إن ما يحدث اليوم لا يعني اندثار العولمة إنما هي تغيرات تطرأ عليها، وفقًا لبحث صادر مؤخرًا عن مركز ماكنزي العالمي للأبحاث. وفي هذه الحلقة من البث الصوتي من ماكنزي، تتحدث "أوليفيا وايت"، المديرة في مركز ماكنزي العالمي للأبحاث، مع "لوسيا راهيلي"، مديرة التحرير، حول تدفقات السلع والمعارف والقوى العاملة التي تعزز التكامل العالمي، إلى جانب تأثير إعادة رسم ملامح هذه التدفقات على مستقبل البشرية المترابط.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
ونجحت شركة "إيه بي إنبيف" في تحقيق الازدهار بعد فترة من التدهور والتحديات، والتي وصفها "فرناندو تينينباوم"، الرئيس التنفيذي للشؤون المالية في الشركة، بأنها فترة "التقلبات والمنعطفات" الأخيرة. ويمكن الاطلاع على التفاصيل من هذا الملخص بعنوان "الازدهار خلال الاضطرابات: تجربة رئيس تنفيذي للشؤون المالية"، والمسجل في شهر ديسمبر 2022 في إطار سلسلة ماكنزي لايف.1
يستضيف حلقة البث الصوتي كل من "روبيرتا فوسارو" و"لوسيا راهيلي".
تم تعديل هذه النسخة الكتابية لغرض التوضيح.
العولمة توجه مستمر
"لوسيا راهيلي": أخطأ الخبراء والشخصيات العامة عندما ظنوا أن العولمة في طريقها نحو الاندثار على مدار الأعوام الماضية. ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا وغيرها من الاضطرابات العالمية، عاودت تلك المجموعة من الأشخاص دق ناقوس الخطر حول اندثار العولمة، فماذا يخبرنا البحث الجديد من مركز ماكنزي العالمي للأبحاث حول مصير العولمة؟ وهل هي بالفعل في طريقها نحو الزوال؟
"أوليفيا وايت": توقف مستوى تدفق السلع عن الارتفاع بعد حوالي أكثر من 20 عامًا من النمو بواقع ضعف معدل الناتج المحلي الإجمالي. ومع ذلك، وبشكل مفاجئ، كان هذا التدفق مساويًا للناتج المحلي الإجمالي أو تجاوزه بصورة طفيفة في الأعوام القليلة الماضية. ويعكس نمو الناتج المحلي الإجمالي تزايد قوة الروابط الحقيقية.
ولعل إحدى أبرز نتائج هذا البحث هي تسارع تدفق المعارف والخبرات، مثل حقوق الملكية والبيانات والخدمات والطلاب الدوليين، لتتفوق في نموها على معدل نمو السلع. وسجل تدفق البيانات نموًا بنسبة تتجاوز 40% سنويًا على مدار السنوات العشر الماضية.
"لوسيا راهيلي": تستحوذ السلع على نسبة أصغر من إجمالي التدفقات والناتج الاقتصادي مقارنةً بالسنوات الماضية، ولكن هذه الحقيقة لا تجسد جانبًا سلبيًا بالضرورة، فهل هي إحدى علامات التقدم؟
"أوليفيا وايت": يعكس التباين في نمو السلع مقارنةً بالتدفقات الأخرى حالة التغير الذي يشهده الاقتصاد، ويوضح الجوانب الأكثر أهمية لسير الاقتصاد. ويأتي ذلك على خلفية سجل طويل من العوامل المختلفة التي تؤثر على النمو، إلى جانب التغيرات التي تطرأ على عمل أنماط النمو. إن ما يحدث حاليًا هو توجه مجموعة من الدول نحو الإنتاج المحلي، وعلى رأسها الصين، ما أدى إلى تراجع نسبة كبيرة من التدفقات، بالمقارنة بين العقد الماضي وما قبله.
العالم يحافظ على ترابطه
"لوسيا راهيلي": ما مدى ترابط عالمنا في هذه المرحلة؟ هلّا زودتنا ببعض الأمثلة حول هذا الارتباط؟
"أوليفيا وايت": تعتمد كل منطقة في العالم على منطقة مهمة أخرى لاستيراد ما لا يقل عن 25% من المواد الأكثر أهمية بالنسبة لها.
وبالنظر إلى المناطق الصناعية والاقتصادية الكبرى، مثل أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ والصين، نرى أنها تعتمد بشكلٍ كبير على بقية دول العالم للحصول على الموارد، بما يشمل الغذاء إلى حدٍ ما والطاقة والمعادن من مختلف الأنواع.
