عندما تم اختراع السيارة في أواخر القرن التاسع عشر، شهدت الصناعة طفرة كبيرة، حيث ظهرت مئات الشركات الجديدة التي تتنافس في تصنيع السيارات. ففي الولايات المتحدة وحدها، ارتفع عدد الشركات المصنعة من 30 شركة عام 1899 إلى حوالي 500 بحلول 1910.1 وقد تميزت هذه الفترة بسيل من الابتكارات، مثل تطوير محركات V-8، وإدخال مشغلات كهربائية بديلة للطريقة اليدوية في تشغيل السيارات، إلى جانب ابتكار أسقف قابلة للطي لحماية الركاب من الظروف الجوية.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
مع مرور الوقت، ورغم استمرار الابتكارات، لم تستطع معظم شركات السيارات الأمريكية الصمود أو التوسع، مما ترك الساحة لثلاث شركات كبُرى لتسيطر على السوق: كرايسلر، وفورد، وجنرال موتورز.2 سر نجاح هذه الشركات كان في قدرتها على تقديم سيارات مميزة بجودة عالية، مع تقليل التكاليف وتحسين طرق التصنيع. ومن أبرز الأمثلة على ذلك سيارة "فورد موديل تي"، التي كانت سهلة القيادة وبسعر مناسب بفضل استخدام طرق إنتاج متطورة جعلت تصنيعها أسرع وأرخص. ونتيجة لذلك، أصبحت السيارة في متناول الطبقة المتوسطة.3 وحققت نجاحًا ضخمًا. وعندما توقفت فورد عن إنتاجها عام 1927، كان قد تم بيع أكثر من 15 مليون سيارة منها، مما جعلها واحدة من أنجح السيارات في التاريخ.4
اليوم، نشهد موجة جديدة من الابتكار في عالم التنقل، تشبه الثورة التي حدثت مع ظهور السيارات في بدايات القرن العشرين. إن الشركات الناشئة والمصنعون التقليديون يتسابقون لتطوير تقنيات حديثة تعتمد على القيادة الذاتية، والاتصال الرقمي، والسيارات الكهربائية، والتنقل المشترك، وهي التوجهات المعروفة باسم "ACES". ومنذ عام 2010، ظهرت آلاف الشركات الناشئة في هذا المجال، لكن ليس جميعها استطاع الصمود، فبعضها أغلق أبوابه رغم حصوله على استثمارات بمليارات الدولارات. وبشكل عام، تفشل أكثر من 90% من الشركات الناشئة قبل أن تحقق النجاح المطلوب.
أحيانًا، لا يكون سبب فشل الشركات الناشئة هو أن فكرتها سيئة أو أن السوق غير مناسب، بل ببساطة لأنها تنفق كل أموالها قبل أن تتمكن من التوسع والنجاح. ومع وجود تحديات مثل تغير احتياجات العملاء، والقوانين الجديدة، والتطور السريع للتكنولوجيا، يصبح من الصعب البقاء في المنافسة. إذًا، ما الذي يمكن أن تفعله هذه الشركات للنجاح في عالم يتسم بالمنافسة الشرسة والتغير السريع؟
في عالم الأعمال سريع التغير، لا يكفي أن تمتلك الشركات فكرة مبتكرة، بل يجب أن تكون قادرة على تنفيذها بذكاء وكفاءة. فبين اللحظة التي تُولد فيها الفكرة وبين تحقيقها على نطاق واسع، تمر الشركات بسلسلة من التحديات التي قد تحدد مصيرها، إما النجاح والتوسع، أو التراجع والاختفاء. ورغم أن كل شركة تحتاج إلى استراتيجية خاصة بها، إلا أن هناك عاملًا مشتركًا بين الناجحين، وهو إتقان التنفيذ. ومن خلال دراسة أحدث التوجهات في عالم الاستثمار، يستعرض هذا المقال ست استراتيجيات رئيسية يمكن أن تساعد الشركات الناشئة على بناء مسار نمو قوي يضمن لها الاستمرارية والنجاح.
