كيف يقود قادة شؤون التّعلم والتطوير مستقبل المؤسسات في عصر الدمج بين العمل والتعليم

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

وفي هذا السياق المتغيّر بوتيرة غير مسبوقة، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة التفكير في أساليب العمل والتعلّم داخل المؤسسات. فالتطورات التقنية السريعة، وتحولات الأسواق، وتعقيد الأنظمة التنظيمية، جميعها تُعيد تشكيل ملامح القطاعات الاقتصادية بوتيرة تكاد تفوق قدرة المؤسسات على التكيّف. وأمام هذا الواقع، بات من الواضح أن استمرارية النجاح تعتمد على تزويد الموظفين بمهارات جديدة، وتنمية عقليات أكثر مرونة، وتبنّي أساليب عمل تتماشى مع هذا الإيقاع المتسارع للعصر الرقمي. فالمهارات التقليدية لم تعد كافية لمواجهة متطلبات بيئة الأعمال الحديثة، التي تقوم على الابتكار المستمر والقدرة على التعلّم السريع والتكيّف الفوري مع التغيّرات.

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

ورغم أن تطوير الكفاءات بات اليوم عاملاً حاسمًا في نجاح المؤسسات، إلا أن بعض الشركات تسلك مسارًا معاكسًا تمامًا. إذ عمدت إلى إلغاء مناصب قيادية عُليا في مجال التعلّم، أو دمجها ضمن إدارات الموارد البشرية، الأمر الذي يبعد مسؤولي شؤون التطوير والتعلّم عن دوائر صنع القرار الاستراتيجي. هذا التوجّه يخلق مفارقة واضحة بين أهمية التعلّم كعنصر محوري للنمو المؤسسي، وبين تراجع دوره في هياكل الإدارة العُليا. إنها مرحلة تحمل في طيّاتها فرصًا استثنائية للتجديد والتأثير، لكنها في الوقت ذاته تنطوي على مخاطر كبيرة. فبالنسبة لرؤساء شؤون التعلّم والتطوير المهني، لم يكن الرهان على دورهم في صياغة مستقبل المؤسسات أكثر خطورة وأهمية مما هو عليه اليوم.

وفي الواقع، لطالما راود قادة شؤون التعلّم والتطوير حلمُ إتاحة التعلّم المخصص على نطاق واسع، أي أن يحصل كل موظف على تجربة تطوير مصممة وفق احتياجاته الفردية وطبيعة عمله الشخصية. وقد نجحت أفضل إدارات التعلّم في استثمار الأدوات المتاحة لتحقيق هذا الهدف، فأصبحت شريكًا في صياغة الاستراتيجيات المؤسسية، وخبيرة في تطوير الكفاءات، ومتمكنة من استخدام التقنيات الحديثة لدعم النمو المهني. واليوم، مع بروز الذكاء الاصطناعي كمحرّك رئيسي للتغيير، تبدو المؤسسات وقادة التعلّم فيها على أعتاب مرحلة جديدة تمامًا؛ مرحلة تمثل تحوّلًا جذريًا في أسلوب تقديم التعلّم المؤسسي، وانتقالًا من التدريب التقليدي إلى منظومة ديناميكية تتفاعل مع احتياجات الأفراد لحظة بلحظة.

وبعد أن مهد الذكاء الاصطناعي الطريق لتحوّل عميق في مفهوم التعلّم المؤسسي، تتجه الأنظار اليوم إلى ما هو أبعد من مجرد تطوير الأدوات أو زيادة البرامج التدريبية. فلم يعد مستقبل التعلّم قائمًا على إضافة المزيد من الدورات إلى جدول العمل، بل على إعادة تصور العمل ذاته كعملية تطوير مستمرة بطبيعتها. وفي هذا الإطار الجديد، لم يعد التعلّم نشاطًا منفصلًا يُمارس خارج بيئة العمل، بل أصبح جزءًا متكاملًا من التجربة المهنية اليومية. تندمج المهام العملية مع فرص التعلّم في نسيج واحد، لتغدو الأنشطة اليومية هي المحرك الأساسي للنمو المهني، والمختبر الحقيقي الذي يصقل خبرات الموظفين ويعزز قدراتهم في مواجهة تحديات المستقبل.

وفي ضوء هذا التحوّل المفاهيمي نحو دمج العمل بالتعلّم، يبرز دور رؤساء شؤون التعلّم والتطوير المهني بوصفهم الجهة الأقدر على قيادة هذا التغيير داخل المؤسسات. فهؤلاء القادة يتمتعون بفهمٍ عميقٍ لطبيعة الأعمال التي يقودونها، وبعلاقات وثيقة مع مختلف الإدارات، ما يمنحهم رؤية شاملة للاحتياجات الفعلية من المهارات والكفاءات التي تتطلبها استراتيجية المؤسسة. ومن هذا المنطلق، يمتلك هؤلاء المسؤولين القدرة على تصميم منظومات عملٍ لا يقتصر فيها دور الموظفين على تنفيذ المهام، بل تشمل كذلك النموّ المستمر، والتكيّف اللحظي مع المتغيرات، والابتكار في صميم الأداء اليومي. وهنا تتبدّل المعادلة: لم يعد السؤال كيف نُعِدّ الأفراد لمستقبل العمل، بل كيف نجعل العمل ذاته هو الأداة التي تُعِدّهم لذلك المستقبل.