"تعتمد المناطق الصناعية بشكلٍ كبير على بقية دول العالم للحصول على الموارد، بما يشمل الغذاء إلى حدٍ ما والطاقة والمعادن من مختلف الأنواع.
وعلى سبيل المثال، تستورد الصين أكثر من 25% من المعادن من الدول البعيدة مثل البرازيل وتشيلي وجنوب أفريقيا؛ كما تستورد الطاقة على هيئة نفط تحديدًا من الشرق الأوسط وروسيا. وتُعد أوروبا نموذجًا للدول المعتمدة على الطاقة، حيث اعتمدت سابقًا على روسيا لاستيراد أكثر من 50% من الطاقة، ولكن هذا الوضع تغير بشكل جذري حاليًا.
وتعتمد المناطق الأخرى الغنية بالموارد، مثل الشرق الأوسط وجنوب الصحراء الأفريقية الكبرى وأمريكا اللاتينية، بصورة كبيرة على بقية دول العالم لاستيراد السلع المصنّعة، لا سيما أن أكثر من نصف سكان العالم يتواجدون في هذه المناطق، حيث تستورد ما يتجاوز 50% من الأجهزة الإلكترونية والأدوية. كما تعتمد هذه المناطق على الأجزاء الأخرى من العالم لاستيراد المواد الضرورية لمواكبة التطور والحياة العصرية.
يختلف واقع الاستيراد في أمريكا الشمالية، حيث لا يوجد مثل هذا الاعتماد الكبير على الاستيراد بشكل عام. وتستورد المنطقة قرابة 25% من المواد التي تستخدمها من حيث صافي القيمة، بما يشمل الموارد والسلع المصنّعة على حد سواء.
ولا تشمل هذه النسب تدفقات البيانات والملكية الفكرية، حيث تمثّل الولايات المتحدة وأوروبا أكبر المنتجين والمصدرين لها، بينما تُعتبر الصين من أكبر الدول المستهلكة للملكية الفكرية.
"لوسيا راهيلي": ما مدى ترابط العالم من حيث القوى العاملة؟
"أوليفيا وايت": إن الجواب صادم بلا شك. فقد سألنا عن عدد العمال المتواجدين في المناطق خارج أمريكا الشمالية ممن يعملون على تلبية طلب القارة ذاتها، كما طرحنا السؤال نفسه حول أوروبا. ووجدنا أن 60 مليون عامل متواجد خارج أمريكا الشمالية يعملون على تلبية الطلب في القارة ذاتها، بينما كان الرقم 50 مليون شخص في أوروبا.
وتمثل هذه الأرقام نسبًا كبيرة بالمقارنة مع عدد الأفراد العاملين في تلك الدول. وإذا نظرنا إلى حجم استهلاك سكان أمريكا الشمالية وأوروبا من المنتجات المصنعة محليًا عبر القوى العاملة المحلية، فإن الفارق سيكون كبيرًا للغاية، لا سيما في ضوء وسائل الإنتاج وطرق تقديم الخدمات اليوم ودور الأفراد فيها.
"لوسيا راهيلي": لننتقل الآن إلى بعض فئات التدفق التي ارتفعت في السنوات الأخيرة. ما سبب نمو التدفقات العالمية الذي تزامن مع استقرار تجارة السلع؟
"أوليفيا وايت": إن أبرز الأمثلة على هذا هي التدفقات المرتبطة بالمعارف والمهارات. فقد سجلت خدمات المعرفة نموًا أبطأ تاريخيًا مقارنة بالسلع المصنعة والموارد، إلا أن هذا التوجه انعكس خلال السنوات العشر الماضية مع تزايد الارتباط العالمي.
وتندرج الخدمات المهنية، مثل الخدمات الهندسية، في فئة التدفقات التجارية الأسرع نموًا بحوالي 6% سنويًا، بالمقارنة مع الموارد التي سجلت تباطؤًا إلى نحو 2%. كما تضم هذه الفئة المهارات الفعلية مثل الهندسة، إلى جانب خدمات مراكز دعم العملاء على سبيل المثال.
وتشهد تدفقات حقوق الملكية نموًا أسرع، ولكن تفسير هذه الفئة يتسم بنوع من الصعوبة كونها تشمل الخدمات الترفيهية. ونتناول في التقرير "لعبة الحبار" إلى جانب الأفلام ومنصات البث والموسيقى وأي نوع من العناصر الثقافية التي نستهلكها.
من الضروري أيضًا الوقوف على تدفق براءات الاختراع والأفكار، والطرق التي ستعتمدها الدول والشركات لاستخدام الأفكار أو الخبرات التي تم تطويرها في دولة معينة لدعم عملياتها في مختلف أنحاء العالم. وتشهد هذه التدفقات نموًا بنسبة 6% سنويًا.