الاستثمارات الكبرى والمخاطر الموازية
منذ عام 2010، شهد قطاع التنقل المستقبلي تدفق استثمارات ضخمة وصلت إلى نحو 950 مليار دولار، وُجّهت إلى 3,800 شركة ناشئة تعمل على تطوير تقنيات جديدة في هذا المجال (اطلع على الشكل 1). ورغم هذا الحجم الهائل من التمويل، فإن شركات السيارات التقليدية لم تحصل إلا على 7.5% فقط من إجمالي الاستثمارات غير العضوية بين عامي 2022 ومنتصف 2024. أما الجزء الأكبر من التمويل، الذي تجاوز 90%، فقد جاء من قطاعات أخرى، مثل النفط والغاز، ورأس المال المغامر، وصناديق الاستثمار الخاصة، وشركات التكنولوجيا، وصناديق التقاعد. ويرجع ذلك إلى أن شركات تصنيع السيارات والموردين يفضلون التركيز على الأبحاث والتطوير الداخلي، وضخ استثمارات ضخمة في مشاريعهم الخاصة بدلًا من الاستثمار في الشركات الناشئة أو الاستحواذ عليها.
بلغ التمويل السنوي لقطاع التنقل المستقبلي أعلى مستوياته بين عامي 2021 و2022 (اطلع على الشكل 2)، حيث تجاوز المتوسط المتحرك للاستثمارات خلال 12 شهرًا حاجز 15 مليار دولار في أواخر 2021. لكن هذا الزخم لم يستمر طويلًا، إذ بدأت الاستثمارات في التراجع تدريجيًا حتى أواخر 2023، قبل أن تعود للانتعاش مجددًا.
وفيما يتعلق بقيمة الصفقات، فقد تغيرت أنماط الاستثمار بشكل ملحوظ؛ فبينما كان السوق يشهد عددًا كبيرًا من الصفقات الصغيرة مع عدد قليل من الصفقات الكُبرى التي تُحدث تحولًا جذريًا، بدأت الصورة تتغير، حيث انخفض عدد الصفقات، لكن قيمتها ارتفعت. إذ يشير هذا الاتجاه إلى أن المستثمرين أصبحوا أكثر انتقائية، وبدأوا يركزون على الرهانات الكُبرى التي تضمن لهم عوائد قوية ومستدامة.
في ظل هذه التغيرات، لم يعد الحصول على التمويل وحده كافيًا لضمان النجاح. لأن الشركات الناشئة التي تسعى إلى تحقيق نمو مستدام تحتاج إلى استراتيجيات مدروسة تمكنها من التوسع بفعالية. وفيما يلي بعض الخطوات الأساسية التي قد تشكل مفتاح النجاح في هذه المرحلة الحاسمة.
