ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com
نعيش اليوم فترةً من الاضطرابات العالمية غير المسبوقة تقريبًا، إذ تكشف أبحاث ماكنزي أن مؤشرات عدم اليقين العالمي تضاعفت مقارنةً بما كانت عليه في منتصف تسعينيات القرن الماضي.1 فمن التسارع الرقمي الذي فرضته الجائحة، إلى الثورة الجارية في مجال الذكاء الاصطناعي، تجد الشركات نفسها وسط دوامةٍ من التحولات المتلاحقة، التي فاقمتها التوترات الجيوسياسية وضبابية المشهد التشريعي والتنظيمي. ونتيجةً لذلك، يواجه القادة واحدةً من أعقد البيئات وأكثرها تحديًا في تاريخ الأعمال الحديث، والتي من المُرجَّح أن تستمر على هذا النحو لفترةٍ ليست بالقصيرة.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
ورغم ما تفرضه بيئة عدم اليقين من ضغوطٍ وتحديات، فإنها تتيح في الوقت نفسه فرصًا غير متوقعة. ولعل مقولة بطل "الفورمولا1" البرازيلي الراحل آيرتون سينا تعبّر عن هذه الحقيقة بوضوحٍ، حيث قال: "لا يمكنك تجاوز خمس عشرة سيارة في طقسٍ مشمس، لكن يصبح ذلك ممكنًا عندما يهطل المطر". ولا يتحقق الفوز في مثل هذه الظروف إلا بالاستعداد المُسبق لمفاجآت السباق، سواء كانت حلبةً مُبتلّة بالأمطار أو مناوراتٍ مباغتة من المنافسين. وبالمثل، بإمكان الشركات الأكثر خبرة أن تستثمر الاضطرابات السوقية والتجارية والتكنولوجية لتصنع منها قوة دفع تمنحها التفوق على منافسيها، شريطة أن تكون قد طوّرت مهاراتها واستعدّت مسبقًا للتعامل مع اللحظات التي تتبدل فيها القواعد التقليدية للعبة.
ويواجه قادة قطاع التكنولوجيا على وجه الخصوص تحدياتٍ مضاعفة في إدارة مؤسساتهم وسط هذه الحالة من عدم اليقين، إذ يتعاملون مع مستوياتٍ أعلى من الاضطراب والتقلب مقارنةً ببقية القطاعات. فعلى سبيل المثال، شهد قطاع التكنولوجيا خلال الفترة الممتدّة من عام 2000 وحتى 2023 معدل تبدّلٍ في قائمة أكبر 20 شركة يفوق متوسط القطاعات الأخرى بنحو 40 في المائة.2 وبرغم هذه التغيرات الحادة، يواصل القطاع ضخ استثماراتٍ أكبر في الابتكار، في حين يخضع في الوقت نفسه لرقابةٍ تنظيميةٍ أكثر صرامةً من معظم القطاعات الأخرى، مما يجعله في قلب التغيرات العالمية وإيقاعها المتسارع.3
وعلى مدى العقود الأخيرة، قادت موجاتٌ تكنولوجية متعاقبة تحولاتٍ جذرية في الاقتصاد العالمي، إذ حملت كل موجةٍ منها مزيجًا من التحديات والفرص. فمن انتشار الحواسيب الشخصية والإنترنت، مرورًا بوسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات المحمولة، وصولًا إلى الحوسبة السحابية، أعادت هذه الموجات رسم ملامح الصناعات، وأربكت نماذج الأعمال التقليدية، وأعادت تعريف مفهوم الريادة في الأسواق (الشكل 1).