ويوجد نوع آخر من التدفقات المتعلقة بالبيانات، وهو تدفقات حزم البيانات. وعلى سبيل المثال، في حال كنا في دولتين مختلفتين أثناء إجراء هذه المقابلة فسيجري بيننا تدفقات معينة. يُضاف إلى ذلك التدفقات المتعلقة بالاستخدام المتزايد للسحابة وتوطين البيانات، لا سيما وأن نقل البيانات أصبح أكثر سرعة اليوم.
كما سجلت تدفقات الطلاب الدوليين ارتفاعًا، إلا أنها تراجعت بسبب جائحة كوفيد-19 ولأسباب أخرى لا أودّ تكرارها، ولكن يبدو أن هذه التدفقات تتجه نحو التعافي. ومن الضروري أيضًا دراسة إلى أي درجة ستعود هذه التدفقات إلى مسار نموها المتسارع.
تأثير جائحة كوفيد-19 على التدفقات العالمية
"لوسيا راهيلي": لقد تحدثتِ حول انخفاض تدفقات الطلاب الدوليين خلال جائحة كوفيد-19 لأسباب معروفة للجميع، فهل تراجعت التدفقات الأخرى بشكلٍ عام خلال تلك الفترة؟ وهل توجد أمثلة للتدفقات التي حافظت على مرونتها في فترة الجائحة؟
"أوليفيا وايت": يختلف واقع التدفقات بين كل نوع وآخر، ولكن العديد منها حافظت على مرونتها خلال الجائحة.
وارتفعت تدفقات الموارد والسلع المصنعة بشكلٍ كبير في عامي 2020 و2021، ووصلت إلى حوالي 6% سنويًا. كما حلت التدفقات العابرة للحدود محل الإنتاج المحلي المضطرب، مثل التدفقات الواردة من آسيا إلى الولايات المتحدة وأوروبا. وشهدنا بعض التدفقات العكسية أيضًا نظرًا لتعطل الإنتاج المحلي المفاجئ.
كما سجلت تدفقات رأس المال ارتفاعًا مماثلًا بالتزامن مع حاجة المجتمعات لتغيير أنماط كسب المال. وينطبق ذلك أيضًا على الشركات متعددة الجنسيات، التي توجه بعضها نحو نقل سيولتها إلى أجزاء مختلفة من العالم خلال الاضطرابات المالية. ولكن تلك الشركات حققت نموًا هائلًا مقارنةً بالنمو العكسي الذي شهدته العقد الماضي. وارتفعت تدفقات الملكية الفكرية بصورة طفيفة، بينما حافظت تدفقات البيانات على مستواها المرتفع أصلًا، وبالتالي يمكن القول إن هذه التدفقات اتسمت بالمرونة خلال فترة الجائحة.
الجوانب الإيجابية والسلبية حول تركيز الموارد
"لوسيا راهيلي": تحدثتِ حول موضوع التركيز عندما ذكرتِ اعتماد أوروبا على روسيا لاستيراد 50% من الطاقة. فهلّا أخبرتنا أكثر حول معنى التركيز في هذا السياق، وتأثيره على متغيرات واقع الترابط العالمي؟
"أوليفيا وايت": يوجد بعض المنتجات التي يتم توريدها من دول محددة في العالم، وجميعنا نعتمد على تلك الدول لاستيرادها. ويُعد خام الحديد من أكثر المنتجات تركيزًا، بينما يتركز إنتاج الكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
أما النوع الثاني من التركيز فيُنظر إليه حسب كل دولة على حدة، مثل أوروبا واعتمادها على الغاز.
وعلى سبيل المثال، كانت ألمانيا تستورد الغاز من مصادر محدودة للغاية. وبالتالي نلاحظ التركيز في دول تعتمد على عدد قليل من الدول الأخرى لتأمين احتياجاتها، ويعود هذا الواقع لأسباب مختلفة عادة.
وعند البحث عن سبب هذا الاعتماد، تمثّل التكاليف أحد الأسباب الرئيسية، لأن الدول والشركات تتخذ قراراتها بناءً على العوامل الاقتصادية. ومن الأسباب الأخرى أيضًا تفضيل الشركاء الإقليميين، فليست كل السلع سواسية من حيث الإنتاج حتى وإن كانت تندرج في الفئة ذاتها.
بينما يتمحور السبب الثالث حول الاتفاقيات التجارية الميسرة بين الدول، أو غير ذلك من أشكال التعريفات أو الضرائب التي ترسم ملامح سير التدفقات. ونحن نعيش في عالم يدرك فيه الأفراد فجأةً ضرورة الوقوف على الآثار السلبية المرتبطة بالتركيز التجاري، وهنا نتحدث عن دولة المنشأ التي نستورد منها وليس الموردين.
