تشهد التقنيات الحيوية الحديثة انتشارًا واسعًا عبر مختلف الصناعات، مما يفتح آفاقًا جديدة في مجال الغذاء.1 وتُعد عملية التخمير، وهي شكل من أشكال المعالجة الحيوية، من أبرز هذه التقنيات، حيث تتيح لمنتجي الغذاء إنتاج البروتينات والمكونات الغذائية باستخدام الميكروبات بدلاً من الحيوانات. هذه الطريقة لا تسهم فقط في تقليل الاعتماد على الأراضي الزراعية والانبعاثات الناجمة عن تربية المواشي، بل تعزز أيضًا موثوقية الإنتاج الغذائي وتسهم في تحقيق أمن غذائي مستدام.
بحلول عام 2050، يمكن أن تشكل البروتينات المبتكرة المستخلصة من التخمير حوالي 4% من إجمالي إنتاج البروتين، مما يخلق سوقًا سنوية تتراوح قيمتها بين 100 مليار و150 مليار دولار، وذلك وفقًا لعوامل مثل السياسات المناخية وسرعة التقدم التكنولوجي. ولا تقتصر فوائد تطور تقنيات التخمير على قطاع الغذاء فحسب، بل تمتد أيضًا إلى صناعات أخرى مثل المواد الكيميائية والمواد المتقدمة.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
قبل أن تنتشر البروتينات الجديدة على نطاق واسع، سيكون من الضروري توسيع تقنيات التخمير. وحاليًا، تواجه الشركات المنتجة لهذه المكونات تكاليف تصنيع أعلى بكثير مقارنة بالبروتينات التقليدية، والتي تتراوح تكلفتها عادة بين 2 إلى 15 دولارًا للكيلوغرام الواحد. ولتقليل الأسعار من خلال اقتصاديات الحجم (تعني أن كلما زادت الشركة من إنتاجها، انخفضت تكلفة إنتاج كل قطعة، لأن التكاليف تتوزع على عدد أكبر)، تشير التقديرات إلى أن الشركات العاملة في مجال التخمير ستحتاج إلى استثمار أكثر من 250 مليار دولار بحلول عام 2050 لزيادة قدرتها الإنتاجية.
في هذا المقال، نتحدث عن كيفية تسريع صناعة الأغذية للتحول نحو المكونات المستخرجة بالتخمير، وخاصة البروتينات. ولتحقيق ذلك، يمكن للشركات الكُبرى والناشئة والمستثمرين تحسين عمليات التخمير، وتطوير معدات الإنتاج لخفض التكاليف، وابتكار منتجات تجذب المستهلكين، والتعاون معًا لتوسيع هذه الصناعة.
المكونات الجديدة تفتح آفاقًا واسعة لتطوير المنتجات
من المتوقع أن تصل قيمة السوق المحتملة لمنتجات البروتين المستخلصة من التخمير إلى ما بين 100 مليار و 150 مليار دولار بحلول عام 2050، مما يفتح الباب أمام استثمارات ضخمة في هذا المجال (اطلع على الشكل 1).2 هذه الفرصة الواعدة دفعت الشركات التقليدية في مجال التخمير، وعمالقة صناعة الأغذية، وصناديق الثروة السيادية، وغيرهم إلى استثمار أكثر من 4 مليارات دولار في تقنيات التخمير الدقيق والتخمير الحيوي خلال السنوات الخمس الماضية.3
ويعود هذا الاهتمام المتزايد بالأغذية المبتكرة إلى قدرتها على دعم وتعزيز إنتاج الغذاء التقليدي، لا سيما في مجال البروتينات. فحاليًا، يبلغ حجم السوق العالمية للبروتينات حوالي 3 تريليونات دولار، ومن المتوقع أن تنمو لتصل إلى نحو 3.5 تريليونات دولار بحلول عام 2050. ومع ذلك، تواجه الزراعة الحيوانية تحديات متزايدة، مثل ارتفاع أسعار الأعلاف، وتقلبات المناخ، وانتشار الأمراض، مما يعيق قدرتها على تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة لسكان العالم. وهنا تبرز أهمية البروتينات البديلة المستخلصة من التخمير، باعتبارها حلًا واعدًا لتعزيز الأمن الغذائي العالمي بطريقة أكثر استدامة وكفاءة.