وقد تميّزت الشركات التي استوعبت هذه التحولات مبكرًا واستثمرت في الفرص الناشئة بقدرتها على ترسيخ موقعها القيادي لسنوات طويلة. فعلى سبيل المثال، نجحت شركة "مايكروسوفت" في الانتقال من التركيز على الحواسيب الشخصية إلى تعزيز حضورها كلاعب رئيسي في مجالي الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي. وبالمثل، انتقلت "أمازون" من متجر إلكتروني للكتب إلى منصة شاملة تعمل وفق نموذج السوق ثنائي الطرف، وهو النموذج الوسيط الذي يربط بين البائع والمشتري، كما اعتمدت على تقنيات الذكاء الاصطناعي لزيادة كفاءة خدماتها. وليس من المستغرب، بناءً على هذه النجاحات، أن يستحوذ القطاع التكنولوجي على ما يقارب نصف قائمة أكبر 20 شركة مدرجة في مؤشر "ستاندرد آند بورز 500"4، بعد أن أثبتت شركات التكنولوجيا قدرتها على اجتياز موجات متعاقبة من الاضطراب وعدم اليقين، وترسيخ مكانتها في صدارة الاقتصاد العالمي.
وفي ضوء هذه التحولات، حدّدت ماكنزي خمسة تحركاتٍ استراتيجية رئيسية تمكّن الشركات من بناء المرونة والقدرات اللازمة للازدهار في أوقات الاضطراب، وتشمل: استكشاف مجالاتٍ جديدة للنمو والمنافسة، ابتكار نماذج أعمالٍ جديدة، ربط المواهب بمصادر القيمة الأكثر تأثيرًا، إعادة تخصيص رأس المال بمرونةٍ وديناميكية، واتّباع أسلوبٍ منهجي في الاندماجات والاستحواذات (الشكل 2).
ولإثبات فعالية هذه التحوّلات، أجرت "ماكنزي" سلسلةً من المقابلات المعمّقة مع خمسةٍ من أبرز الرؤساء التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا، ممن يمتلكون خبراتٍ عملية واسعة في التعامل مع المنعطفات الاستراتيجية المعقّدة. وشملت القائمة مايكل ديل من شركة "ديل تكنولوجيز"، وتوماس كولفيلد من "غلوبال فاوندريز"، وياميني رانغان من "هاب سبوت"، وأمان بوهتاني من "غو دادي"، وأخيرًا رامي رحيم من "جونيبر نيتووركس". وقد أجمع هؤلاء القادة على أن أقسى الظروف يمكن أن تتحوّل إلى فرصٍ غير متوقعة، متى امتلك القائد الرؤية الثاقبة والقدرة على المناورة الذكية في مواجهة المنعطفات. (تندرج هذه الدراسة ضمن أبحاث "ماكنزي" المستمرة حول استكشاف السُبل التي تُمكّن الشركات من تعزيز نموّها وسط عالمٍ يتسم بتزايد التعقيد والغموض).
التعامل مع التقلبات في أزمنة عدم اليقين: كيف تحافظ شركات التكنولوجيا على الصدارة
يقدّم عالم سباقات الفورمولا1 دروسًا بالغة الأهمية في كيفية إدارة اللحظات الحاسمة؛ إذ يضم المضمار الواحد نحو 60 لفةً وأكثر من ألف منعطف. ومع ذلك، لا يُحسم الفوز بعدد المنعطفات، بل يتوقف على مجموعةٍ من العناصر الجوهرية، أبرزها: الاستثمار في التكنولوجيا (مثل الديناميكا الهوائية، والمتانة، وإدارة الإطارات، والمحركات)، وجاهزية الفريق، والقدرة على تعديل الاستراتيجية لحظةً بلحظة، إضافةً إلى مهارة السائق وجرأته في اتخاذ القرارات المصيرية التي قد تغيّر مسار السباق بأكمله.
وبالمثل، تواجه شركات التكنولوجيا واقعًا شديد التعقيد، حيث يتطلب التفوق إتقان سلسلة من التحركات الاستراتيجية القادرة على تحويل التحديات إلى فرص للنمو والريادة. ويبقى العنصر الحاسم هنا هو امتلاك هذه القدرات قبل وقوع الأزمات؛ فالمهارة الحقيقية تكمن في بناء المرونة بالتدريب المستمر وتجربتها تحت الضغط. وهذا ما يوضحه توماس كولفيلد، رئيس شركة "غلوبال فاوندريز"، حين قال: "قد يكون التغيير أثناء الأزمة شرطًا للبقاء، لكن القدرة على إحداث التغيير قبل وقوعها، ومواكبة عالم يتغير باستمرار، هو ما يميز الشركات القادرة على الاستمرار وتحقيق التفوق".