التركيز على مجال محدد مع الاستعداد للتكيف: استراتيجية للنمو الذكي
نجحت العديد من الشركات في تطوير السيارات الذاتية القيادة وتجاوزت مرحلة الشركات الناشئة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة وايمو، التي انطلقت من مشروع السيارة الذاتية القيادة في جوجل. في البداية، كان هدفها واسع النطاق: تصميم سيارات قادرة على التنقل دون تدخل بشري. لذا، درست إمكانية تطبيق هذه التقنية في مجالات متعددة، مثل خدمات التاكسي ذاتي القيادة، والشاحنات والخدمات اللوجستية، والمواصلات العامة، والسيارات الشخصية. لكن مع مرور الوقت، قررت وايمو تركيز جهودها على خدمات التاكسي ذاتي القيادة لضمان تحقيق قيمة فعلية في السوق. 5 وبالفعل، شهدت أعمالها نموًا سريعًا، حيث سجلت أكثر من أربعة ملايين رحلة خلال عام 2024، مع 150 ألف رحلة أسبوعيًا في أوستن، ولوس أنجلوس، وفينيكس، وسان فرانسيسكو. 6
مع بدء خدمات التاكسي ذاتي القيادة في تحقيق إيرادات كبيرة، من المتوقع أن تحصل "وايمو" على موارد مالية أكبر تتيح لها تحسين تقنياتها واستكشاف فرص جديدة في مجالات أخرى، مثل الشاحنات التجارية. ورغم أن هذا المجال يُعتبر حاليًا أولوية ثانوية أو مؤجلًا، فقد يصبح جزءًا مهمًا من توسعات الشركة المستقبلية.7
رغم أهمية التركيز على مجال واحد، فإن الشركات الناشئة يجب أن تكون مستعدة للتكيف. فبعض أنجح الشركات في قطاع السيارات بدأت بمفهوم واحد، لكنها اضطرت إلى تعديل مسارها بسبب عوامل داخلية أو تغيرات في السوق. لذا، فإن مفتاح النجاح لا يقتصر فقط على اختيار المجال الصحيح، بل أيضًا على امتلاك القدرة على التطور والتكيف مع الفرص والتحديات.
التفرد في التصميم والتكنولوجيا: المفتاح للريادة في عالم السيارات الكهربائية
ظهرت أول السيارات الكهربائية في القرن التاسع عشر، لكنها سرعان ما تراجعت أمام السيارات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي. وعلى مدار السنوات، كان الاهتمام بالسيارات الكهربائية يتذبذب بين الصعود والهبوط، حتى جاءت التسعينيات، حيث أدى القلق المتزايد بشأن الانبعاثات وتغير المناخ إلى دفع الشركات المصنعة والمبتكرين لإعادة التركيز على تطويرها.8
رغم أن العديد من الشركات المصنعة قدمت سيارات كهربائية في السنوات الأولى من الألفية، فإن "تسلا" كانت الأبرز في هذا المجال. فقد أطلقت الشركة طراز "رودستر" عام 2008، ليكون أول سيارة كهربائية تستخدم بطاريات الليثيوم أيون. لكن ما جعلها تلفت الأنظار حقًا كان مدى قيادتها المميز،9 الذي بلغ 200 ميل، وهو ما غيّر نظرة المستهلكين للسيارات الكهربائية وأثبت أنها يمكن أن تكون بديلًا حقيقيًا لسيارات محركات الاحتراق الداخلي. ورغم أن السعر المرتفع "للرودستر" جعلها بعيدة عن متناول معظم الناس، فإنها لعبت دورًا مهمًا في تعزيز الاهتمام بالسيارات الكهربائية.
وفي عام 2017، عززت "تيسلا" مكانتها من خلال إطلاق طراز S3، والتي جاءت بسعر أكثر تنافسية مقارنة بـ "رودستر". ولم يمض وقت طويل حتى أثبتت نجاحها، حيث أصبحت السيارة الكهربائية الأكثر مبيعًا عالميًا، متجاوزتاً مليون وحدة مباعة بحلول عام 2021، لتكون أول سيارة كهربائية تحقق هذا الإنجاز.10 واليوم، تُباع تيسلا S3 بمعدل أسرع بـ 17 مرة من معظم السيارات الكهربائية المنافسة، ما يعكس قوة الابتكار والتفرد الذي تقدمه الشركة.11
في معرض الإلكترونيات الاستهلاكية لعام 2025، ظهر جليًا أن المنافسين لا يكتفون بمواكبة تيسلا فحسب، بل يسعون إلى تقديم سيارات كهربائية ذات ميزات مبتكرة تجعلها أكثر تميزًا في السوق. على سبيل المثال، تعمل "أبتيرا موتورز" على تطوير سيارة كهربائية مزودة بألواح شمسية مدمجة في أجزاء مختلفة من هيكلها، مما يتيح لها قطع مسافة تصل إلى 40 ميلًا يوميًا باستخدام الطاقة الشمسية وحدها، وبالتالي تقليل الحاجة إلى الشحن المستمر. وفي المقابل، تخطط هوندا لإطلاق سيارات كهربائية بدءًا من عام 2026 مزودة بتقنية قيادة ذاتية متطورة، تتيح للسائقين إمكانية القيادة دون الحاجة إلى إبقاء أعينهم على الطريق، وهو ابتكار قد يُحدث تحولًا جذريًا في تجربة القيادة.12
الريادة في السوق: مفتاح الهيمنة على فئة المنتجات
عادةً ما تحظى الشركات التي تكون الأولى في طرح منتج جديد بفرصة قوية للتميز في السوق. فمجرد كونها السبّاقة يمنحها انتشارًا واسعًا، ويعزز من شهرة علامتها التجارية، ويساعدها على كسب قاعدة عملاء أوفياء قبل أن يبدأ المنافسون في اللحاق بها. هذا التقدم المبكر يمكن أن يمنحها حصة سوقية كبيرة ويضعها في موقع الريادة لفترة طويلة.