المكونات الجديدة التي يتم إنتاجها باستخدام العمليات الحيوية توفر حلاً للتخفيف من هذه المخاطر (اطلع على العمود الجانبي بعنوان "عن التخمير وزراعة الخلايا"). نظرًا لأن التخمير يتم في بيئة صناعية داخل أوعية مخصصة، فإن عملية الإنتاج تكون محكمة ويمكن توسيعها بسهولة، مما يمنح مرونة جغرافية أكبر ويقلل من التأثر بتقلبات الطقس أو مشكلات سلاسل الإمداد أو الأوبئة التي تؤثر على الزراعة التقليدية. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج التخمير إلى مساحات أقل مقارنة بالزراعة التقليدية، مما يجعله خيارًا فعالًا لتعزيز الأمن الغذائي.
العوامل المؤثرة التي ترسم ملامح مستقبل قطاع الأغذية على مستوى التوسع والانتشار
لكي تسهم صناعة المكونات المبتكرة في جعل أنظمة الغذاء أكثر استدامة ومرونة، لا بد من توسيع نطاقها بشكل كبير. ومع ذلك، فإن القدرة الحالية على تحقيق هذا التوسع لا تزال محدودة، حيث تواجه الشركات المصنّعة بالتعاقد تحديات تتعلق بتوقعات هامش الربح، والتي غالبًا ما لا تتماشى مع معايير صناعة تصنيع الأغذية، مما يجعل الاعتماد عليها غير مجدٍ للشركات التي تسعى إلى زيادة الإنتاج. ورغم الإعلان عن مشاريع جديدة لزيادة القدرة الإنتاجية، إلا أن بعضها تعثر نتيجة لعوامل اقتصادية واسعة النطاق.
لا يقتصر التحدي على توسيع القدرة الإنتاجية فحسب، بل يشمل أيضًا تطوير وتحسين التكنولوجيا والعمليات المستخدمة. لا تزال الفرص والمخاطر المرتبطة بالمكونات الجديدة قيد البحث، مما يجعل الشركات الكُبرى والناشئة والمستثمرين في سباق لتخصيص الاستثمارات، ومتابعة التطورات المستمرة، وفهم احتياجات العملاء لضمان نجاح هذه الصناعة الناشئة.
ولتوضيح المسار المستقبلي لهذا القطاع المتنامي، حددنا ثلاث مجالات رئيسية لبناء وتوسيع منظومة غذائية جديدة:
- تحسين عمليات الإنتاج وإعادة تصميم الأوعية الحيوية يمكن أن يساعدا في زيادة الإنتاجية، وخفض تكاليف هذه الأوعية، وتقليل تكاليف التصنيع بحوالي 50%. كما أن تطوير تقنيات جديدة لهذه الأوعية قد يفتح فرصًا أوسع في السوق العالمية لمصنّعي المعدات.
- تطوير تركيبات الأغذية وتصميم المنتجات: تحسين المذاق والملمس سيساعد الشركات على تقديم مجموعة أوسع من المنتجات عالية الجودة، مما يعزز تقبل المستهلكين لهذه البدائل المبتكرة.
- نماذج أعمال جديدة: يمكن أن تساعد استراتيجيات التمويل المبتكرة على تقليل المخاطر، وتأمين استثمارات تزيد عن 250 مليار دولار، لدعم البنية التحتية اللازمة لهذا التوسع الهائل.
التحسينات في الإنتاج قد تُساهم في خفض تكلفة الوحدة بنسبة تصل إلى 50%
يعد تخفيض تكلفة إنتاج المكونات المبتكرة العامل الأكثر أهمية في تمكين سوق الأغذية الجديدة من الانطلاق بقوة. ومن خلال الابتكارات التكنولوجية في عمليات التصنيع الحيوي والمعالجة اللاحقة، يمكن لشركات المكونات الجديدة تحقيق رؤية واضحة لخفض التكاليف بحوالي 50% في الوقت الحالي، وذلك من خلال تبني نهج شامل لتقليل إجمالي تكلفة البضائع المباعة (اطلع على الشكل 2).
من المتوقع أن تأتي أغلب الوفورات من العوامل الأساسية التي تؤثر على تكلفة الإنتاج، بما في ذلك عملية رفع تركيز المنتج (titer)، أي قياس تركيز المنتج المطلوب في سائل التخمير بعد انتهاء العملية، وكذلك من خلال تحسين عمليات المعالجة اللاحقة التي تحول الوسط الحيوي بعد التخمير إلى منتج مستقر، بالإضافة إلى تقليل الزمن الدوري لإنتاج الدفعات.