"لوسيا راهيلي": يبدو أن التركيز يساهم في تعزيز الكفاءة في بعض الحالات التي تخلو من الاضطرابات. فهل دومًا ما يكون التركيز سلبيًا؟ وإذا ما أعدنا النظر في مسألة التركيز، هل نتوقع حدوث نوع من تراجع الكفاءة بصورة مؤقتة؟
"أوليفيا وايت": لا، لا يمكن اعتبار التركيز سلبيًا بالمطلق. ولكن توجد العديد من الاعتبارات الأخرى، بما فيها التكاليف والعلاقات الجيوسياسية ودور الدول الأخرى وخططها حول التنمية والتطوير والقوى العاملة. ويجب أن نأخذ جميع هذه العوامل بعين الاعتبار.
فلنتصور أن ثلاث أو أربع دول تحظى كل منها بثلاثة شركاء تجاريين مختلفين بالكامل، عندها سيؤدي استبدال الجهات الموردة والمستوردة إلى مشكلة كبيرة في التنسيق.
تطور السلاسل العالمية
"لوسيا راهيلي": سلطت المخاطر الجيوسياسية الضوء على ضرورة إعادة النظر بسلاسل القيمة العالمية لأسباب أمنية أو لتعزيز المرونة بشكلٍ عام. وبما أننا أجمعنا على استمرار الترابط العالمي، كيف ستواصل التدفقات التجارية تطورها خلال السنوات القادمة؟
"أوليفيا وايت": نحن أمام أربع فئات للتطور المحتمل، أبرزها أشباه الموصلات، تليها الأجهزة الإلكترونية التي تُعد من أسرع سلاسل القيمة تطورًا منذ عام 1995، مع تحقيقها لنمو بنسبة 21 نقطة مئوية كل 10 سنوات. كما تمثل الأدوية وتعدين المواد المعدنية الأساسية أمثلة أخرى في هذا السياق، حيث سيكونان جزءًا من التغيرات التي ستطال أساليب سير التدفقات على مستوى العالم.
وتُعد المنسوجات والملابس من الفئة الثانية، ولكنها لا تتسم بدرجة الحساسية ذاتها الملموسة في الفئات التي ذكرتها سابقًا. كما تشهد هذه الفئة إنشاء مراكز جديدة مختصة بها في الوقت الراهن. يندرج في هذه الفئة أيضًا الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، وهي المعدات الإلكترونية غير الحساسة.
أما الفئة الثالثة فهي خدمات تكنولوجيا المعلومات وخدمات الوساطة المالية أو الخدمات المهنية، والتي ستساهم في إعادة رسم ملامح تدفق الخدمات في المستقبل.
وتشمل الفئة الرابعة كلًا من الأغذية والمشروبات والورق وأدوات الطباعة، وهي من المنتجات التي ستحافظ على استقرارها. لا يوجد سبب واضح يدفعنا لتوقّع نشوء ظروف قاهرة ستغير مجرى تدفق هذه المواد على مستوى العالم في الوقت الراهن، فقد حافظت هذه المواد على استقرارها على مدار العقد الماضي أو ربما أكثر.
التدفقات العالمية ضرورية لتحقيق الحياد المناخي
"لوسيا راهيلي": هل يسهم تنامي التدفقات العالمية في دعم أم إعاقة تحقيق الحياد المناخي؟
"أوليفيا وايت": يصعب تسريع وتيرة الحياد المناخي دون الاعتماد على التدفقات العالمية. وتبرز بلا شك بعض العوامل المرتبطة بالتدفقات العالمية التي تعيق تحقيق الحياد الكربوني، حيث ينتج عن عمليات النقل والشحن إطلاق انبعاثات كربونية. ويتطلب تحقيق الحياد المناخي التأكد من إمكانية نشر التقنيات وأنواع الوقود اللازمة لتوليد الطاقة في جميع أنحاء العالم.
وتشمل تقنيات توليد الطاقة المعادن المستخدمة في تصنيع هذه التقنيات وعمليات الإنتاج الفعلية. بالتالي لدينا المعادن مثل النيكل والليثيوم في البداية، يليها عمليات التصنيع الفعلية للألواح الطاقة الشمسية. ويتم معالجة المعادن نفسها في عدد قليل من الدول على مستوى العالم، الأمر الذي يفرض نقل هذه المعادن من منطقة لأخرى. ويمكن تنويع هذه الأنشطة على مستوى العالم، ولكن متوسط الفترة الزمنية اللازمة لاكتشاف وجود المعدن وصولًا إلى القدرة على إنتاجه على نطاق واسع تتخطى 16 عامًا. وإذا أردنا التحرك سريعًا، يمكننا الاستفادة من قدرتنا على نقل المستلزمات إلى جميع أنحاء العالم. وهنا من الضروري مواكبة منحنيات التكلفة لعمليات التصنيع واسعة النطاق، وضمان دعمها بالحضور اللازم في المناطق المختلفة.