1. استكشاف مجالاتٍ جديدة للنمو والمنافسة
يُعَدّ قرار اختيار الأسواق أو المجالات التي تنوي الشركة دخولها والمنافسة فيها من أهم القرارات الاستراتيجية في مسيرتها، فهو ليس قرارًا لحظيًا، بل يتطلب مراجعةً مستمرة وتحركًا استباقيًا لمواكبة المتغيرات المتسارعة. فعلى سبيل المثال، ومع تصاعد المخاطر الجيوسياسية وتزايد حالة الغموض، تتجه شركات الصناعات التحويلية والإلكترونيات إلى إعادة هيكلة محافظها الاستثمارية، عبر التوسع في مجالات البرمجيات، وتعزيز سلاسل توريد أكثر أمانًا، وزيادة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي، وذلك لترسيخ مرونتها وضمان استدامة نموها.5
فيما تُظهر أبحاث ماكنزي أن الشركات التي غيّرت مسارها نحو قطاعاتٍ تتمتع بمعدلات نموٍ أعلى نجحت في تحقيق عوائد فاقت ضعفي ما حققته الشركات التي تمسكت بمساراتها التقليدية خلال العقد الماضي (يُرجى الاطّلاع على العمود الجانبي "المرونة في التطبيق: إعادة رسم ساحة المنافسة").6 لكن هذا التحول يظل خطوةً جريئة تُقدم عليها الأقلية من الشركات، إذ لم تتبنَّه سوى أقل من 10 في المائة منها (الشكل 3).
ومن الناحية العملية، يُعَدّ بناء استراتيجيةٍ متينة للمحفظة الاستثمارية، تتم مراجعتها وتحديثها بشكلٍ دوري، عنصرًا أساسيًا لاقتناص الفرص الجديدة وتحديد مجالات المنافسة الواعدة. وترتكز هذه الاستراتيجية على ثلاث خطواتٍ رئيسية:
- فهم واقع السوق واتجاهاته. تبدأ الخطوة الأولى بتحليلٍ شامل لجاذبية السوق من خلال تقييم مستوى نضجه، وشدة المنافسة داخله، وجدواه الاقتصادية. ولا يقتصر هذا التحليل على السوق الحالي فحسب، بل يشمل أيضًا القطاعات المتقاربة أو ذات الصلة التي قد تعيد رسم توجهات المحفظة وتفتح مساراتٍ جديدة للنمو أو فرصًا للتخارج. كما يتطلب الأمر فهمًا عميقًا للمخاطر المحتملة، بدءًا من الاضطرابات التكنولوجية والتحديات التنظيمية والجيوسياسية، وصولًا إلى المخاطر الاقتصادية الكلية والأحداث غير المتوقعة.
- المقارنة المرجعية وتحليل المحفظة. وبالتوازي مع تحليل الأسواق يتعيّن على الشركات إجراء مقارناتٍ دقيقة لأدائها مقابل أداء منافسيها، لالتقاط فرص تعزيز الكفاءة، عبر مجموعةٍ من المؤشرات الموضوعية، من أبرزها نسبة الإيرادات إلى نفقات البحث والتطوير، وهوامش الربح الإجمالي. كما يساهم تحليل قيمة الشركة من خلال تفكيك أنشطتها ومنتجاتها إلى وحداتٍ واضحة (مثل خطوط الإنتاج أو مجالات الأعمال)، ومن ثم قياس مساهمة كل وحدةٍ منها في القيمة الإجمالية للشركة، وتحديد القطاعات الأكثر جدوى ورصد المحركات الحقيقية للنمو في المستقبل.