وقد شهدت هذه العوامل تحسنًا تدريجيًا على مدار السنوات الماضية، حيث يواصل مالكو الملكية الفكرية الرئيسيون تحقيق تقدم مستمر في رفع معدلات "تركيز المنتج"، بينما تعتمد شركات الصناعات الكيميائية والصيدلانية منذ عقود على التحليلات الرقمية والذكاء الاصطناعي لتعزيز كفاءة الإنتاج، وهو ما يمكن تطبيقه أيضًا في صناعة الأغذية المبتكرة لتحقيق نتائج مشابهة.
لكن ما يمكن أن يدفع الصناعة إلى الأمام حقًا هو إدخال تحسينات جوهرية على العمليات بدلاً من الاكتفاء بالتعديلات التدريجية. فهناك شركات ناشئة تعمل حاليًا على تحويل عمليات التخمير من نمط الدفعات المتقطعة إلى عمليات مستمرة، مما يعزز من كفاءة الإنتاج، بينما تتجه شركات أخرى نحو استبدال عمليات التخمير الهوائية باللاهوائية لتحسين الاستفادة من الموارد وتقليل التكاليف (اطلع على العمود الجانبي بعنوان "دراسة حالة: شركة كالدرون الأسترالية الناشئة في مجال المعالجة الحيوية"). مع هذه التحولات، يصبح خفض تكاليف الإنتاج بنسبة كبيرة أمرًا ممكنًا، مما يفتح آفاقًا جديدة أمام صناعة المكونات الغذائية المبتكرة، ويمهد الطريق لتوسيع نطاق استخدامها بأسعار أكثر تنافسية في الأسواق العالمية.
إلى جانب التحسينات الكبيرة في عمليات الإنتاج، سيكون من الضروري تطوير تقنيات الأوعية الحيوية. فقد صممت صناعات مثل الأدوية والكيماويات أنظمة تخمير تناسب احتياجاتها، لكن الأوعية الحيوية لم تُعاد تصميمها بعد لتلائم متطلبات صناعة الأغذية. لذلك، يجب تطوير معدات جديدة تتوافق مع معايير سلامة الأغذية وتقترب من هامش الربحية المتوقع في هذا القطاع.
ولتحقيق هذا التطور، لا بد من إعادة تصميم الأوعية الحيوية والمعدات المرتبطة بها من الصفر، بحيث تكون مصممة خصيصًا لتلبية احتياجات صناعة الأغذية. ورغم الفرصة الكبيرة التي تتيحها هذه الخطوة، لم تتحرك الشركات العالمية المصنعة للأجهزة حتى الآن للاستفادة منها. وفي ظل هذه الفجوة، برزت بعض الشركات الناشئة، مثل "ستيرلينغ بيو ماشينز" و "آرك بيوتيك"، حيث اضطرت إلى تطوير نماذج مخصصة من الأوعية الحيوية لتلبية احتياجاتها الخاصة. في الوقت نفسه، تستكشف بعض الشركات إمكانيات استخدام خزانات تخمير أكثر مرونة، ما قد يساهم بشكل كبير في خفض التكاليف الرأسمالية وتعزيز منحنيات التعلم، مما يسهم في تسريع وتيرة تطوير هذه التقنية الواعدة.
إمكانات تطوير تركيبات الأغذية قد تحدث ثورة في سوق البروتين الذي تبلغ قيمته 3.5 تريليون دولار
مع استمرار انخفاض تكاليف إنتاج الأغذية المخمرة، ستتاح أمام شركات الأغذية والمشروبات فرصة فريدة لإدخال مكونات جديدة وابتكار منتجات غير مسبوقة. ورغم أن المكونات المنتجة عبر التخمير الدقيق تتماثل جينيًا مع نظيراتها الحيوانية، فإن البروتينات الناتجة عن التخمير الحيوي تفتح آفاقًا جديدة ومثيرة، حيث تمثل العديد منها تجربة غذائية غير مألوفة للبشر. ومن شأن هذه المكونات أن تؤدي إلى ظهور نكهات جديدة، وبدائل مبتكرة للحوم، ومشروبات فريدة، مما يمنح الشركات التي تتمتع بقدرات قوية في تطوير تركيبات الأغذية فرصة للتميز في السوق التنافسي.