وفي امتداد هذا التحوّل الذي يعيد تعريف علاقة التعلّم بالعمل، يستعرض هذا المقال الدور المتجدد لرؤساء شؤون التعلّم والتطوير المهني، الذين تقع على عاتقهم اليوم مهمة بناء بيئاتٍ تتكامل فيها عمليتا التعلّم والأداء في منظومة واحدة، مدعومة بالتكنولوجيا والبيانات وثقافة التطوير المستمر. كما يسلّط المقال الضوء على المبادئ الأساسية والأدوات العملية التي تمكّن قادة التعلّم من الارتقاء بأدوارهم في هذا العصر الرقمي، إضافةً إلى التحوّلات القيادية المطلوبة لنجاحهم في بيئةٍ تتّسم بالسرعة والتغيّر، وتضع الابتكار في صميم استدامتها.

إعادة تصميم بيئة العمل لتكون مساحة دائمة للتعلّم والتطور

يشهد دور رئيس شؤون التعلّم والتطوير تحوّلًا جوهريًا، من مجرّد مُقدِّمٍ لبرامج التدريب إلى مهندسٍ لمنظومات تطوير شاملة تمتدّ عبر مختلف مستويات المؤسسة. فالقادة الناجحون في هذا المجال لم يعودوا يركّزون على تنظيم الدورات التدريبية فحسب، بل على تصميم بيئات عمل تُعدّ بحدّ ذاتها منصّات للنمو المستمر، تُتيح للموظفين التعلّم والتكيّف والابتكار ضمن سياق مهامهم اليومية. وبذلك يتحوّل العمل من نشاطٍ وظيفي تقليدي إلى تجربة تعلّم حيّة، تتجدّد مع كل موقفٍ وتحدٍّ، وتغرس في الأفراد روح التطوير الذاتي كجزءٍ من ثقافتهم المهنية لا كخيارٍ إضافي.

ومن خلال الوصول إلى الموظفين في مواقعهم الفعلية داخل بيئة العمل، أي فهم احتياجاتهم وسياقاتهم اليومية، يستطيع مسؤولي شؤون التعلّم والتطوير خلق فرص نمو فورية وسلسة، تُمارس بشكل طبيعي وبديهي دون أن تعيق سير العمل أو تفرض عليه انقطاعًا. ويُسهم هذا النهج في تحويل التكنولوجيا من مجرد أداة مساعدة منفصلة إلى عنصر جوهري مدمج في طريقة أداء الموظفين لأعمالهم وتعلّمهم وتطوّرهم المهني، بحيث تصبح التقنية شريكًا في رحلة التطوير، لا إطارًا خارجها.

ولعلّ أبرز مثال على هذا التحوّل ما نشهده اليوم في مراكز خدمة العملاء التي تمثل الخطوط الأمامية للتعامل مع الجمهور. ففي هذه البيئات المليئة بالضغط وسرعة الإيقاع، يُطلب من الموظفين تقديم خدمة استثنائية للعملاء، مع التعامل في الوقت نفسه مع مواقف معقّدة ومتغيّرة لحظة بلحظة. وقد بدأت المؤسسات في توظيف التقنيات المتقدمة ليس فقط لمساعدة الموظفين على رفع كفاءتهم الإنتاجية، بل أيضًا لتوجيههم وتدريبهم أثناء العمل ذاته، فيتحول كل تفاعل مع عميل إلى فرصة للتعلّم الفوري وتحسين الأداء.

فعلى سبيل المثال: تخيّل أحد موظفي مراكز الاتصال وهو يتعامل مع استفسار أحد العملاء. في أثناء سير المكالمة، تقوم الأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي بتحليل الحوار في الوقت الفعلي، لتزوّده بتوصيات فورية تساعده على تحسين التجربة مثل، اقتراح أفضل الردود الممكنة، أو تحديد الخطوة التالية الأنسب، أو عرض معلومات تفصيلية عن المنتج المطلوب، وكل ذلك ضمن مجرى التفاعل نفسه دون أي انقطاع. ولا تقتصر هذه التقنيات على الدعم اللحظي، بل تؤدي أيضًا دور "المدرّب الرقمي"، إذ تقدم ملاحظات فورية بعد انتهاء المكالمة حول نبرة الصوت، ومستوى التعاطف، وأسلوب التواصل. ومع مرور الوقت، تتراكم هذه اللحظات القصيرة من التوجيه لتُحدث أثرًا عميقًا، حيث يكتسب الموظفون مهارات تواصل أكثر احترافية ويقدّمون نتائج أفضل للعملاء. إنه مثال حيّ على كيف يمكن للتكنولوجيا أن تدمج التعلّم في صميم العمل اليومي، بحيث يصبح التطوير المهني عملية طبيعية مستمرة، لا مرحلة منفصلة عن تجربة الموظف.

وبينما تُظهر مراكز الاتصال كيف يمكن للتقنية أن تجعل التعلّم جزءًا طبيعيًا من العمل اليومي، نجد مؤسسات أخرى تطبّق النهج ذاته في مجالات مختلفة، ومنها مؤسسات الخدمات المهنية التي تُعدّ التقييم ركيزة أساسية في ثقافتها المؤسسية ومنظومتها التطويرية. ففي إحدى هذه المؤسسات، كان نظام التقييم تقليديًا ودقيقًا إلى حد كبير، لكنه يستنزف وقتًا وجهدًا واسعَين من القائمين عليه، في حين نادرًا ما تُستثمر هذه الجهود في تحسين قدراتهم على تقديم الملاحظات البنّاءة أو تطوير مهاراتهم في الإشراف والتوجيه. ومن أجل رفع الكفاءة وتحقيق قيمة أكبر من عملية التقييم، أطلقت المؤسسة أداة تقييم جديدة مدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، تهدف إلى جعل التقييم أكثر إنتاجية وديناميكية. وقد لعب رؤساء شؤون التعلّم والتطوير دورًا محوريًا في تصميم هذه الأداة، وذلك من خلال إيجاد توازن ذكي بين متطلبات الكفاءة التشغيلية وفرص التطوير المهني للمقيّمين أنفسهم.