- تطوير التحركات وتقييم الخيارات. وأخيرًا، يقوم القادة بدراسة المنتجات ضعيفة الأداء لتقييم جدواها التجارية، وقيمتها المستقبلية، وملاءمتها للاستراتيجية العامة. وبناءً على هذه التقييمات، تُصنَّف المنتجات إلى فئاتٍ واضحة: ما يستحق زيادة الاستثمار فيه، وما يمكن الإبقاء عليه، وما ينبغي تقليصه، وما يُفضَّل التخارج منه، وذلك ضمن رؤيةٍ استراتيجيةٍ شاملة لإدارة المحفظة.
2. تطوير نماذج الأعمال
لم يعد نموذج الأعمال كيانًا ثابتًا، بل أصبح عمليةً ديناميكية تتطلب تحديثًا وتطويرًا مستمرين. ويزداد هذا الأمر إلحاحًا اليوم مع انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي ويزداد هذا التحوّل أهميةً في الوقت الراهن مع انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يعيد صياغة نماذج الأعمال التقليدية ويُتيح المجال لظهور منافسين جدد قادرين على كسب الريادة.
ويتمحور الابتكار في نماذج الأعمال عادةً حول ثلاثة عناصر أساسية: النموذج الاقتصادي، نموذج الإنتاج، ونموذج إيصال القيمة إلى العملاء. ويلعب الذكاء الاصطناعي دورًا رئيسيًا في إعادة تشكيل هذه العناصر مجتمعة. فعلى سبيل المثال، أسهم دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر دورة تطوير البرمجيات في تقليص زمن طرح المنتجات في السوق بشكلٍ كبير، مع تعزيز قدرة الشركات على تحويل الأفكار إلى منتجاتٍ عملية قابلة للتسويق.7 كما فتح الباب أمام اعتماد آليات تسعير مبتكرة، من أبرزها التسعير القائم على النتائج في منتجات الذكاء الاصطناعي المصممة لتقديم خدماتٍ مؤتمتة للعملاء بقدراتٍ ذكية تعتمد على الوكلاء الافتراضيين.
ومن هذا المنطلق، يمكن للشركات تعزيز ابتكار نماذج أعمالها من خلال اعتماد استراتيجياتٍ واضحة لكل عنصرٍ من العناصر الثلاثة الأساسية. فعلى مستوى النموذج الاقتصادي مثلًا، ظهر العديد من الابتكارات اللافتة في أساليب تحقيق الإيرادات. فقد تمكنت شركات البرمجيات من إحداث تحولٍ نوعي بانتقالها من نموذج الترخيص التقليدي إلى نموذج الاشتراكات المتكررة. وتُعد تجربة شركة أدوبي مثالًا بارزًا على ذلك؛ فقد أدى هذا التحول بعد الأزمة المالية العالمية (2012–2013) إلى تضاعف قيمتها السوقية عشر مرات وتحسن هوامش أرباحها الإجمالية بنحو 300 نقطة أساس.8 ومع تطور الأسواق في الفترة الأخيرة، اتّجهت الشركات إلى تحديث نماذج التسعير عبر اعتماد آلياتٍ أكثر مرونة، مثل التسعير القائم على الاستهلاك (بحسب حجم استخدام موارد محددة كقدرات الحوسبة أو التخزين) أو التسعير القائم على النتائج المحددة مسبقًا. وتكشف أبحاث ماكنزي عن تضاعُف عدد شركات البرمجيات الرائدة التي تعتمد نموذج التسعير القائم على الاستهلاك خلال العقد الماضي.9 ومن اللافت أن هذه الشركات حققت نموًا في الإيرادات فاق نظيراتها بنحو 10 في المائة، إلى جانب تحسُّن مؤشرات الربحية والأسعار بنسبةٍ بلغت 30 في المائة (الشكل 4).