ويتمثل العامل الرئيسي الأخير في تحقيق الحياد المناخي في تدفقات رأس المال بين الدول. ويجب أن تكون الدول النامية قادرة على تمويل عمليات التحول في توليد الطاقة واستهلاكها، ما يفرض على هذه الدول زيادة إنفاقها، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي على أقل تقدير، مع القدرة على ضبط الإنفاق في ضوء باقي ضرورات التنمية الأخرى.
الشركات متعددة الجنسيات والمرونة العالمية
"لوسيا راهيلي": ما هو دور الشركات متعددة الجنسيات في سياق مساعينا لرسم ملامح مستقبل الترابط العالمي؟
"أوليفيا وايت": يجب بدايةً الإشارة إلى الدور المحوري الذي تلعبه الشركات متعددة الجنسيات الكبرى في التدفقات العالمية اليوم. إذ تستحوذ هذه الشركات على نسبة تتخطى 30% من الأنشطة التجارية، ونسبة 60% من أنشطة التصدير و82% من صادرات السلع كثيفة المعرفة. وتمنح هذه المزايا الشركات القدرة على تحفيز التدفقات بشكل غير متناسب، ولا سيما التدفقات المرتبطة بالمعرفة. وبالتالي تلعب الشركات متعددة الجنسيات دورًا محوريًا في إدارة مرونتها، فضلًا عن إدارة مرونة العالم أجمع.
مستقبل التدفقات العالمية
"لوسيا راهيلي": تركز وسائل الإعلام على ما يعتبره البعض الزوال الوشيك للعولمة. ومع قبول استمرار الروابط العالمية في تحقيق الاتصال بين مختلف دول العالم، من البديهي أن نشهد ردود أفعال قوية تجاه هذه الاضطرابات العالمية القوية والمتواصلة في السنوات الأخيرة. كيف يمكن تلخيص الأهمية البالغة التي نوليها لمستقبل العولمة؟
"أوليفيا وايت": يعتمد عالمنا اليوم على التدفقات بشكل كبير، ومن المؤكد أن هذه التدفقات ستكون عرضة للتحول والتغير. وهو ما شهدناه في الماضي ونترقبه في المستقبل.
"لوسيا راهيلي": هل يشير البحث إلى أن العالم يتوجه إلى التفكك، وفق ما تتحدث عنه وسائل الإعلام؟
"أوليفيا وايت": يصعب على المناطق العالمية أن تكون مستقلة عن بعضها، نظرًا لأن عمليات الانفصال المحتملة هذه تفرض تحديات كبيرة تجعل منها أمرًا غير ممكن.
غير أنه يمكننا تحديد مجموعات من الدول القادرة على الارتباط بقوة مع بعضها وبشكل أقل مع باقي الدول. وهو سيناريو قوي الاحتمال. ويبقى السؤال حول إمكانية تحقيق فصل فعلي، أم مجرد تغيير في درجة الارتباط. وعلى غرار معظم الأمور في العالم؛ يمكننا ترجيح التغير في درجة الارتباط على التغير أو الفصل الكامل.
"لوسيا راهيلي": هل يساهم تزايد التركيز الإقليمي في تعزيز المرونة؟
"أوليفيا وايت": يمكننا اعتبار الاكتفاء الذاتي عاملًا مساهمًا في تعزيز المرونة. ومن ناحية أخرى، نجد أنه يمثل نقطة ضعف، للسبب ذاته الذي يجعل الاعتماد على جهة واحدة في كل شيء أمرًا سلبيًا.
وهنالك أسباب عديدة تجعل درجة محددة من الانعزال الإقليمي أمرًا مفيدًا، كونها توفر جميع احتياجات الدول في مناطق قريبة منها. ولكن الاعتماد على مجموعة محددة من الجهات، سواء في المنطقة نفسها أم لا، يعرّض الدول لنقاط ضعف محتملة، مقارنة بالاعتماد على شبكة عالمية واسعة تتسم عمومًا بهيكلية أكثر مرونة وقوة.
"لوسيا راهيلي": شكرًا جزيلًا أوليفيا على هذه الإجابات القيمة.