في عالم السيارات الكهربائية، كانت "تيسلا" سبّاقة بخطوات واسعة، مما جعلها الاسم الأبرز في هذا المجال. بينما كانت بعض الشركات لا تزال تفكر في إمكانية التحول إلى السيارات الكهربائية، كانت "تيسلا" قد قطعت شوطًا كبيرًا في بناء قاعدة عملائها وتطوير تقنياتها. هذا التفوق الزمني لم يمنحها فقط بداية قوية، بل مكّنها أيضًا من ترسيخ مكانتها كأكبر شركة مصنّعة للسيارات الكهربائية في العالم، ولا تزال تحصد ثمار ريادتها حتى اليوم.
كونها من أوائل الشركات التي دخلت سوق السيارات الكهربائية، لم تكتفِ "تيسلا" بإطلاق سيارات متطورة فحسب، بل أسهمت في تحديد معايير الصناعة التي أصبحت اليوم نموذجًا يحتذى به. من تطوير بطاريات مبتكرة وتصميم الرقائق الإلكترونية داخل الشركة، إلى تقديم خدمات صيانة متطورة تعتمد على أحدث التقنيات الرقمية، كانت "تيسلا" دائمًا في المقدمة. على سبيل المثال، اعتمدت الشركة تحديثات البرامج عبر الإنترنت، مما يتيح لمالكي السيارات الحصول على تحسينات جديدة دون الحاجة إلى زيارة مراكز الصيانة. كما وفّرت خدمات التشخيص عن بُعد والدعم الفني المباشر، مما سهّل على العملاء حل المشكلات بسرعة وكفاءة. ولم تتوقف عند ذلك، بل أحدثت ثورة في نظام البيع، حيث فضّلت التواصل المباشر مع المستهلكين عبر الإنترنت بدلًا من الاعتماد على وكلاء السيارات التقليديين. وقد أثبت هذا النموذج نجاحه، مما دفع العديد من الشركات الناشئة في مجال السيارات الكهربائية إلى تبنّيه لتحقيق أرباح أكبر.
إضافة إلى ذلك، كونها من أوائل الشركات التي دخلت سوق السيارات الكهربائية، أتيحت لـ "تيسلا" فرصة ثمينة لتطوير شبكة إنتاج قوية وتحسين عملياتها قبل أن يرتفع الطلب بشكل كبير. هذا الاستعداد المبكر منحها ميزة تنافسية كبيرة على الشركات التي دخلت السوق لاحقًا، والتي تجد نفسها مضطرة للتوسع بسرعة، مما قد يعيق قدرتها على تحسين عملياتها الإنتاجية قبل بدء التصنيع على نطاق واسع. واليوم، تمتلك "تيسلا" شبكة مصانع متطورة في الصين وأوروبا والولايات المتحدة، حيث تنتج البطاريات، ومنتجات تخزين الطاقة، والمحركات الكهربائية، وأنظمة نقل الحركة، وغيرها من المكونات الأساسية. هذه المصانع لا تضمن فقط إمدادًا ثابتًا لبطاريات ومكونات السيارات الكهربائية، لكنها أيضًا تتيح للشركة تسريع وتيرة الابتكار وزيادة حجم المبيعات، مما يعزز مكانتها الرائدة في السوق.
