوي. ويساعد هذا النهج على تحديد المصاريف غير المبررة أو التكرارية، ورصد أي عمليات شراء تتجاوز الأسعار المتفق عليها، مما يتيح بناء رؤية أدق حول مجالات التوفير الممكنة داخل المؤسسة.

وفي إطار سعي إحدى المؤسسات المالية الكبرى في أوروبا إلى تحسين فهمها لمستويات الإنفاق غير المباشر والسيطرة عليها، شرعت في تحديد مواطن القصور الخفية داخل عملياتها التشغيلية. ويمثل "الإنفاق غير المباشر" جميع المصروفات التي لا ترتبط مباشرة بالمنتجات أو الخدمات الأساسية للمؤسسة، مثل الطاقة، والسفر، وخدمات المرافق، وهي بنود يصعب عادة تتبعها بدقة بسبب تنوعها وتعدد أطرافها. بدأت المؤسسة بجمع بيانات الفواتير من آلاف المورّدين، وتنظيمها ضمن تصنيف تفصيلي للتكاليف يتكون من أربعة مستويات متدرجة في العمق، ويتضمن نحو 400 فئة فرعية. ويسمح هذا النوع من التصنيف ببناء صورة دقيقة للغاية للإنفاق، بدءًا من الفئة العامة وحتى التفاصيل الدقيقة لكل عملية شراء. ولمعالجة هذا الكم الكبير من البيانات وتصنيفها بكفاءة، اعتمدت المؤسسة على مزيج من نماذج اللغة الكبيرة وتقنيات التحليلات المتقدمة. وبعد تجهيز قاعدة بيانات منظمة وواضحة، أصبح بالإمكان تطبيق مجموعة من الأساليب الآلية ونصف الآلية، حيث يقوم الخبراء بمراجعة المخرجات لرصد الأنماط والانحرافات التي تشير إلى وجود هدر أو مصروفات غير مبررة. وكشفت هذه التحليلات عن فرص محددة لترشيد التكاليف وتقليل الهدر في مجالات مثل استهلاك الطاقة، والسفر والنقل، وإدارة المرافق. ورغم أن التوفير المسجّل في كل فئة كان محدودًا بشكل فردي، فإن مجموع هذه الوفورات أسهم في خفض الإنفاق بنسبة تقارب 10 في المائة من قاعدة إنفاق ضخمة تُقدَّر بمليارات اليورو. ويبرز هذا المثال القيمة التي يحققها التنظيم الدقيق للبيانات عند دمجه مع أدوات الذكاء الاصطناعي، إذ يتيح كشف الهدر المخفي الذي يصعب اكتشافه بالطرق التقليدية.

وفي مثال آخر، استطاعت شركة أوروبية كبرى تعمل في قطاع التغليف تحسين إدارتها لشبكة المورّدين التي كانت تعاني من التشتت والتعدد الكبير، وذلك عبر استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لتصنيف أكثر من 10,000 مورّد. وكانت الشركة، على مدى سنوات، تركّز بشكل رئيسي على المورّدين ذوي الإنفاق المرتفع، بينما ظل العديد من المورّدين الصّغار - وخاصة المرتبطين بالإنفاق غير المباشر- غير واضحين من حيث طبيعة الدور الذي يقدمونه أو حجم تأثيرهم على التكلفة. ومع اتساع هذه الرؤية، ظهرت فرص ملموسة لخفض التكاليف وتحسين إستراتيجيات الشراء، سواء عبر دمج بعض الفئات، أو إعادة التفاوض على العقود، أو توزيع الطلب على مورّدين يقدمون أسعارًا وخدمات أكثر تنافسية. كما كشف التصنيف الدقيق عن نقص في تنوع قاعدة المورّدين، وهي فجوة قد تؤدي إلى اعتماد مفرط على عدد محدود من الجهات، مما أتاح توسيع نطاق التوريد نحو مناطق أو فئات كانت مهملة سابقًا. وبذلك وفّر الذكاء الاصطناعي التوليدي إطارًا أوضح لإدارة العلاقة مع المورّدين، وتطوير ممارسات الشراء، وضمان توزيع أكثر توازنًا للمخاطر والفرص عبر قاعدة التوريد الكاملة.