ومع بدء استخدام الأداة في نسختها الأولى، كشفت النتائج عن تحوّل لافت في جودة عملية التقييم. فقد أصبحت الأداة قادرة على رصد مظاهر الانحياز غير المقصود، وصياغة الملاحظات بلغة موحّدة تستند إلى معايير الكفاءة المعتمدة في المؤسسة، إلى جانب تحليل الملاحظات وتجميعها في محاور تُبرز الاتجاهات العامة في الأداء والتطوير. أما الجيل القادم من الأداة، فيُتوقّع أن يحدث نقلة نوعية أكبر، إذ سيضمّ خاصية التوجيه الذكي أثناء العمل، وهي ميزة قائمة على الذكاء الاصطناعي تتيح للمسؤولين عن التقييم الحصول على إرشادات فورية تساعدهم على اتخاذ قرارات أكثر دقّة وموضوعية في أثناء تقييمهم للآخرين. ومن خلال هذا الدمج بين التقنية والتعلّم، تحوّل المؤسسة عملية التقييم من مجرّد أداة لمتابعة الأداء إلى منظومة تطوير قيادي متكاملة، تصقل مهارات القادة وتعزّز قدرتهم على تمكين فرقهم.

كيف يمكن لرؤساء شؤون التعلّم والتطوير المهني تسريع وتيرة التغيير

في ظل تسارع التطور التقني وتبدّل احتياجات القوى العاملة، لم يعد دور مسؤولي شؤون التعلّم والتطوير يقتصر على إدارة البرامج التدريبية أو تطوير المهارات فحسب، بل بات مطالبًا بقيادة تحوّل شامل يمتد إلى عمق المؤسسة. ولتحقيق ذلك بفاعلية، يمكن له تبنّي ثلاثة مسارات جوهرية تُعيد تشكيل دوره القيادي: أولها، توسيع نطاق القيادة ليشمل ما يتجاوز حدود إدارة التعلّم، بحيث يصبح شريكًا فاعلًا في رسم توجهات المؤسسة. وثانيها، تبنّي نهجٍ قائم على البيانات لفهم احتياجات الموظفين وتحديد أثر التعلّم بدقة. أما المسار الثالث، فهو مواءمة خطط التعلّم مع الأهداف الاستراتيجية للأعمال، لضمان أن يسهم كل استثمار في التعلّم مباشرة في تحقيق نتائج ملموسة للمؤسسة.

توسيع دور القيادة بما يتجاوز نطاق إدارة التعلّم

يمكن لرؤساء شؤون التعلّم والتطوير أن يتقدّموا نحو دور قيادي أوسع يتجاوز الحدود التقليدية لإداراتهم، وذلك من خلال تشكيل فرق عمل مشتركة تضم خبرات متنوعة من الموارد البشرية، والعمليات، والتقنية، وتحليل البيانات، والوحدات التجارية المختلفة. ويهدف هذا النهج إلى توحيد الرؤية حول المهارات الجوهرية التي تحتاجها المؤسسة، وتحديد الفجوة بين القدرات الحالية وما يتطلّبه المستقبل من كفاءات جديدة. ومن هذا المنطلق، يمكن لهؤلاء المسؤولين أن يبدؤوا رحلتهم القيادية عبر مجموعة من الخطوات الأساسية التي تضع التعلّم في قلب التحوّل المؤسسي:

  • التعاون في تخطيط القوى العاملة الاستراتيجي: يمكن لرئيس شؤون التعلّم والتطوير أن يلعب دورًا محوريًا في مواءمة قدرات القوى العاملة مع الأهداف المستقبلية للمؤسسة، من خلال التعاون المباشر مع الرئيس التنفيذي للاستراتيجية. ويتيح هذا التعاون تحديد المهارات المطلوبة لدعم توجهات النمو طويلة المدى سواء كان ذلك بالتوسّع في أسواق جديدة أو تبنّي نماذج أعمال مبتكرة، بما يضمن جاهزية الكفاءات البشرية لمواكبة التحوّلات المقبلة وتحقيق الأهداف الاستراتيجية بكفاءة.
  • توظيف الذكاء الاصطناعي لفهم المهارات وتوجيه تطويرها: في عصرٍ باتت فيه البيانات محور القرارات المؤسسية، يمكن لرؤساء شؤون التعلّم والتطوير الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي لرسم خريطة دقيقة لمهارات الموظفين الحالية واستشراف المهارات المستقبلية المطلوبة. ويأتي ذلك بالتعاون مع الرئيس التنفيذي لشؤون الذكاء الاصطناعي، لتصميم برامج تطوير مخصصة على نطاق واسع تُلبي احتياجات كل موظف وفق دوره ومسار تطوّره المهني. فعلى سبيل المثال، طبّقت إحدى شركات الاتصالات العالمية مؤخرًا منظومة تدريب وتوجيه مدعومة بالذكاء الاصطناعي، قامت بتقييم مهارات الموظفين واقتراح مسارات تطوير فردية تساعدهم على اكتساب أدوات رقمية جديدة بسرعة أكبر. وفي الوقت نفسه، أتاحت هذه المنظومة للإدارة رؤية شاملة وديناميكية لقدرات القوى العاملة، مما مكّنها من توزيع المواهب بذكاء وفق متطلبات المشاريع والأولويات. وبدمج تحليلات المهارات الدقيقة مع التعلّم الموجّه شخصيًا، يتمكّن رؤساء شؤون التعلّم والتطوير من تحقيق معادلة التطوير القابل للتوسّع والمتّصل مباشرة بالأهداف الاستراتيجية للمؤسسة.
  • المشاركة في تصميم التقنيات المحورية مع القادة التقنيين والإداريين: يتعيّن على رؤساء شؤون التعلّم والتطوير أن يكونوا شركاء فاعلين في تشكيل وتصميم الأنظمة والمنصات التقنية الأساسية التي يعتمد عليها الموظفون في أداء مهامهم اليومية، وذلك بالتعاون مع القيادات التقنية والإدارية في المؤسسة. ومن خلال دمج أدوات التعلّم والدعم المهني داخل هذه الأنظمة ذاتها، يمكن تحويل التكنولوجيا من مجرد وسيلة لرفع الإنتاجية إلى رافعة استراتيجية تُسرّع وتيرة النمو وتعزّز قدرة المؤسسة على التكيّف والتجدّد. وبهذا يصبح النظام التقني جزءًا من بيئة التطوير المستمر، لا أداة تشغيلية فحسب.