"روبيرتا فوسارو": تشكل شركة "إيه بي إنبيف" خير مثال على بالمرونة. نستضيف اليوم "فرناندو تينينباوم"، الرئيس التنفيذي للشؤون المالية في "إيه بي إنبيف"، للحديث حول كيفية ازدهارها وسط الاضطرابات العالمية. تم تسجيل هذا الملخص في إطار سلسلة ماكنزي لايف في ديسمبر 2022 بعنوان "الازدهار خلال الاضطرابات: تجربة رئيس تنفيذي للشؤون المالية" .
"لوسيا راهيلي": نواجه مجموعة من الاضطرابات الاستثنائية، تشمل التضخم وارتفاع أسعار الفائدة التي ترفع بدورها تكلفة رأس المال، إلى جانب الاضطرابات الجيوسياسية التي تنعكس بشكل غير متوقع على سلاسل التوريد وترفع أسعار الطاقة، ما يجعلها فترة حافلة بالتقلبات. هل يمكنك إخبارنا حول أداء "إيه بي إنبيف" في هذه الفترة؟
"فرناندو تينينباوم": يسعدنا أن نتمتع بهذا القدر من المرونة. فعلى الرغم من هذه التقلبات الحاصلة في مختلف أنحاء العالم، ما تزال مبيعات مشروب الشعير قوية. وفي ظل وصول التضخم إلى معدلات غير متوقعة،2 يتعين علينا ضمان انسجام عملياتنا مع السوق لمواكبة متطلبات هذه الفترة الاستثنائية. كما نحتاج إلى فهم حالة المستهلكين ومواءمة عملياتنا معها.
وتشهد الأسواق الناشئة مثل أمريكا اللاتينية وأفريقيا ارتفاع معدلات التضخم منذ فترة طويلة ووفق مستويات مختلفة، حيث اعتاد المستهلكون والشركات هناك على هذا الوضع، حتى أصبح حالة طبيعية.
"لوسيا راهيلي": ذكرتَ لنا بأنك أمضيت فترة طويلة في أمريكا اللاتينية، والتي تشهد تقلبات وارتفاعًا في معدلات التضخم أكثر من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ما هي الدروس التي يمكننا الاستفادة منها في الولايات المتحدة؟
"فرناندو تينينباوم": يتعين دومًا الحرص على مواكبة تطلعات العملاء ومعدلات التضخم. كما يجب تفادي التأخر أو المبالغة في رفع الأسعار مقارنةً بمعدلات التضخم، حيث ينعكس ذلك سلبًا على المستهلكين. ويصب اختيار المنهجية الصحيحة بلا شك في مصلحة الشركة. ويجب التعامل بشكل سليم مع ارتفاع التكلفة والحفاظ على مصلحة المستهلك والمنتَج في آن معًا، واختيار فئة المنتجات المناسبة. يتعلق النجاح بالوصول إلى التوازن بين هذه العناصر.
"يجب تفادي التأخر أو المبالغة في رفع الأسعار مقارنةً بمعدلات التضخم، حيث ينعكس ذلك سلبًا على المستهلكين".
"لوسيا راهيلي": تحظى "إيه بي إنبيف" بمحفظة متنوعة من العلامات التجارية وتسجل أحجام مبيعات جيدة، فهل يفضل عملاؤكم اليوم علاماتكم التجارية الفاخرة أم الموجهة للسوق الأوسع؟
"فرناندو تينينباوم": ما زال نشهد توجهًا نحو العلامات التجارية الفاخرة التي يفضلها العملاء اليوم. وكثيرًا ما تساءل الجميع طوال هذا العام حول إمكانية توجه المستهلكين إلى العلامات التجارية الأقل سعرًا، وهو ما لم نلمسه حتى اليوم. وينطبق هذا الأمر، بشكل غريب، على الولايات المتحدة وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ويشهد العالم تغيرات متسارعة، لذا لا نعرف ما يمكن أن يحمله المستقبل. رغم أنني قبل عشر سنوات كنت أتوقع أن تصبح العلامات التجارية الفاخرة أقوى مما هي عليه اليوم.
"لوسيا راهيلي": دعنا نتحدث عن عدم اليقين. فالاقتصاد يمكن أن يتطور بطرق مختلفة، كيف يمكنكم التعامل مع هذا الأمر؟
"فرناندو تينينباوم": نأخذ مثلًا محافظ الديون لدينا، حيث نشهد اليوم ارتفاع أسعار الفائدة ومعدلات التضخم والاقتراض، ما يمثل مؤشرات سلبية عمومًا. ولكن ليس بالنسبة لنا، لأنه لا يوجد لدينا أي ديون مستحقة خلال السنوات الثلاث القادمة، فقد بدأنا بالاستعداد عندما رأينا العالم يتوجه نحو تغييرات كبيرة في مطلع عام 2020.