وفي الوقت ذاته، يفتح الابتكار على مستوى نماذج الإنتاج أمام شركات التكنولوجيا آفاقًا واسعة لتعزيز ميزتها التنافسية. فبدلًا من محاولة التفوق في كل الجوانب بمفردها، يمكن للشركة أن تركّز جهودها على المجالات التي تتقنها، مع الاستعانة بشراكاتٍ استراتيجية لتغطية القطاعات الأخرى. وبذلك، تتمكن من تعظيم القيمة المضافة سواء عبر منتجاتها الخاصة أو من خلال منتجات الشركاء التي تعمل على منصاتها. ويَظهر أثر هذا النهج بوضوحٍٍ في قطاع البرمجيات ؛ حيث كشفت الدراسات أن الشركات التي انتقلت من النموذج التقليدي القائم على تقديم البرمجيات كخدمة (أي توفير تطبيقاتٍ جاهزة للاستخدام عبر الإنترنت – إلى نموذج المنصات كخدمة – أي إنشاء بيئةٍ شاملة تُمكّن المطورين والشركات من بناء تطبيقاتهم وخدماتهم وتشغيلها عبر المنصة) حققت تقييماتٍ سوقية أعلى بنحو 1.7 مرة مقارنةً بمنافسيها، كما بلغ متوسط مُضاعف القيمة 11.2 مقابل 8.0 لمقدمي خدمات البرمجيات التقليدية .10
أمّا فيما يتعلّق بالآليات التي تعتمدها الشركات لإيصال منتجاتها وخدماتها إلى عملائها وتقديم قيمةٍ حقيقيةٍ لهم، فإنّ الابتكار في هذا الجانب يُعَدّ عنصرًا محوريًا لتعزيز التنافسية، وترسيخ حضور الشركات في السوق، وبناء قنواتٍ أكثر فاعليةً للتواصل مع العملاء. ويتحقق ذلك من خلال تقليص دور الوسطاء، والاعتماد بصورةٍ أكبر على قنواتٍ تصل مباشرةً إلى العميل النهائي، أو عبر ابتكار أساليب جديدة لعرض المنتجات والخدمات بما يسهّل وصولها إلى السوق. وتُعَدّ النماذج مفتوحة المصدر من أبرز الأمثلة على هذا التوجّه في السنوات الأخيرة، إذ مكّنت الشركات من بناء منظوماتٍ داعمة تُحفّز الابتكار، مع توفير مصادر مستدامة للإيرادات من خلال خدمات الدعم الفني، والحلول السحابية المُقدَّمة بالاستضافة، فضلًا عن برامج التدريب (يُرجى الاطّلاع على العمود الجانبي "المرونة في التطبيق: نموذج الأعمال دائم التطوّر").
3. ربط الكفاءات بالمجالات الأعلى قيمة
برغم امتلاك معظم الشركات لخططٍ واضحة لتعظيم القيمة والعائد الاقتصادي من أعمالها، إلا أن القليل منها فقط ينجح في ربط هذه الخطط باستراتيجية استقطاب المواهب بشكلٍ فعلي. ويقوم هذا النهج في الأساس على ضمان أن يشغل أصحاب الكفاءة والأداء الأعلى المواقع الأكثر تأثيرًا في توليد الإيرادات وتعزيز النمو. غير أن الواقع يكشف عكس ذلك؛ إذ تُظهر أبحاث ماكنزي أن نحو 47 في المائة من كبار التنفيذيين يرون أن مؤسساتهم تتحرك ببطءٍ في تطوير وإطلاق أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مُرجعين ذلك بالدرجة الأولى إلى فجوات المهارات ونقص الكفاءات المتخصصة.11 ومن هنا تبرز أهمية الربط المباشر بين المواهب المطلوبة ومصادر العائد الرئيسية في الشركة، مع ضرورة الاستثمار في بناء قدرات الذكاء الاصطناعي لدى القوى العاملة، كأولويةٍ استراتيجية لا يمكن تأجيلها.