التعامل بجدّية مع البيانات

بات على رؤساء شؤون التعلّم والتطوير اليوم إعادة النظر في الطريقة التي يُقاس بها التقدّم المهاري أو المهني داخل بيئة العمل، خصوصًا في ظل تزايد الاعتماد على التعلّم المدمج بالمهام اليومية. فالمقاييس التقليدية، مثل عدد ساعات التدريب، أو معدلات إكمال الدورات، أو استبيانات الرضا، لم تعد تعكس واقع التعلّم القائم على الأداء ولا تُظهر الأثر الحقيقي للتطوير على الكفاءات المؤسسية. وفي المقابل، يمكن لهؤلاء القادة بناء أنظمة ذكية تقدّم رؤى فورية ودقيقة حول تطوّر مهارات الموظفين أثناء عملهم، وتُظهر مدى فاعلية البرامج التدخلية في تحقيق نتائج ملموسة. وتشمل هذه الأنظمة مجموعة من الأدوات والآليات التي تُحدث نقلة نوعية في طريقة فهم التقدّم المهني وقياسه داخل المؤسسات.

وبعد إعادة تعريف مقاييس التطوير المهني لتواكب واقع التعلّم المتكامل مع العمل، يصبح من الضروري الانتقال إلى مرحلة الرصد العملي لتطوّر المهارات ضمن بيئة العمل ذاتها. فلم يعد الاكتفاء بالتقييمات الثابتة كافيًا في عصرٍ يتغيّر فيه الأداء لحظة بلحظة. فبدلًا من الاعتماد على اختبارات دورية أو تقارير جامدة، يمكن لرؤساء شؤون التعلّم والتطوير التركيز على البيانات الحيّة التي تعكس كيفية اكتساب الموظفين لمهاراتهم وتطبيقها أثناء تنفيذ مهامهم اليومية. فعلى سبيل المثال، يمكن قياس التقدّم المهاري من خلال نتائج المشاريع، ومؤشرات الأداء، والتقييمات المستمرة، بما يتيح رؤية مباشرة لتطور الكفاءات في الوقت الحقيقي، ويحوّل عملية القياس من أداة إدارية إلى مرآة ديناميكية تعكس التعلّم وهو يحدث فعليًا داخل المؤسسة.

وبينما تتّجه المؤسسات نحو جعل التعلّم جزءًا أساسياً من بيئة العمل، تبرز فرق المنتجات التقنية في شركات البرمجيات كأحد أبرز النماذج على هذا التحوّل. ففي هذه الفرق التي تعمل وفق وتيرة متسارعة، تُعدّ اجتماعات التخطيط اليومية جزءًا أساسيًا من سير العمل، حيث تُحدَّد المهام وتُوزَّع الأولويات باستخدام أدوات مثل "Jira" أو "Linear". لكن ماذا لو تحوّلت هذه العملية التشغيلية الروتينية إلى منصّة للتطوير المهني في حد ذاتها؟ تخيّل وجود وسيلة ذكية تساعد في "التوجيه الفوري"، وتكون مدمجة داخل لوحة المهام، تُقدّم اقتراحات لحظية مثل: "شارلوت تولّت قيادة تجربتين مؤخرًا، من المناسب الآن تكليفها بإدارة التواصل مع أصحاب المصلحة لتوسيع مهاراتها"، أو مثال آخر: "آموس شارك سابقًا في تحليل البيانات، وحان الوقت ليتولّى هذه المهمة بنفسه". بهذه الطريقة، تُربط كل مهمة بمجموعة من المهارات، مثل تحديد الأولويات أو فهم العملاء، ويقوم النظام برصد تطوّر مهارات الفريق مع مرور الوقت، ليصبح العمل ذاته محفّزًا للتعلّم، وويكون في نفس الوقت التعلّم جزءًا مُتجددًا من دورة العمل اليومية.

وبدلًا من الاعتماد على المديرين وحدهم في تحديد المهام التي يمكن أن توسّع خبرات الموظفين أو تطوّر مهاراتهم، يمكن للنظام الذكي أن يؤدي دور المدرّب الافتراضي، من خلال تحليل أداء كل موظف واكتشاف أنماط النمو أو التراجع وتحديد الجوانب التي تحتاج إلى مزيد من الممارسة. ومع مشاركة رئيس شؤون التعلّم والتطوير في تصميم هذا النظام والإشراف على آلياته، تتحوّل اجتماعات التخطيط السريع إلى ما هو أبعد من كونها عملية لتوزيع المهام أو إنجاز المشاريع، لتصبح أيضًا أداة لتطوير القيادات وتنمية الكفاءات داخل فرق الأعمال، حيث يتكامل العمل والتعلّم في منظومة واحدة تُنمّي الإنسان بقدر ما تُنجز المشروع.