تجاوز التحديات التي تعيق توسيع نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي في الإدارات المالية

ولتحقيق الاستفادة الكاملة من إمكانات الذكاء الاصطناعي داخل الإدارات المالية، لا يكفي الاكتفاء بإضافة أدوات جديدة إلى أساليب العمل التقليدية، بل يتطلب الأمر إعادة بناء المنظومة التشغيلية في عناصرها الأساسية من عمليات ومهارات وتقنيات حتى يصبح التبنّي فعّالًا وقادرًا على توليد قيمة حقيقية. وتُظهر التجارب أن مسار التطوير قد يتباطأ أو يتوقف عند عدد من العوائق المتكررة، التي تشكل تحديات مشتركة أمام العديد من المؤسسات في مرحلة توسيع نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي، ومنها:

  • الانتظار لحين توفر بيانات مثالية: تميل بعض الفرق إلى تأجيل تحديث العمليات إلى أن تصبح جميع قواعد البيانات دقيقة بالكامل، ومترابطة، وموحّدة وفق معايير ثابتة. ويبدو هذا الشرط منطقيًا من الناحية النظرية، لكنه غير عملي في بيئات العمل الحقيقية، لأن الوصول إلى بيانات مثالية يستغرق وقتًا طويلاً، وقد لا يتحقق بالكامل حتى مع أفضل الأنظمة. وفي الواقع، يمكن للإدارات المالية البدء في تحقيق قيمة فعلية عبر تطوير حالات استخدام تعمل بالاعتماد على البيانات المتوافرة حاليًا حتى إن لم تكن مكتملة، مع العمل بالتوازي على تحسين جودة البيانات وبناء أسس أقوى لها. وبهذه الطريقة، تستطيع الفرق المالية تحقيق نتائج ملموسة فورًا، وفي الوقت نفسه تهيئة البيئة التقنية لنجاحات أكبر مستقبلًا.
  • محاولة التحوّل الشامل دفعة واحدة: تتعثّر بعض الإدارات المالية عندما تربط البدء بتطبيق الذكاء الاصطناعي بضرورة تجهيز الوظائف كافة دفعة واحدة، بحيث تصبح "جاهزة بالكامل" قبل أي خطوة تنفيذية. ويؤدي هذا الأسلوب إلى إبطاء التقدم، لأن تحديث جميع المجالات في وقت واحد يتطلب تغييرات كبيرة ومعقدة تتجاوز قدرة الفرق على التنفيذ السريع. أما النهج الأكثر فعالية فهو اعتماد التحوّل التدريجي، عبر تطوير كل مجال على حدة مثل التقارير، أو التوقعات، أو المشتريات، وبناء القدرات خطوة بخطوة. ويسمح هذا الأسلوب بتكوين زخم واقعي، وتعلّم مستمر، وتثبيت المكاسب في كل مرحلة، مما يؤدي في النهاية إلى نتائج أكثر استدامة وعمقًا على مستوى الوظيفة المالية ككل.
  • البدء دون خارطة طريق واضحة: تواجه العديد من المبادرات صعوبة في التوسع حين تُطلق كمشروعات تجريبية تفتقر إلى رؤية واضحة أو مسار محدد. فعندما يبدأ العمل من دون تحديد الهدف أو أولويات التطبيق، تصبح المشاريع معزولة وغير مترابطة، مما يجعل تطويرها لاحقًا أمرًا معقدًا وغير مستدام. ويبرز هنا دور الإدارة المالية في صياغة خارطة طريق ترتبط مباشرة بأولويات المؤسسة، مع تحديد واضح لحالات الاستخدام التي ينبغي البدء بها أولاً، وتلك التي يمكن التوسع فيها لاحقًا. ويسهم هذا النهج في توجيه الجهود نحو التطبيقات التي تحقق أثرًا أكبر، وتجنب تشتت الفرق بين مشاريع متنافرة أو منخفضة العائد. كما يتطلب نجاح هذه المسارات وجود كوادر تقنية قادرة على دعم التنفيذ، سواء في إعداد البيانات أو دمج النظم أو تطوير النماذج، لضمان أن تتحول المبادرات التجريبية إلى قدرات مؤسسية قابلة للنمو والتوسع.
  • ضعف التركيز على جانب تهيئة الفرق للتحول: في كثير من الحالات، لا تكمن العقبة الرئيسية في التكنولوجيا ذاتها، بل في قدرة الفرق على تبنّيها والتكيف معها. فحتى أكثر الحلول تطورًا قد تفشل في تحقيق أثر ملموس إذا لم يتم تجهيز العاملين، وشرح آليات العمل الجديدة لهم، وإشراكهم في مراحل التحوّل منذ البداية. ويتطلب تحقيق أثر مستدام بناء قناعة داخل الفرق بأن التحوّل يخدم مهامهم ويدعم نتائجهم، إلى جانب توفير التدريب والمهارات التي تمكّنهم من التعامل بثقة مع الأدوات الجديدة. ويمثل هذا الجانب المعروف بإدارة التغيير عنصرًا حاسمًا لضمان ترسيخ ممارسات الذكاء الاصطناعي وتحويلها إلى جزء طبيعي من بيئة العمل اليومية.
  • تطبيق الأتمتة على مسارات عمل معقدة وغير متناسقة: تواجه التطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي صعوبة في تحقيق نتائج مؤثرة عندما تُطبَّق على عمليات تشغيلية معقدة أو غير متناسقة بين الفرق. ففي غياب تبسيط مسار العمل وتوحيده أولًا، تصبح الأتمتة جزءًا من المشكلة بدل أن تكون جزءًا من الحل، إذ تضيف طبقة تقنية جديدة فوق إجراءات غير مستقرة بطبيعتها. ويُعد إزالة الخطوات غير الضرورية وتوحيد الإجراءات الأساسية عبر الفرق المختلفة خطوة حاسمة قبل إدخال الذكاء الاصطناعي. فهذا التبسيط يوفّر أرضية تشغيلية واضحة، ويسمح للتقنيات الحديثة بالعمل بكفاءة وقابلية أكبر للتوسع، ويحدّ من الأخطاء التي تنتج عن التباين في طرق العمل بين الإدارات. ومع وجود عمليات متناسقة ومبسّطة، تصبح الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي قادرة على تقديم قيمة أكبر، إذ تعمل فوق بنية تشغيلية صلبة وواضحة تسمح بالتوسع المستقبلي دون تعقيد إضافي.