الدخول إلى السوق مُبكرًا يمنح الشركات فرصة ذهبية للتميز، لكنه يأتي أيضًا بتحديات كبيرة. فغالبًا ما يستغرق الناس وقتًا لتقبُّل الابتكارات الجديدة، مما يعني أن تحقيق انتشار واسع قد لا يحدث بسرعة. وإذا لم يكن لدى الشركة تمويل كافٍ للصمود خلال هذه الفترة، فقد تنفد مواردها قبل أن يبدأ السوق في تبنّي منتجها فعليًا. لكن حتى الشركات التي تنجح في تحقيق الريادة لا تضمن الاحتفاظ بها إلى الأبد. فقد يظهر ابتكار جديد يقلب الموازين، أو تحدث أحداث غير متوقعة تؤثر على سمعة الشركة وتدفع عملاءها إلى البحث عن بدائل أخرى لأول مرة. لذلك، فإن النجاح لا يتوقف فقط على البداية القوية، بل يعتمد أيضًا على القدرة على التكيف والبقاء في المقدمة وسط التغيرات السريعة.
النجاح في السوق ليس حكرًا على الأوائل: كيف تكون تابعًا ذكيًا؟
بدلًا من التسرع في أن يكونوا أول من يطرح منتجًا جديدًا في السوق، تُفضِّل بعض الشركات اتباع استراتيجية "المتابع الحذر". أي أنها تنتظر حتى تقوم الشركات الرائدة بتمهيد الطريق، وتوليد الطلب، وتحسين التقنيات. هذه الاستراتيجية تمنحها ميزة كبيرة، حيث تتجنب الكثير من التكاليف والمشكلات التي يواجهها الرواد الأوائل، مثل أخطاء البرمجيات التي تظهر بعد الإطلاق. كما يمنحها هذا الانتظار فرصة لدراسة السوق وفهم احتياجات العملاء بدقة قبل دخولها. ما الميزات التي حظيت بإعجاب المستهلكين في المنتجات الأولى؟ وما المشكلات التي اشتكى منها المستخدمون؟ الإجابة على هذه الأسئلة تساعد الشركات على تحقيق نجاح أكبر عند طرح منتجاتها، لأنها تأتي وهي مدركة لما يريده العملاء فعلًا، وليس مجرد ما تظنه مناسبًا لهم.
تخيل شركة متخصصة في السيارات ذاتية القيادة تدخل السوق في عام 2024. على الرغم من أنها قد لا تتمتع بنفس الشهرة أو قاعدة العملاء الكبيرة التي حققتها الشركات التي سبقتها، إلا أنها ستستفيد من التطورات التكنولوجية الحديثة، وخاصة تلك المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مما يساعدها على تقصير مدة التطوير وتقليل التكاليف. وبفضل دخولها المتأخر، ستكون سياراتها مزودة بأحدث الميزات منذ البداية، وقد تتمكن من تجنب بعض المشكلات التقنية التي واجهتها الشركات الأولى عند إطلاق منتجاتها. وهذا يمنحها فرصة قوية لإثبات نفسها بسرعة والمنافسة في السوق بمنتج أكثر تطورًا.