وبعد أن أصبحت أنظمة العمل الحديثة قادرة على تتبّع تطوّر المهارات داخل الفرق في الوقت الحقيقي، يبرز جانب آخر لا يقل أهمية يتمثّل في إنتاج بيانات منهجية حول كيفية ممارسة تلك المهارات وتطويرها، إذ يمكن لرؤساء شؤون التعلّم والتطوير تصميم تجارب عمل وتعلّم مترابطة تُنتج بيانات دقيقة ومنظّمة عن مستوى إتقان الموظفين لمهاراتهم وكيف تتطوّر مع الممارسة. ومن خلال إدماج فرص التدريب العملي المتعمّد ضمن أدوات وأنظمة العمل اليومية، تصبح المؤسسة قادرة على رصد كيفية تطبيق المعرفة وتحليل مسار التحسّن المهاري لحظة بلحظة. وتشكّل هذه البيانات ركيزة أساسية لقياس فاعلية مبادرات التطوير، كما تساعد في تحديد الفجوات وتحسين البرامج المستقبلية، لتتحوّل عمليات الرصد إلى مصدرٍ مستمرّ للتعلّم المؤسسي وتوجيه الاستثمار في بناء القدرات.

وفي سياق تحويل البيانات إلى أدوات تطوير عملية، يبرز مثال تطبيقي في برامج استقطاب وتدريب المهندسين الجُدد في شركات البرمجيات، حيث يمكن إعادة تصميم مرحلة الالتحاق بالعمل لتصبح تجربة تعلّم واقعية منذ اليوم الأول. فبدل من الاكتفاء بالتدريب النظري، يُشارك المنضمون الجُدد في تمارين عملية قصيرة تحاكي مواقف العمل الحقيقية، مثل إجراء تعديلات على الشيفرة البرمجية واكتشاف الأخطاء أو الثغرات المنطقية، والتأكد من جودة الاختبارات التي تضمن سلامة الأداء. ويعتمد البرنامج على مدرّب افتراضي ذكي مزوّد بتقنيات الذكاء الاصطناعي، يقدّم ملاحظات فورية ومخصصة استنادًا إلى معايير الفريق. وهكذا تتحوّل مرحلة الاندماج الأولى من تجربة تعريفية تقليدية إلى رحلة تطوير حقيقية تصقل مهارات التحليل، والانتباه للتفاصيل، وصنع القرار التقني بثقة وكفاءة.

ولا تقتصر أهمية هذه البيانات على مستوى الأفراد فحسب، بل تمتد لتُشكّل مصدرًا قيّمًا عند تحليلها على نطاق أوسع. إذ يقوم النظام بجمع بيانات دقيقة ومنظّمة حول أداء المتدرّبين، مثل مدى قدرتهم على اكتشاف الأخطاء في الشيفرة، والمجالات التي تحسّنت لديهم بمرور الوقت، ومدى تطوّر جودة الحلول التي يقترحونها أثناء التمرين. وتمنح هذه الرؤى المعتمدة على البيانات قادة شؤون التعلّم والمديرين صورة واضحة عن سرعة اندماج الموظفين الجُدد وتقدّمهم في اكتساب المهارات التقنية، كما تتيح تعديل برامج التدريب والتأهيل استنادًا إلى نتائج فعلية، لضمان أن تساهم تجربة الالتحاق بالعمل في بناء مهارات متينة تعزز أداء الفرق وكفاءتها على المدى الطويل.

وبعد أن أصبحت البيانات الناتجة عن برامج التدريب والتأهيل أداة لفهم تقدّم الأفراد وتحسين تجارب التعلّم، تأتي الخطوة التالية نحو توسيع هذا النهج على مستوى المؤسسة بأكملها عبر بناء منظومات تحليل ذكية تربط بين مختلف مصادر المعلومات، حيث يمكن لرؤساء شؤون التعلّم والتطوير دمج البيانات الواردة من منصّات التعلّم، وتقييمات الأداء، ونتائج المشاريع، وحتى مؤشرات سوق العمل الخارجية لتشكيل رؤية شاملة لقدرات القوى العاملة داخل المؤسسة. ومن خلال هذا التكامل، يصبح بالإمكان تحديد المهارات الأكثر أهمية، واستشراف الاحتياجات المستقبلية، وضمان توافق برامج التطوير مع أولويات العمل الاستراتيجية. وبهذا تتحوّل البيانات من أرقام متفرقة إلى نظام ذكي يُوجّه قرارات النمو ويعزّز استدامة الكفاءات في المؤسسة.

وبينما تواصل المؤسسات تطوير أنظمتها الذكية لرصد المهارات، تبرز بعض الوظائف التي تتطلّب قدرات تحليلية وتقديرية يصعب قياسها تقنيًا، مثل أقسام المشتريات التي تعتمد بشكل كبير على الخبرة البشرية في التعامل مع المواقف المعقّدة. ففي معظم إدارات المشتريات، يتعامل المختصّون باستمرار مع مفاوضات معقّدة مع المورّدين، عليهم فيها الموازنة بين أولويات متعارضة واتخاذ قرارات دقيقة في توقيتات حسّاسة. والفرق الحقيقي بين موظفٍ جيّد وآخر استثنائي يكمن في قدرته على قراءة المواقف وتقدير التوقيت المناسب للمطالبة أو التنازل، وفهم نوايا الطرف الآخر. ورغم أن نتائج هذه المفاوضات تُسجَّل عادة في أنظمة التوريد أو إدارة العقود، فإن الخبرة والملاحظات الدقيقة المكتسبة من عملية التفاوض نفسها غالبًا ما تُفقد، لأن مهارة التقدير المهني لا تُبنى بسرعة ولا تُكتسب بطريقة منهجية أو قابلة للتكرار بسهولة، بل تنضج بمرور الوقت من خلال التجربة والممارسة المتكررة.