وقمنا في نهاية المطاف بجمع بعض الديون طويلة الأمد وسداد جميع الديون قصيرة الأمد. وأصبح لدينا اليوم محفظة ديون تتمتع بمتوسط استحقاق يبلغ 16 عامًا، دون وجود ديون مستحقة خلال السنوات الثلاث القادمة، وجميعها ضمن معدلات فائدة ثابتة. ولأننا لا نحتاج إلى إعادة التمويل، فإننا قادرون الآن على إعادة شراء ديوننا. ويمكن أن يكون ارتفاع أسعار الفائدة في صالح الشركة عندما تستطيع شراء ديونها بأقل من تكلفة استصدارها.
"لوسيا راهيلي": توليتَ منصب الرئيس التنفيذي للشؤون المالية في الشركة في عام 2020، حينما كانت حالة عدم اليقين في ذروتها. فهل لك أن تخبرنا كيف تمكنت من الصمود في هذه الفترة؟
"فرناندو تينينباوم": سارعنا في عام 2020 إلى تعزيز سيولتنا المالية دون حاجتنا لذلك، بل بهدف دعم عملياتنا. وبدأنا بالاستعداد من خلال اقتراض مبالغ نقدية ضخمة وإيلاء مزيد من الاهتمام بموظفينا، حيث كانت سلامتهم أولويتنا القصوى.
وبمجرد ضمان سلامة موظفينا وعملياتنا، بدأنا باستكشاف الفرص وتطوير أعمالنا. وعلى سبيل المثال، لاحظنا خلال شهر مايو من ذلك العام وجود العديد من الأسواق التي تسجل أداءً جيدًا من حيث أحجام التبادل التجاري. كما توفرت لدينا سيولة نقدية كبيرة أتاحت لنا شراء بعض ديوننا، ولا سيما الديون قصيرة الأجل، ما فتح أمامنا العديد من الآفاق المستقبلية.
قمنا أيضًا بتسريع وتيرة تحولنا الرقمي، إذ شكلت تلك الفترة فرصة مواتية لنا. وكانت التقنيات الرقمية طريقة ممتازة للوصول إلى العملاء في وقت كان يصعب فيه اللقاء بشكل شخصي. وأصبحت الشركة بنهاية المطاف في موقع أفضل مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، من حيث المحفظة والتحول الرقمي وحتى السيولة النقدية، لأننا تصرفنا سريعًا ووفرنا خيارات عديدة خلال الأشهر الأولى من فترة الأزمة الصحية.
"لوسيا راهيلي": هل هناك أي أخطاء يتعين تفاديها؟
"فرناندو تينينباوم": لا أعتقد بأنه كان يجب تغيير أي من تلك الخطوات بشكل جذري. ولو عرفت النتيجة لكنت غيرت طريقتي، ولكنني شعرت أن أسلوب إدارتنا والخيارات التي طرحناها عززت موقفنا آنذاك.
"لوسيا راهيلي": يعتمد إنتاج مشروب الشعير على الزراعة بشكلٍ أساسي، والتي شهدت اضطرابات كثيرة نتيجة الحرب في أوكرانيا والمخاطر المتعلقة بالتغير المناخي. فما رأيك بمسألة الاستدامة من حيث توفير القيمة على المدى الطويل من وجهة نظرك كرئيس تنفيذي للشؤون المالية؟
"فرناندو تينينباوم": تتقاطع الاستدامة مع جميع تفاصيل عملنا، حيث نتعامل مع حوالي 20 ألف مزارع محلي. وتعتمد عملياتنا في إنتاج مشروبات الشعير على المواد الطبيعية. بالتالي كلما عززنا كفاءتنا في هذا الجانب ساهمنا في تحقيق استدامة عملياتنا وتحقيق أرباح أكبر. وكما تعلمين، فإن عمليات محلية ونقوم ببيع منتجاتنا للمنتجع المحلي، ومعظم عملائنا هم من فئة رواد الأعمال الصغار، حيث نحرص على مساعدتهم ليتمكنوا من إدارة أعمالهم بشكلٍ أفضل. ودومًا ما نقول إن مشروب الشعير من المنتجات التي تتسم بالشمولية، حيث يوجد ملياري مستهلك له حول العالم.
"لوسيا راهيلي": هل تندرج عمليات التغليف ضمن منهجية الاستدامة؟
"فرناندو تينينباوم": نعم بكل تأكيد. فنحن نستخدم على سبيل المثال عبوات زجاجية قابلة للإرجاع، وهي فعالة ومستدامة للغاية، وتُعد من أكثر خيارات التغليف تحقيقًا للأرباح من وجهة نظر اقتصادية. أضيفي إلى ذلك أنها من أكثر الخيارات معقولة التكلفة بالنسبة للمستهلكين، وهذا ما يجعلها الحل الأنسب لمنفعتنا وحماية البيئة ودعم المستهلكين.