إن تفادي هذه العوائق يستدعي وجود رؤية واضحة ترتكز على فهم دقيق لاحتياجات العمل، إلى جانب مواءمة قوية بين الأهداف المالية والأولويات التشغيلية، وتركيز مستمر على التنفيذ العملي. فعندما يُدار التحول نحو الذكاء الاصطناعي بمنهج يستند إلى متطلبات الأعمال الحقيقية، تصبح إدارات المالية في موقع أفضل لتحقيق أثر مستدام يمكن البناء عليه وتطويره مع مرور الوقت.


ومع اتساع نطاق تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي، تتضح بصورة أكبر الفروق بين المبادرات التجريبية التي تتوقف سريعًا وتلك التي تنجح في خلق قيمة مستدامة. وتُظهر الدراسات الواردة في هذا المقال أن المؤسسات التي تحقق نتائج ملموسة هي تلك التي تربط استخدام الذكاء الاصطناعي باحتياجات عمل محددة، وتعمل على تبسيط عملياتها الأساسية، وتستفيد من التقنية في توفير وقت أكبر للفرق من أجل التركيز على الأعمال الأخرى التي تعتبر مهمة أكثر وذات أولوية. ويبرز لهذه التجارب دلالة واضحة: فالفرصة المتاحة أمام الإدارات المالية حقيقية وواسعة، غير أن اغتنامها يتطلب تجاوز مرحلة التجريب نحو تنفيذ منضبط يستند إلى أولويات العمل واحتياجاته الفعلية. ومع هذا النهج، يتحول الذكاء الاصطناعي من مبادرة مبتكرة إلى قدرة مؤسسية قادرة على دعم النمو وتحقيق أثر طويل المدى.

Explore a career with us