الشركات التي تتبع استراتيجية الدخول المتأخر يجب أن تختار توقيتها بعناية. فإذا انتظرت فترة طويلة جدًا، فقد يصبح المنافسون الأوائل راسخين في السوق لدرجة يصعب معها انتزاع أي حصة منهم. وهذا ما حدث في سوق الهواتف الذكية، حيث سيطرت الشركات الكُبرى على السوق، ولم تتمكن أي علامة تجارية جديدة من تحقيق نجاح كبير. كما يجب أن تكون هذه الشركات واقعية بشأن التطورات التكنولوجية. فمحاولة تحسين الميزات بشكل مبالغ فيه لمجاراة المنافسة قد تؤدي إلى التأخر في دخول السوق، أو قد تكتشف الشركة أن تحقيق هذه الميزات يتطلب تكاليف باهظة وعمليات معقدة تستغرق وقتًا طويلًا. لكن إذا قامت الشركات بدراسة التوازن بين التكنولوجيا والتكلفة في وقت مبكر من عملية التطوير، فقد تتمكن من تجنب هذه العقبات واتخاذ قرارات أكثر ذكاءً تضمن نجاحها في السوق.
نمو سريع وتحقيق حصة سوقية أكبر: كيف تفتح الشراكات والاستحواذات آفاقًا جديدة للشركات الناشئة؟
بالنسبة للشركات الناشئة، هناك عدة استراتيجيات يمكن أن تساعدها على التوسع في السوق من خلال إبرام الصفقات، والتي تنقسم عادةً إلى أربع فئات رئيسية:
- الاستثمارات في الأسهم، حيث تشتري شركة حصة في شركة أخرى، وغالبًا ما تكون شركة كبيرة تستحوذ على جزء من شركة ناشئة مبتكرة.
- الترتيبات الاستراتيجية، حيث تتعاون الشركات دون تبادل للأسهم، بهدف تحقيق مصالح مشتركة.
- الشراكات التكنولوجية، التي يتم فيها العمل المشترك على تطوير تقنيات أو ابتكارات جديدة.
- الشراكات التجارية، والتي تتعاون فيها شركتان لتسويق وبيع المنتجات معًا.
بالنسبة للشركات الناشئة الصغيرة، يمكن أن يكون الحصول على استثمارٍ في الأسهم من شركة كُبرى بمثابة نقطة انطلاق نحو النمو. ووفقًا لتحليل أجرته ماكنزي، تمكنت الشركات الناشئة التي عقدت شراكات مع شركات مدرجة ضمن قائمة فورتشن 100 من جذب استثمارات بلغ متوسطها 6.7 مليارات دولار، أي أكثر بنسبة 90% مقارنة بـ 3.5 مليارات دولار فقط حصلت عليها الشركات التي لم تدخل في مثل هذه الشراكات. هذه التحالفات مع شركات كبيرة تمتلك موارد مالية قوية قد تمنح المستثمرين ثقة أكبر في قدرة الشركات الناشئة على تجاوز التحديات الطبيعية التي تواجهها أثناء توسيع نطاق أعمالها.
في عام 2017، حصلت شركة "موبيل آي"، المتخصصة في تكنولوجيا القيادة الذاتية، على استثمار ضخم من شركة "إنتل"، التي تُعد واحدة من عمالقة التكنولوجيا. وبعد أن أصبحت "إنتل" المساهم الأكبر، تمكنت من تقديم حزمة متكاملة من مكونات القيادة الذاتية لشركات تصنيع السيارات، مما جعل التعامل معها أكثر جاذبية لهذه الشركات التي تسعى إلى تبسيط عمليات الشراء وسلاسل التوريد. هذا التمويل الكبير ساعد "موبيل آي" على الاستمرار في النمو، وارتفعت قيمتها السوقية بشكل كبير مقارنة بما كانت عليه وقت استثمار "إنتل" الأولي. وفي عام 2024، عندما أكدت "إنتل" رغبتها في الحفاظ على حصتها المسيطرة، شهدت أسهم "موبيل آي" ارتفاعًا إضافيًا، ما عزز مكانتها في سوق التكنولوجيا المتقدمة.13
لطالما تعاونت "فولكس فاجن" مع "موبيل آي" لسنوات طويلة، لكنها وسّعت نطاق هذه الشراكة مؤخرًا من خلال تكليف "موبيل آي" بتطوير أنظمة قيادة ذاتية جاهزة للإنتاج لعدد من علاماتها الفاخرة.14 وفي المستقبل، من المتوقع أن توفر "موبيل آي" أيضًا حلولًا متطورة للقيادة الذاتية لبعض سيارات "فولكس فاجن" التجارية. تستفيد "فولكس فاجن" من هذه الشراكة عبر الوصول إلى تكنولوجيا متقدمة قد تسرّع خططها في مجال القيادة الذاتية، بينما تضمن "موبيل آي" تدفقًا ثابتًا من الطلبات على منصاتها، مما يعزز نموها في سوق سريع التطور.