مع تعمق العلماء في استكشاف الإمكانات الحقيقية لهذه البروتينات من حيث القوام، والمذاق، وتعزيز القيمة الغذائية، ستتمكن الشركات من تقديم منتجات حصرية بمزايا استثنائية. فعلى سبيل المثال، يمكن للمصنّعين اختبار استخدام دهون جديدة لتحسين ملمس الأطعمة وإضافة نكهات غنية ومشبعة، مع استبدال مكونات غير مرغوبة مثل زيت النخيل. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يفتح التخمير الدقيق الباب أمام استخدام بروتينات محددة من البيض أو الحليب أو مصادر أخرى، مما يمنح المنتجات صفات غذائية ومذاقًا وقوامًا أكثر تخصصًا وتنوعًا. علاوة على ذلك، قد تكون هذه المكونات المبتكرة بديلاً لكثير من المواد التقليدية المستخدمة في الأغذية، مثل الصمغ والميثيل سلولوز، التي تُستخدم لتحقيق فوائد وظيفية مهمة ولكنها قد لا تحظى بقبول واسع من المستهلكين. وبما أن نجاح هذه الابتكارات يعتمد بشكل كبير على مدى تقبل المستهلكين لها، فإن فهم توجهاتهم سيكون مفتاحًا رئيسيًا في تطوير المنتجات الجديدة.
ويُعَد فهم توجهات المستهلكين عنصرًا جوهريًا في تحفيز تطوير الأغذية الجديدة. وكما أوضح تقرير حديث صادر عن ماكنزي، لا تزال البيانات المتعلقة بتوجهات المستهلكين في هذه المرحلة محدودة، إلا أن المؤشرات الأولية تبدو واعدة فيما يخص المكونات الجديدة. 4 فقد أظهرت نتائج الاستطلاعات أن ما بين 49% إلى 67% من المستهلكين لديهم استعداد لتجربة الأطعمة والمشروبات التي تحتوي على هذه المكونات. كما أوضحت النتائج أن المستهلكين يميلون بشكل خاص إلى تجربة المكونات الجديدة في الوجبات الخفيفة ووجبات الغداء، وهو ما يوفر رؤى قيّمة يمكن أن تساعد مطوري المنتجات الغذائية في توجيه استراتيجياتهم. وانطلاقًا من هذه البيانات، يمكن لشركات تصنيع الأغذية الاستفادة من هذه التوجهات لتقديم منتجات تٌلبي رغبات المستهلكين بشكل أكثر دقة. كما أن تثقيف الجمهور بشأن فوائد هذه المكونات المبتكرة قد يسهم في تعزيز الإقبال عليها، مما يتيح فرصًا واسعة لاعتمادها على نطاق أوسع في الأسواق العالمية.
توسيع نطاق الصناعة: فرصة استثمارية بأكثر من 250 مليار دولار لإنشاء نماذج أعمال جديدة
وفقًا لتحليل ماكنزي، قد يتطلب تحقيق التوسع المتوقع في هذه الصناعة ضخ استثمارات تصل إلى 250 مليار دولار أو أكثر في أصول التخمير على مدى الثلاثين عامًا القادمة. ويعكس هذا التوسع تحولًا صناعيًا ضخمًا يشبه ما حدث سابقًا في صناعات مثل الألواح الشمسية والمركبات الكهربائية، حيث شهدت هذه القطاعات قفزات نوعية نتيجة الاستثمارات الضخمة والتطورات التكنولوجية.
ورغم حقيقة أن التمويل الاستثماري لعب دورًا محوريًا في دعم الشركات الناشئة، إلا أن حجم الاستثمارات المطلوبة في البنية التحتية يتجاوز قدرة رأس المال الاستثماري وحده. وحتى يتم تحقيق المعايير التكنولوجية والتجارية المطلوبة، لا تزال شركات تمويل المشاريع وأسواق الأسهم المتنامية تتردد في دخول هذا القطاع. ونتيجة لذلك، هناك فجوة تمويلية عالمية تتطلب استراتيجيات مبتكرة لملئها وضمان نمو القطاع (انظر الشكل 3).
لتسريع عملية الاستثمار وإقناع الجهات الممولة بضخ رؤوس الأموال في هذا المجال، هناك عنصران رئيسيان يجب التركيز عليهما:
- اتفاقيات الشراء التجاري: تعتبر هذه الاتفاقيات عنصرًا أساسيًا في تأمين التمويل للمشاريع الكُبرى، كما حدث في قطاعات مثل بطاريات المركبات الكهربائية، والوقود المستدام للطيران، وتقنيات الهيدروجين. ورغم أن هذه الاتفاقيات لم تكن شائعة في قطاع الأغذية الاستهلاكية، إلا أن بعض الشركات الناشئة بدأت في إبرام اتفاقيات تطوير مشترك مع كُبرى شركات الأغذية، مما قد يسهم في تعزيز الاستثمارات طويلة الأجل.