وغالبًا ما يتطلب هذا النهج التركيز على ما يُعرف بـ"أدوار الصف الثاني"، أي المناصب التي تشمل نواب الرؤساء والمديرين التنفيذيين الذين لا يرفعون تقاريرهم مباشرةً إلى الرئيس التنفيذي، لكنها تمثل العمود الفقري لضمان التنفيذ الفعّال للاستراتيجيات. ووفقًا لأبحاث ماكنزي، تشكّل هذه المناصب ما بين 90 إلى 95 في المائة من الأدوار الجوهرية داخل المؤسسات.12 وقد كشفت الدراسات أن أكثر من نصف العائد الاقتصادي للشركات يتركز في نحو 15 دورًا رئيسيًا فقط، معظمها في المستويات الإدارية المتوسطة أو الأدنى. وقد أدركت الشركات الرائدة أن الاستفادة من هذا الواقع تتطلب إطارًا واضحًا من أربع خطواتٍ لرسم خريطة المواهب وربطها مباشرةً بالأدوار والأنشطة التي تحقق أكبر أثرٍ ماليٍ وتشغيلي (يرجى الاطلاع على العمود الجانبي "المرونة في التطبيق: كيف يمكن أن تقود الكفاءات المناسبة مسار التحوّل") (الشكل 5).
4. إعادة توجيه رأس المال بمرونةٍ نحو الأولويات
تفرض وتيرة التغيّر المتسارعة على الشركات ضرورة إعادة توجيه استثماراتها بسرعةٍ وحزم لاقتناص الفرص الواعدة. وتُعد "ديل تكنولوجيز" نموذجًا بارزًا في هذا المجال؛ إذ نجحت مرارًا في إعادة رسم مسارها عبر توظيف رأس المال بذكاءٍ في محطاتٍ مفصلية: فبدأت في ثمانينيات القرن الماضي ببيع الحواسيب مباشرةً للمستهلكين، ثم انتقلت في منتصف التسعينيات إلى تقديم بنيةٍ تحتيةٍ لتخزين البيانات، قبل أن تركّز خلال العقد الأخير على الحوسبة السحابية. ويستعيد مايكل ديل هذه المحطات قائلًا: "خلال 12 عامًا، لم تنخفض عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجَل عشر سنوات إلى ما دون 2 في المائة سوى ثلاث مراتٍ فقط. تلك اللحظات النادرة يصبح فيها التمويل رخيصًا للغاية، ولذلك استثمرناها جيدًا؛ ففي الأولى تحوّلنا إلى شركةٍ خاصة، وفي الثانية استحوذنا على "إي إم سي" و"ڤي إم وير"، أمّا الثالثة فكانت أثناء جائحة كورونا. فعندما يكون رأس المال متاحًا بتكلفةٍ منخفضة، تتولد أعظم الفرص".
واليوم، تُعيد الشركة توجيه بوصلتها من جديدٍ لتصبح مزودًا متكاملًا لحلول الذكاء الاصطناعي للمؤسسات. ويؤكد ديل أن النجاح في هذا المسار يقوم على عاملين أساسيين: تحديد الأنشطة الأكثر أهميةً للشركة ومضاعفة الاستثمار فيها، والتحرك بسرعةٍ ومرونة. فكما يُقال في قطاع التكنولوجيا: " إما أن تتغير سريعًا، أو تتراجع وتخرج من السباق."
وليست "ديل" وحيدةً في هذا الاتجاه؛ إذ تُظهر الأبحاث أن 92 في المائة من الشركات حول العالم تخطط لزيادة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الثلاث المقبلة.13 ومع ذلك، لا تزال الكثير من المؤسسات تعتمد في توزيع رأس المال على أنماط العام السابق مع بعض التغييرات المحدودة، وهو ما يحرمها من استغلال التحولات العميقة في السوق واقتناص الفرص الكبرى التي يتيحها الذكاء الاصطناعي.