عمليات الاندماج والاستحواذ لا تقتصر دائمًا على الشركات الكُبرى التي تستثمر في الشركات الناشئة، بل يمكن أن تكون أيضًا بين شركات متوسطة الحجم تبحث عن فرص لتوسيع أعمالها بشكل استراتيجي. مثال على ذلك شركة "مايلز موبيليتي"، التي بدأت بنهج مدروس للنمو، حيث ركزت عملياتها على عدد محدود من المدن لضمان فهم دقيق لكل سوق تعمل فيه. ورغم هذا النمو الحذر، كانت "مايلز" منفتحة على الفرص التوسعية الجذابة، وفي عام 2022 استحوذت على خدمة مشاركة السيارات "وي شير" التابعة لشركة "فولكس فاجن". في ذلك الوقت، كانت "وي شير" تدير 2,000 سيارة كهربائية في مدينتي برلين وهامبورغ، وكان لديها بالفعل نحو 200,000 عميل في هاتين المنطقتين، مما منح مايلز فرصة قوية لزيادة حصتها في السوق وتعزيز انتشارها بشكل سريع.15
ساعدت هذه الصفقة "مايلز موبيليتي" على التوسع بسرعة في مدن جديدة، كما عجلت بخطتها لزيادة نسبة السيارات الكهربائية في أسطولها. في المقابل، استفادت "فولكس فاجن" أيضًا، حيث التزمت "مايلز" بشراء 10,000 سيارة كهربائية منها، إلى جانب تولي إدارة الأسطول بالكامل. قبل عملية الاستحواذ، كانت "مايلز" تشغل حوالي 9,000 سيارة فقط، لكنها اليوم تدير أكبر أسطول لمشاركة السيارات في أوروبا، حيث وصل عدد مركباتها إلى نحو 21,000 سيارة، ما عزز مكانتها في السوق بشكل غير مسبوق. 16
ليس كل استثمار ضامنًا للنجاح: كيف تنفق بحكمة لتحقيق النمو؟
ليس دائمًا الحصول على تمويل ضخم يعني نجاحًا أكبر. فرغم أن الاستثمار الكبير قد يحقق نموًا أسرع مقارنة بالتمويل المحدود، إلا أنه يحمل مخاطر أكبر بسبب المبالغ الضخمة المتداولة، ما يستدعي دراسة متأنية قبل اتخاذ القرار. كما أن توزيع الأموال على عدد كبير من المشاريع قد يخلق تحديات أخرى، حيث قد يجد المديرون أنفسهم غير قادرين على توفير الموارد والتركيز الكافي لكل مشروع، مما قد يؤدي إلى تراجع الأداء وضياع الفرص.