- تقليل المخاطر التكنولوجية: يمكن أن تشكل المخاطر التكنولوجية عائقًا أمام المستثمرين، خاصة في ظل اختبار ابتكارات العمليات وإعادة تصميم الأوعية الحيوية وتطوير أطعمة جديدة. ومع ذلك، من المتوقع أن تسهم التطورات التكنولوجية في العمليات والمعدات وتوسيع نطاق الإنتاج في خفض التكاليف بشكل ملموس خلال السنوات الخمس المقبلة، مما يجعل الاستثمار في هذا المجال خيارًا أكثر جاذبية.
تُعد نماذج الأعمال الجديدة العامل الأساسي الذي سيمكن صناعة الأطعمة المبتكرة من معالجة هذه التحديات. فإذا تمكنت الشركات الناشئة والجهات الفاعلة الأخرى في هذا المجال من إنشاء منظومة تعتمد على اتفاقيات الشراء المسبق وتوزيع المخاطر، فقد تتمكن من جذب المستثمرين وسد فجوة التمويل. كما أن هذه الروابط ستسهم في تسهيل تطوير تقنيات العمليات، وبناء أوعية حيوية أكثر كفاءة، وتسريع عملية طرح الأطعمة المبتكرة في الأسواق.
هناك بالفعل بعض نماذج التمويل والشراكات التي أثبتت فعاليتها في هذا القطاع، ومن أبرزها:
تُعد المشاريع المشتركة وسيلة فعالة لتقاسم المخاطر والعوائد بين العديد من الأطراف، على عكس نماذج التصنيع التعاقدي، التي تؤثر على هيكل التكلفة لكل وحدة منتَج. ورغم تعقيدها، فإن العديد من الشركات الناشئة تستكشف هذه الترتيبات، حيث تسعى إلى تجميع مصادر التمويل وتقليل المخاطر من خلال المساهمة المشتركة في الملكية الفكرية والأصول. أحد الأمثلة على نجاح هذا النهج هو الشراكة بين "جهاز الاستثمار العُماني" و "شركة مايكو تكنولوجي"، حيث يعملان على إنشاء منشأة لإعادة تدوير التمور المهملة إلى بروتينات الميسيليوم، مما يعكس إمكانيات المشاريع المشتركة في دعم التقنيات الغذائية المبتكرة. 5
الاستثمار السيادي: رغم التراجع الذي شهده رأس المال الاستثماري المؤسسي خلال السنوات الأخيرة، فإنه من المتوقع أن يستعيد زخمه على المدى الطويل، نظرًا لسجله القوي في قطاع الأغذية. وفي الوقت الحالي، لا يزال الاهتمام بالاستثمارات السيادية والاستراتيجية مرتفعًا. فعلى سبيل المثال، خصص الصندوق الوطني للنمو في هولندا 60 مليون يورو لدعم تقنيات التخمير الدقيق وتطوير المكونات الغذائية المزروعة، مما يعكس التوجه المتزايد نحو تمويل الابتكارات في مجال الأغذية المستدامة. 6
البرامج الحكومية: العديد من الدول تعمل على إطلاق برامج حكومية تهدف إلى دعم صناعة التخمير الناشئة، وذلك من خلال تقديم تمويل غير مُخفف وتسهيل إنشاء قدرات إنتاجية جديدة. على سبيل المثال، في إحدى جولات جمع التمويل الأخيرة، منحت منظمة "بيزنس فنلندا"، وهي منظمة تديرها الحكومة الفنلندية، دعمًا بقيمة 10 ملايين دولار لشركة "أونيجو بيو"، مما ساعدها على تعزيز عملياتها.7 وبالمثل، دخلت "تشينج فودز" في اتفاقية لتركيز إنتاجها من منتجات الألبان الخالية من المصادر الحيوانية داخل الإمارات العربية المتحدة، مستفيدةً من دعم مبادرة الإمارات العربية المتحدة للجيل القادم من الاستثمار الأجنبي المباشر، التي تهدف إلى جذب الاستثمارات وتمكين الشركات المبتكرة من التوسع في السوق. 8
اعتبارات أساسية لمُصنّعي المكونات الغذائية المبتكرة ودورهم في تشكيل صناعة الغذاء المستقبلية
سيكون للمستثمرين والشركاء الاستراتيجيين والتجاريين دور محوري في تشكيل سوق الأغذية الجديدة، حيث إن تعاونهم مع المبتكرين سيساهم في تعزيز النمو العالمي للتكنولوجيا الحيوية. ولكل فئة من هؤلاء الفاعلين، هناك عوامل أساسية يجب أخذها في الاعتبار:
الشركات الراسخة في صناعة المكونات الغذائية: توفر الأطعمة المنتَجة باستخدام التكنولوجيا الحيوية فرصة أمام مصنّعي المكونات الغذائية لتوسيع نطاق أعمالهم وتعزيز مكانتهم في السوق من خلال تطوير تركيبات فريدة واكتساب معرفة متخصصة. ونظرًا لإمكانية إنتاج البروتينات المبتكرة في أي مكان، فإنها تمثل فرصة غير مسبوقة لهذه الشركات لدخول أسواق البروتين الحيواني لأول مرة، وهو ما قد يؤدي إلى تغيير جذري في ديناميكيات المنافسة، خاصة فيما يتعلق بمنتجات مثل الألبان والكولاجين والبيض، بالإضافة إلى بعض المكونات غير البروتينية مثل الكاكاو.