ومن هنا، يمكن للتكنولوجيا أن تلعب دورًا محوريًا في تحويل التجربة العملية إلى أداة تعلّم متجدّدة، حتى في المجالات التي تعتمد على التقدير والخبرة البشرية، مثل إدارة المشتريات. فإضافة نظام تفكير وتحليل مدعوم بالتقنية داخل منصة المشتريات يمكن أن يحوّل لحظة إغلاق التوثيق بعد كل صفقة إلى فرصة للتأمل والتعلّم الذاتي. فعلى سبيل المثال، بعد تسجيل تفاصيل أي تفاوض، يمكن للنظام أن يطرح على الموظف أسئلة فورية مثل: ما القرار الأصعب الذي اضطررت لاتخاذه أثناء هذه المفاوضة؟ أو ما الموقف الذي أربكك أكثر، وكيف ستتعامل معه بطريقة مختلفة في المرة القادمة؟. وبذلك تتحوّل عمليات التوثيق الروتينية إلى حلقات تطوير مستمرة، تُمكّن الموظفين من استيعاب دروس المواقف السابقة وصقل مهاراتهم مع كل تجربة جديدة.

ومع مرور الوقت، تبدأ المنصّة الذكية في تحليل الأنماط والسلوكيات المهنية لكل موظف، فتتعرف على طريقته في الإقناع، ومستوى تحمّله للمخاطر بشكل عام، وكيفية اتخاذه للقرارات في المواقف الحسّاسة. ومن ثم تقدّم هذه المنصّة مقارنات تحليلية مجهولة الهوية بين الموظف وزملائه ممن تعاملوا مع مواقف مشابهة، على سبيل المثال، قد تعرض له تنبيهًا يقول: "زملاؤك في مفاوضات مشابهة اتخذوا موقفًا أكثر حزمًا، هل ترغب في الاطّلاع على أسلوبهم؟". كما تتيح تذكيرات ذكية للتدريب العملي واقتراحات موجّهة للمديرين تساعدهم على تقديم الإرشاد المناسب في الوقت الملائم. وبهذا تتحوّل التقنية إلى شريك فعلي في تطوير السلوك المهني واتخاذ القرارات المناسبة، لا مجرد أداة لتسجيل الأداء أو مراقبته.

ومن خلال إدخال لحظات قصيرة من التوقّف والتفكير داخل سير العمل اليومي، تستطيع المؤسسة تحويل المهام الاعتيادية إلى مصدر غنيّ للبيانات والمعرفة التطويرية. فهذه الوقفات البسيطة تُتيح للموظفين تأمل قراراتهم وتعلّم دروسٍ فورية من تجاربهم، ما يضيف بُعدًا إنسانيًا وعمليًا إلى دورة العمل. وعندما يشارك مسؤولي شؤون التعلّم والتطوير في تصميم هذا النظام، تتحوّل القدرة على التقدير واتخاذ القرار السليم إلى مهارة مؤسسية تُبنى بشكلٍ مقصود ومنهجي، لا مجرد خبرة مكتسبة مع الوقت. وبذلك تُصبح المؤسسة بيئة تُنمّي التفكير الواعي بقدر ما تُنمّي الإنتاجية.

جعل التعلّم محركًا للأداء والنتائج المؤسسية

وفي سياق تطوير دور التعلّم داخل المؤسسات، لا يدعو مستقبل التعلّم إلى التخلّي عن البرامج المنظمة مثل الدورات التدريبية أو الندوات الافتراضية، بل إلى إعادة تصوّر دورها وموقعها في منظومة التطوير الشامل. فهذه البرامج ستظل ضرورية لنقل الثقافة المؤسسية وغرس مفاهيم القيادة والقيم المشتركة بين الموظفين. إلا أن الفرصة الأكبر اليوم تكمن في دمج التعلّم ببيئة العمل ذاتها، بحيث يصبح العمل تجربة تطوير متكاملة وليست منفصلة. فعندما يُصمَّم العمل ليكون بطبيعته محفّزًا للنمو، يتمكّن الموظفون من اكتساب المهارات وصقلها في الوقت الحقيقي أثناء مساهمتهم المباشرة في تحقيق أهداف المؤسسة، ليصبح التعلّم وسيلة للإنتاج والابتكار معًا، لا مرحلة موازية لهما.

ولتحقيق هذا التحوّل في جوهره، يحتاج رؤساء شؤون التعلّم والتطوير المهني إلى نقل تركيزهم من متابعة الأنشطة التدريبية إلى قياس الأثر الفعلي للتعلّم على أداء المؤسسة. فلم يعد السؤال المطروح هو: كم عدد الأشخاص الذين أكملوا الدورة؟ أو كم ساعة قضاها الموظفون في التعلّم؟، بل أصبح الأهم هو: كيف يسهم التعلّم في تمكين المؤسسة من التكيّف والابتكار والنمو؟. ويقتضي هذا التحوّل اعتماد مقاييس جديدة تتجاوز الأرقام الشكلية لتعبّر عن المرونة المؤسسية والنتائج الملموسة التي يحققها التعلّم. وتشمل هذه المقاييس مؤشراتٍ نوعية تُظهر مدى ارتباط التطوير المهاري بقدرة المؤسسة على التجديد والتوسع وتحقيق أهدافها الاستراتيجية:

  • أولاً، تطوّر المهارات في سياقها العملي: يركّز هذا المقياس على مدى قدرة الموظفين على تطوير المهارات التي تُمكّنهم من معالجة التحديات الفعلية التي تواجه المؤسسة، وليس فقط على اكتساب المعرفة النظرية. فالغاية ليست معرفة من تعلّم مهارة جديدة، بل التأكد من أن هذه المهارة تُستخدم فعليًا لتحقيق نتائج ملموسة ضمن بيئات عمل ديناميكية وسريعة الإيقاع تتطلّب دقّة ومرونة في الأداء. وبذلك يصبح قياس تطوّر المهارة مرتبطًا بفاعليتها التطبيقية، أي بقدرة الموظف على تحويل ما يتعلّمه إلى إنجاز واقعي يدعم أهداف المؤسسة.
  • ثانياً، المرونة المؤسسية: يُقاس هذا المؤشر بمدى قدرة المؤسسة على الاستجابة السريعة للتغيّرات من خلال ما توفّره أنشطة التعلّم من مهارات ومعرفة قابلة للتطبيق الفوري. فالتعلّم الفعّال لا يهدف فقط إلى رفع كفاءة الأفراد، بل إلى تعزيز قدرة المؤسسة على إعادة توزيع الكفاءات، واستثمار الفرص الجديدة، وتوسيع القدرات التشغيلية عند الحاجة. ومن خلال وضوح رؤية المهارات المتاحة وسرعة تطويرها، يصبح التعلّم أداة استراتيجية تمكّن المؤسسة من التحرّك بمرونة وذكاء في مواجهة التحوّلات المستمرة في السوق والبيئة التنافسية.
  • ثالثاً، النتائج العملية الملموسة: يهدف هذا المقياس إلى قياس الأثر الحقيقي للتعلّم على أداء المؤسسة ونتائجها العملية. فالقيمة لا تُقاس بعدد الدورات أو المشاركين، بل بمدى انعكاس التطوير على مؤشرات الأداء الفعلية. فعلى سبيل المثال، يمكن رصد أثر التعلّم من خلال تسريع إطلاق المنتجات في السوق، وتحسين تجربة العملاء، ورفع كفاءة العمليات التشغيلية. ومن خلال ربط برامج بناء المهارات بمؤشرات الأداء الأساسية في بيئة العمل، يستطيع مسؤولي شؤون التعلّم والتطوير إثبات أن الاستثمار في التعلّم يسهم مباشرة في تحقيق نتائج قابلة للقياس، ويُحوّل التطوير المهني إلى رافد فعلي للنمو المؤسسي.

ومن خلال التركيز على هذه المقاييس الجوهرية، يستطيع رؤساء شؤون التعلّم والتطوير تحويل التعلّم من نشاط منفصل إلى أداة استراتيجية محورية تعزّز قدرة المؤسسة على التكيّف والنمو المستدام. فالتعلّم، حين يُقاس ويُوجَّه بطريقة منهجية، يصبح قوة ديناميكية دافعة تمكّن المؤسسة من الازدهار في بيئة تتغيّر باستمرار وتزداد تنافسية يومًا بعد يوم. اطلع على (الشكل) التالي، الذي يوضح كيف يتحوّل التعلّم المؤسسي إلى عنصر فعّال في دعم المرونة والنمو.

تطوير التعلّم المؤسسي لمواكبة مستقبل العمل

لطالما لعبت إدارة التعلّم والتطوير دورًا أساسيًا في تنفيذ الاستراتيجيات المؤسسية، من خلال قدرتها على التوسّع في تقديم البرامج، وتوظيف التقنيات الحديثة، وتبنّي التصميم المتمحور حول الإنسان لتحقيق أثر ملموس داخل المؤسسات. لكن المرحلة القادمة تتطلّب انتقالًا أعمق في الدور، حيث بات على رؤساء شؤون التعلّم والتطوير تحويل فرقهم إلى مهندسين لتصميم بيئة العمل ذاتها، لا مجرّد منفّذين لبرامج التدريب. ويعني ذلك استخدام خبرات إدارة التعلّم في إعادة صياغة أسلوب تنظيم العمل وطريقة أدائه، بما يضمن تحقيق التوازن بين نتائج الأعمال وتنمية الأفراد في الوقت نفسه. ولتحقيق هذا التحوّل، يمكن لقادة التعلّم والتطوير النظر في مجموعة من الخطوات العملية التي تعيد تعريف العلاقة بين التعلّم والعمل في قلب المؤسسة.

تسخير قدرات فرق التصميم لإعادة ابتكار بيئة العمل

تميّز مصمّمو مناهج التعلّم على مدى سنوات بقدرتهم على ابتكار تجارب تعليمية فعّالة تُسهم في بناء المهارات، وتعزيز التفاعل، ودفع الموظفين نحو تبنّي سلوكيات إيجابية داخل بيئة العمل. واليوم، بات بإمكان رؤساء شؤون التعلّم والتطوير توجيه هذه الخبرات نفسها نحو إعادة تصميم بيئة العمل ذاتها، بحيث لا تقتصر على تطوير المهارات، بل تمتد لتُعيد صياغة طريقة العمل بما يحقّق الكفاءة، ويحفّز الإبداع، ويجعل التعلّم جزءًا طبيعيًا من كل تجربة مهنية.