فيما تثبت دراسات ماكنزي أن المرونة في إعادة تخصيص رأس المال ليست مجرد خيارٍ تنظيمي، بل هي عاملٌ حاسم ينعكس مباشرةً على عوائد المساهمين. فالشركات التي أعادت توجيه استثماراتها بين وحدات الأعمال بوتيرةٍ متكررة،14 والتي تُمثّل الشريحة الأعلى نشاطًا، تمكنت من تحقيق عوائد إجمالية للمساهمين تزيد بنحو 20 في المائة مقارنةً بالمؤسسات التي اكتفت بإجراءاتٍ محدودة أو تحركاتٍ بطيئة، والتي تتركّز في الشرائح المتوسطة أو الدُنيا من حيث وتيرة إعادة التخصيص. (يرجى الاطلاع على العمود الجانبي "المرونة في التطبيق: نهجٌ ديناميكيٌ مرن في استثمار رأس المال") (الشكل 6).
وتشير التجارب إلى أن الشركات التكنولوجية الأكثر نجاحًا في إعادة تخصيص رأس المال تعتمد على أربع ممارساتٍ أساسية:
- ربط التمويل بالأولويات الاستراتيجية. تقوم الشركات الأعلى أداءً بتوزيع استثماراتها في البحث والتطوير والنفقات الرأسمالية عبر مساراتٍ متوازية، تشمل إدخال تحسيناتٍ تدريجية على الأنشطة الأساسية، وابتكاراتٍ متقدمة تعزز تنافسيتها، ومشروعاتٍ ريادية عالية المخاطر. ويتم مراجعة كافة التخصيصات لهذه المسارات بشكلٍ دوري لضمان توافقها مع متغيرات السوق وتطور القدرات الداخلية لكل شركة.
- تصنيف الاستثمارات بحسب طبيعتها. يقوم القادة بتقسيم الميزانيات إلى ثلاث فئاتٍ رئيسية: الأولى مخصّصةٌ للإنفاق الإلزامي (مثل خفض التكاليف ومتطلبات الامتثال)، والثانية للمشاريع قصيرة الأجل الاختيارية التي تُرتّب بحسب العائد المالي المتوقع، أما الثالثة فتخص المبادرات طويلة الأجل التي تُقيَّم وفق معايير واضحة تشمل التوافق مع الاستراتيجية العامة، وكفاءة الفريق المنفّذ، ومستوى المخاطر المرتبطة بها.
- استخدام بطاقات الأداء الكميّة. وهي أداةٌ تُستخدم لقياس وتقييم المشاريع والأنشطة عبر مؤشراتٍ رقميةٍ دقيقة وقابلةٍ للقياس بدلًا من الاعتماد على الانطباعات أو التقديرات العامة. ومن أبرز هذه المؤشرات العائد المالي المتوقع، ومدى الانسجام مع الأهداف الاستراتيجية متوسطة المدى (التي تتراوح من 3 إلى 5 سنوات)، إلى جانب التقييم الدقيق للمخاطر.
- ابتكار آليات تمويلٍ للمشاريع الريادية. تلجأ الشركات الرائدة إلى وسائل متنوعة مثل صناديق رأس المال الاستثماري المؤسسي، أو الحاضنات، أو الصناديق المستقلة المخصصة لرأس المال المغامر، بما يسمح بتمويل المشاريع عالية المخاطر والعوائد، دون أن يؤثر ذلك على ميزانيات الأنشطة الأساسية.