مصنّعو المعدات الأصلية: مع استمرار بناء البنية التحتية اللازمة لإنتاج المكونات المدعومة بالتقنيات الحيوية، تبرز فرصة سوقية كبيرة لمصنّعي المعدات الأصلية في مجال الأوعية الحيوية ومعالجة المنتجات النهائية. حاليًا، تعتمد صناعة المكونات المبتكرة بشكل كبير على أصول مستعارة من صناعات أخرى، ولم يتم بعد تعديلها لتناسب احتياجات إنتاج الغذاء. لكن الشركات التي تختار الاستثمار في تصميم وتطوير تقنيات مخصصة لهذا الغرض خلال السنوات القادمة قد تصبح من الجهات الأساسية في السوق، خاصة مع توسع الاستثمارات العالمية في هذا المجال.
المبتكرون: تسعى الشركات الناشئة جاهدة لتلبية احتياجات السوق من خلال قدرات إنتاج مرنة عند الطلب، مما يجعل الشراكات مع الشركات الكُبرى والمستثمرين خطوة استراتيجية مهمة. ومع ذلك، في ظل البيئة التمويلية الحالية، قد لا تتمكن بعض الشركات من تحقيق تقدم سريع بما يكفي لضمان استمرار تدفق الاستثمارات، مما يؤدي إلى تقليص عدد الشركات القادرة على المنافسة في هذا المجال. في المستقبل، ستحتاج كل شركة ناشئة إلى تحديد المجالات التي تستثمر فيها، سواء كان ذلك تحسين معدلات الإنتاج، أو تطوير الملكية الفكرية، أو تحسين طرق صياغة المنتجات الغذائية. كما أن فهم كيفية التعامل مع المكونات الجديدة يمكن أن يمنح الشركات ميزة تنافسية، خاصة مع توسع سوق البروتينات البديلة ودخولها مرحلة التصنيع التجاري.
المستثمرون: مع تطور هذا القطاع، بدأ المستثمرون التقليديون في استكشاف فرصه الواعدة، بحثًا عن نماذج أعمال تتيح استثمارات أوسع وأكثر استدامة. ومن المتوقع أن يكون التمويل القائم على الأصول المضمونة بعقود شراء مسبقة عند أسعار تنافسية عاملاً حاسمًا في تسريع وتيرة التوسع الصناعي، تمامًا كما حدث في القطاعات الأخرى التي شهدت نموًا كبيرًا، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
وفي السنوات الخمس المقبلة، من المرجح أن تسهم عوامل مثل تحقيق التكافؤ في التكلفة وزيادة إقبال المستهلكين على هذه المنتجات في تقليل المخاطر المرتبطة بصناعة المكونات المبتكرة، مما سيمهد الطريق لتوسّع عالمي في البنية التحتية لهذا المجال. وحتى يتحقق ذلك، يمكن للقادة في القطاع الاستمرار في تطوير استراتيجيات استثمارية مرنة توازن بين رأس المال والمخاطر والعوائد. أما بالنسبة للمستثمرين، فإن دخول هذا المجال في الوقت الحالي يشكل فرصة استثنائية لبناء سلسلة إمداد غذائية مستدامة تواكب متطلبات المستقبل.