تُعد "لايم" الشركة الرائدة عالميًا في خدمات مشاركة الدراجات الكهربائية والدراجات البخارية، وقد ساهمت استثماراتها الذكية منذ تأسيسها عام 2017 في تحقيق نمو ملحوظ. فكل قرار استثماري كان مدعومًا بدراسات دقيقة وأبحاث معمقة، مع التزام دائم بتطوير الخدمات وتحسين التقنيات. مؤخرًا، ضخت "لايم" استثمارًا بقيمة 55 مليون دولار لتوسيع أسطولها العالمي بإضافة 30,000 دراجة جديدة، أي زيادة بنسبة 15%.17 لكن قبل تنفيذ هذه الخطوة، ركزت الشركة على تعزيز تقنياتها وتحسين عروضها، كما بنت علاقات قوية مع الحكومات المحلية لضمان الامتثال للوائح التنظيمية. ولم تقتصر جهودها على ذلك، بل اعتمدت تقنية البطاريات القابلة للاستبدال، مما سرّع عمليات الصيانة، وحسّن جاهزية المركبات، ورفع ربحية الوحدات، مما عزز فرص نموها المستقبلي.
وفي سياق مماثل، استثمرت شركة "تورك روبوتيكس" بحكمة لتحفيز نموها. في البداية، طورت الشركة منصات قيادة ذاتية لمجموعة متنوعة من المركبات، بما في ذلك السيارات الركابية والمعدات الثقيلة المستخدمة في قطاعات التعدين والدفاع. لكن في عام 2019، وبعد أن أصبحت "دايملر تراك" المساهم الأكبر، تحول تركيز "تورك" بالكامل نحو الشاحنات التجارية ذاتية القيادة في السوق الأمريكية، نظرًا للإمكانات الواعدة لهذا القطاع. تستثمر "تورك" بقوة في الذكاء الاصطناعي، كما تبحث في تحسين تقنيات الاستشعار وغيرها من الحلول التي تُلبي متطلبات السلامة والملاحة الخاصة بالشاحنات، مثل رصد العوائق من مسافة كافية لمنح الشاحنة وقتًا كافيًا للتوقف بأمان. هذا التوجه يسمح للشركة بتركيز تمويلها على المشاريع الأكثر جدوى في هذا المجال، مما يعزز فرص نجاحها في صناعة الشاحنات ذاتية القيادة.
في أوائل الألفينات، كانت أبرز الابتكارات في عالم التنقل تقتصر على أنظمة الملاحة عبر "GPS"، والاتصال بتقنية بلوتوث للمكالمات دون استخدام اليدين، والمقاعد المزودة بخاصية التدليك، والكاميرات الخلفية. أما اليوم، فقد تجاوزت الابتكارات حدود الراحة والرفاهية، حيث أدت التقنيات الذكية والتحول الرقمي إلى إعادة تعريف مفهوم التنقل بالكامل، مما قد يفتح الباب أمام عصر جديد من النمو والتطور. ورغم أن الابتكار لا يخلو من المخاطر، فإن الفرص المتاحة لا تسمح بقبول فكرة أن معظم الشركات الناشئة مصيرها الفشل. فبدلاً من تكرار الأخطاء السابقة، ينبغي على رواد الأعمال اليوم أن يستفيدوا من تجارب من سبقوهم، وأن يتبَنوا استراتيجيات ناجحة في التنفيذ وتطوير المنتجات، مما يمكنهم من تسريع نمو شركاتهم وتحقيق النجاح في عالم متغير.

نحتفل هذا العام بالذكرى الستين لإصدار مجلة ماكنزي الفصلية من خلال حملة تمتد على مدار العام، تتضمن أربعة أعداد خاصة تناقش موضوعات رئيسية حول مستقبل الأعمال والمجتمع. إلى جانب المقالات، ستشمل الحملة محتوى تفاعليًا ومجموعات مختارة من أرشيف المجلة والمزيد. سيظهر هذا المقال في العدد الثالث من السلسلة، والذي يركز على مستقبل النمو ومن المقرر إصداره في شهر مايو. اشترك في قائمة تنبيهات مجلة ماكنزي الفصلية ليصلك إشعار عند نشر مقالات جديدة.