5. تنفيذ صفقات اندماج واستحواذ منهجية
في مطلع عام 2025، اتجه عددٌ متزايد من الشركات إلى أنشطة الاندماج والاستحواذ كوسيلةٍ لاكتساب ميزةٍ تنافسية، وجاء قطاع التكنولوجيا في مقدمة القائمة. فقد انصبّ اهتمام الشركات بالصفقات متوسطة الحجم، التي تتراوح قيمتها من 500 مليون إلى 10 مليارات دولار، والتي سجلت نموًا لافتًا بنسبةٍ تراوحت بين 20 إلى 40 في المائة مقارنةً بالعام السابق.15 وبرغم ميل العديد من الشركات إلى خوض صفقات الاندماج والاستحواذ بصورةٍ انتقائية أو فردية، إلا أن أبحاث ماكنزي تؤكد أن اتباع أسلوبٍ منهجي ومُبرمَج في الاستحواذات والتخارجات هو الخيار الأكثر فاعليةً. فقد أظهرت البيانات أن الشركات التي تنفّذ بانتظامٍ ما بين ثلاث إلى خمس صفقاتٍ سنويًا ترتفع احتمالات تحقيقها لعوائد إجمالية إيجابية للمساهمين بنسبةٍ تتجاوز 70 في المائة.16 ويظهر هذا التوجّه جليًا في قطاع البرمجيات، إذ تُضاعِف الشركات التي تدير محافظها بفاعليةٍ عبر صفقات الاستحواذ والتخارج إجمالي عوائد المساهمين لديها مقارنةً بالشركات التي تتبنى ما يُعرف بأسلوب "الاندماج والاستحواذ الانتقائي"، أو تلك التي تبتعد عن الاستحواذ تمامًا وتعتمد إيراداتها وأرباحها على نشاطها الداخلي فقط. أما في قطاع التكنولوجيا على وجه التحديد، فقد أثبت الأسلوب المنهجي في الاندماج والاستحواذ قدرته على تحقيق فائضٍ في العائد الإجمالي للمساهمين بلغ 2.3 في المائة، متفوقًا بشكلٍ ملحوظ على أي استراتيجيةٍ أخرى في هذا المجال (يرجى الاطّلاع على العمود الجانبي "المرونة في التطبيق: تحقيق النمو عبر الاستحواذ") (الشكل 7).17
ولتحقيق نجاحٍ ملموس في صفقات الاندماج والاستحواذ، يتعيّن على الشركات تبنّي استراتيجيةٍ متكاملة تقوم على ثلاثة محاور رئيسية: أولًا، تنويع الاستحواذات عبر صفقاتٍ صغيرة ومُركّزة بدلًا من الاعتماد على الصفقات الضخمة الفردية؛ ثانيًا، استخدام التخارجات المنهجية للتخلص من الأنشطة منخفضة النمو؛ وثالثًا، الاستثمار في اكتساب القدرات داخل الأسواق المجاورة ذات الإمكانات عالية للنمو.
وكما في سباقات الفورمولا 1، حيث يدرس السائقون تفاصيل المضمار بدقةٍ عالية حتى تصبح استجابتهم للتغيّرات لحظيةً وغريزية، يحتاج القادة التنفيذيون إلى تنمية مرونتهم المؤسسية باستمرارٍ لتعزيز قدرتهم على التكيّف وتحقيق النجاح في أوقات الاضطرابات.
وعلى مرّ التاريخ، أثبتت فترات عدم اليقين والاضطراب أنها تشكّل فرصًا استثنائيةً للشركات التي تمتلك الجرأة على اتخاذ قراراتٍ استراتيجيةٍ حاسمة. فقد بيّنت التجارب أن المؤسسات الأكثر نجاحًا هي تلك التي تتحرك بثباتٍ عبر خمسة محاور جوهرية: اختيار مجالاتٍ جديدة للمنافسة، ابتكار نماذج أعمالٍ تعزز التحولات الاستراتيجية، توجيه المواهب نحو المجالات الأعلى قيمة، إعادة تخصيص رأس المال بمرونةٍ وفق الأولويات، وأخيرًا، تنفيذ صفقات اندماجٍٍ واستحواذٍ مُنهجية لدعم وتعزيز مجالات القوة. واليوم، يفتح التحول التكنولوجي العميق الذي يقوده الذكاء الاصطناعي أمام شركات التكنولوجيا نافذةً جديدةً من الفرص، في سباقٍ عالميٍ متسارع نحو تحقيق النمو والريادة في مسيرة التحول.