وبعد أن أصبح لمصمّمي مناهج التعلّم دور متزايد في إعادة تشكيل بيئة العمل، يمكن توسيع هذا الدور ليشمل التكامل مع التقنيات الحديثة وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي. فعند تطوير أنظمة أو وكلاء ذكاء اصطناعي لتولّي مهام محددة، ينبغي أن يتعاون مصمّمو نماذج التعلّم مع الفرق التقنية لضمان أن تُصمَّم هذه الأدوات بطريقة تُسهم في تحفيز التفكير التحليلي والإبداعي لدى الموظفين، بدل أن تحصرهم في أداء آلي متكرّر. ومن خلال بناء تفاعلات مدروسة بين الإنسان والنظام الذكي، يمكن تحويل استخدام التقنية إلى تجربة تعلّم حقيقية تُنمّي مهارات اتخاذ القرار، وحل المشكلات، والتفكير الاستراتيجي، بحيث يستمر الموظفون في النمو المهني حتى أثناء اعتماد المؤسسة على الأتمتة. وبهذا يتحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة تنفيذية إلى شريك في تطوير القدرات البشرية وتعزيز التفكير المنتج داخل بيئة العمل.

إعادة النظر في تحليل الاحتياجات باعتباره عملية استراتيجية لإعادة تشكيل هيكل القوى العاملة.

يرتكز تحليل الاحتياجات التقليدي على تحديد فجوات المهارات ومواءمة مبادرات التعلم مع احتياجات العمل، غير أن قادة شؤون التعلم والتطوير باتوا قادرين اليوم على الارتقاء بهذا الدور إلى مستوى أكثر تأثيرًا من خلال دمج فرق التعلم ضمن منظومة التخطيط الاستراتيجي للقوى العاملة. ومن شأن هذا الدمج أن يتيح للمؤسسات إعادة تصميم أسلوب أداء العمل وتنفيذه بطريقة أكثر كفاءة ومرونة، تُسهم في تحقيق أهدافها الاستراتيجية وتعزيز جاهزيتها للمستقبل.

وبدلًا من الاكتفاء بتحديد المهارات التي يفتقر إليها الموظفون، يمكن لفرق شؤون التعلم والتطوير التعاون مع القيادات التنفيذية لتحليل كيفية تطوّر الأدوار والمسارات الوظيفية والهياكل التنظيمية لمواكبة تحديات المستقبل. وقد يشمل ذلك وضع تصور شامل للقدرات المطلوبة لمواكبة التقنيات الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتصميم أدوار ومهام تسهم في الوقت ذاته في تحقيق نتائج الأعمال وتنمية الموظفين مهنيًا. ومن خلال تبنّي نهج استباقي شامل يرتكز على التفكير بالنظام ككل، تستطيع فرق التعلم ضمان أن تصميم القوى العاملة لا يأتي كرد فعل للتغيّرات، بل كخطوة استباقية تستشرف المستقبل، ما يمكّن المؤسسات من الحفاظ على جاهزيتها وتفوّقها في وجه التحوّلات السريعة.

تطوير منهجية تحليل الاحتياجات لتصبح أداة لبناء فرق العمل المستقبلية

لطالما انشغلت إدارات شؤون التعلّم والتطوير بالمقاييس التقليدية مثل معدلات إكمال البرامج التدريبية واستطلاعات الرأي بعد الدورات، وهي مؤشرات تُظهر جانبًا محدودًا من أثر التعلّم داخل المؤسسة. غير أن المرحلة الجديدة تتطلّب إعادة توجيه هذه القدرات نحو أنظمة قياس أكثر ذكاءً وديناميكية تواكب سير العمل الفعلي. فبدل الاكتفاء بتقارير بعد التدريب، يمكن لرؤساء شؤون التعلّم والتطوير تطوير لوحات تحكّم فورية تقيس تطوّر المهارات ومستوى الإتقان داخل بيئة العمل نفسها، لتقدّم صورة لحظية عن مدى تقدّم الموظفين وقدرتهم على تطبيق ما يتعلّمونه في المواقف العملية اليومية.

وفي هذا الإطار، يمكن لفرق التعلّم والتطوير دمج البيانات الواردة من أنظمة العمل وأدوات تقييم الأداء وملاحظات الزملاء، لتتبّع كيفية تطبيق الموظفين لمهاراتهم وتطوّرها أثناء العمل الفعلي. ويساعد هذا النهج على رصد الثغرات المهارية الناشئة والتنبؤ بالقدرات التي ستحتاجها المؤسسة مستقبلًا مع تغيّر متطلباتها التشغيلية. ويمكن توظيف هذه الرؤى في إعادة تصميم الأدوار الوظيفية وتطوير هياكل الفرق بشكلٍ أكثر دقّة ومرونة، بما يضمن استعداد المؤسسة للتعامل مع التحوّلات المستمرة. وبهذا المفهوم الجديد للمقاييس، تتحوّل إدارات التعلّم إلى شركاء استراتيجيين لا غنى عنهم في بناء قوى عاملة جاهزة لمستقبل العمل.

وبعد أن أصبحت إدارات التعلّم شريكًا استراتيجيًا في بناء القوى العاملة المستقبلية، يتّضح أن النموذج التقليدي للتعلّم المنفصل عن العمل لم يعد قادرًا على تلبية متطلبات العصر من حيث السرعة، والتوسّع، والتخصيص. فقد تجاوزت المؤسسات مرحلة التدريب الموسمي إلى مرحلة جديدة من الدمج الكامل بين التعلّم والعمل، وهي نقلة تعيد تعريف مفاهيم النموّ والتكيّف والازدهار داخل بيئات العمل الحديثة. في الواقع، إنها لحظة فارقة تستدعي من رؤساء شؤون التعلّم والتطوير أن يتحلّوا بالجرأة لتجاوز النماذج التقليدية، وأن يصمموا أنظمة تجعل من العمل ذاته منصّة مستمرة للتعلّم ومحفّزًا للتطوّر المؤسسي. فعندما يصبح العمل مصدرًا للتعلّم، يغدو التطوير ممارسة يومية، وتتحوّل المؤسسة إلى كيان حيّ يتجدّد باستمرار في مواجهة عالم يتغيّر بلا توقف.

Explore a career with us