"لوسيا راهيلي": ذكرتَ أن مشروب الشعير يتسم بالشمولية بسبب وجود الكثير من المستهلكين. ما هي الخطوات الأخرى التي تتبعونها لتحقيق المرونة في شركة "إيه بي إنبيف"؟
"فرناندو تينينباوم": لا شك أن قاعدة المستهلكين الواسعة تضم الكثير من التنوع. لذا يتوجب علينا كشركة أن نعكس احتياجات مجتمعنا، لأننا نعمل في مجتمعات مختلفة ومتنوعة، ومن واجبنا مواكبة احتياجاتها وتطلعاتها.
ومن المعروف أن تنوع أفراد الفريق يجعله أكثر كفاءة، وهو ما ينطبق أيضًا على الموردين. فبالنظر إلى الموردين في أفريقيا، على سبيل المثال، نجد أن بعضهم يعاني من فقرٍ مدقع، ويسعون للوصول إلى التكنولوجيا التي تتيح لنا التأكد من حصولهم الأموال التي ندفعها لهم. كما يمكننا تتبع السلع الزراعية التي يتم تأمينها من تلك المنطقة، لذا فإن أسلوب الدعم المادي الذي نتبعه معهم ينطوي على أهميةٍ كبيرة في استراتيجية الاستدامة التي نسير وفقها.
"لوسيا راهيلي": ما هي أفكاركم حول الابتكار والاستثمار في التكنولوجيا لتمكين النمو مستقبلًا؟
كما نركز على الابتكار التكنولوجي، حيث بدأنا عملياتنا التجريبية على منصتنا بين الشركات في عام 2019، وحققنا حتى الآن 30 مليار دولار أمريكي من إجمالي قيمة البضائع في منصتنا المخصصة للتجارة الإلكترونية، والتي يمكن الوصول إليها في أكثر من 19 دولة. وتشكل هذه المنصة المحفظة الأمثل لتعزيز تفاعل العملاء في نقاط البيع لديهم. وكنا نقضي سبع دقائق أسبوعيًا في التفاعل مع العملاء قبل إطلاق منصتنا، أما اليوم فأصبحنا نقضي 30 دقيقة، ونجحنا بزيادة عدد نقاط البيع. فعلى سبيل المثال، كان لدينا 700 ألف عميل في البرازيل، بينما ارتفع عددهم حاليًا إلى أكثر من مليون. كما اعتاد العملاء في السابق شراء منتجاتنا من أحد الموزعين، في حين يمكننا الآن الوصول إليهم بشكل مباشر من خلال نظامنا بين الشركات.
ويساهم هذا التفاعل مع العملاء في تقديم مجموعة واسعة من الخدمات الأخرى، مثل سوقنا الإلكترونية التي يجري فيها توفير 850 مليون دولار أمريكي من إجمالي قيمة البضائع سنويًا من منتجات الأطراف الخارجية، وهو ما لم يكن موجودًا قبل أربعة أعوام. وتواصل السوق نموها في الوقت الراهن وتوفر قيمة كبيرة لعملائنا ولشركتنا.
"لوسيا راهيلي": أودّ طرح سؤال آخر، ما هي نصيحتك لشخص تولى حديثًا منصب الرئيس التنفيذي للشؤون المالية في شركة كبرى متعددة الجنسيات في هذه السوق؟
"فرناندو تينينباوم": أنصحه بوضع خطط لمختلف السيناريوهات لمواكبة عالمنا سريع التغير والمليء بالتفاصيل غير المكشوفة. ولكن في حال لديه خيارات عديدة، فأنصحه أن يتحلى بالمرونة في اتخاذ القرارات وتشكيل فريق مترابط، ما يتيح له مجاراة الوضع المحيط به أيًا كانت المصاعب والعقبات، وبالتالي تحقيق أهدافه بالشكل الأمثل.
"لوسيا راهيلي": حسنًا، لم يكن ذلك سؤالي الأخير، سأطرح عليك سؤالًا آخر. ما رأيك بالرؤساء التنفيذيين الجدد للشؤون المالية، والعلاقة بين الاستدامة والشمولية والنمو؟ هل ترى أي تعارض بينهم؟
"فرناندو تينينباوم": ساد اعتقاد خاطئ بأن الشركات دومًا ما تكون أمام خيار الاستدامة أو الأرباح. ولكننا نحرص في شركتنا على التوفيق بين الجانبين، فكلما عززنا استدامتنا ازدادت أرباحنا والقيمة التي نقدمها لمختلف الجهات المعنية.