مستقبل صناعة السيارات الأوروبية: رؤيةٌ جديدةٌ للنمو والاستدامة والحياد الكربوني

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

تُعد صناعة السيارات الأوروبية حجر الزاوية لاقتصاد القارة وازدهارها الاجتماعي؛ إذ تسهم بنحو 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، وتحقق صادراتٍ تُقدَّر بـ 170 مليار يورو، كما توفر فرص عمل لما يقارب 13.8 مليون شخص، بينهم 3.5 مليون وظيفةٍ صناعية مباشرة وغير مباشرة، بما يعادل 8.5 في المائة من إجمالي القوى العاملة في القطاع الصناعي الأوروبي.1 وإلى جانب مسارها الواضح نحو خفض الانبعاثات الكربونية – المعروف اصطلاحًا بـ"الحياد الكربوني" –، تشهد الصناعة طفرةً تقنيةً غير مسبوقة في مجالات البرمجيات، والذكاء الاصطناعي التوليدي، والاتصال، والقيادة الذاتية، وهو ما يُعيد تعريف قدراتها ويفتح مجالاتٍ جديدة للنمو والابتكار أمام جميع الأطراف الفاعلة في سلاسل الإمداد الصناعية.2

على مدى السنوات الخمس الماضية، أصدرت ماكنزي أكثر من عشرين مقالًا تناولت فيه قضايا استدامة التغليف من زوايا متعددة. وانطلاقًا من هذا الإرث البحثي، يأتي هذا المقال ليضيف بعدًا جديدًا، حيث يركز على تطورات تبنّي التغليف المستدام من منظور المشتري. ويشمل هذا المنظور طيفًا واسعًا من الجهات، بدءًا من شركات السلع الاستهلاكية المعبأة، مرورًا بتجار التجزئة، ووصولًا إلى منتجي العلامات التجارية الخاصة، وشركات التغليف بالوكالة. ومن خلال هذا الطرح، نسعى إلى إلقاء الضوء على التحديات والفرص التي يواجهها هؤلاء الفاعلون في رحلتهم نحو اعتماد حلول أكثر استدامة.

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

وعلى الرغم من أهميتها، تواجه صناعة السيارات الأوروبية تحدياتٍ متصاعدةً ومتطلباتٍ جديدةً تمليها الطفرات التكنولوجية المتسارعة، إلى جانب احتدام المنافسة العالمية، وتعقّد الأوضاع الجيوسياسية، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وهو ما يضع القطاع بأكمله تحت ضغوطٍ متزايدة. وتشير دراسةٌ حديثةٌ لماكنزي بعنوان "الإمكانات الاقتصادية لأوروبا في التحوّل إلى المَركبات الكهربائية" إلى أن السيناريو الأكثر خطورةً قد يُعرّض ما يقرب من 440 مليار يورو من الناتج المحلي الإجمالي – أي ما يعادل ثلث القطاع تقريبًا – للخطر بحلول عام 2035.3

وفي ضوء هذه التحديات، يصبح لزامًا على شركات السيارات ومنظومة مورديها، إلى جانب المموّلين والجهات التنظيمية والقطاعات المرتبطة بها، أن تتكاتف لإحداث تغييراتٍ هيكلية تُعيد لأوروبا موقعها كقوةٍ عالميةٍ رائدة في صناعة السيارات. وتستعرض هذه المقالة أبرز التحديات الراهنة، كما تُقدّم خطة عملٍ متكاملة من تسع نقاط، بُنيت على تقريرٍ سابقٍ لماكنزي، بعنوان: "خارطة الطريق لصناعة السيارات الأوروبية".4 وترتكز الخطة على ثلاثة محاور أساسية تمثّل قاعدةً صلبة لمستقبل القطاع، وهي: تعزيز الاقتصاد، وترسيخ المرونة، وخفض الانبعاثات الكربونية، لتكوّن هذه المحاور معًا إطار عملٍ جديد يُعرَف اختصارًا بـ"ERA". كما تُعدّ الرقمنة والذكاء الاصطناعي عنصرين أساسيين لتحقيق النجاح في هذه المرحلة الجديدة.5

التحديات الرّاهنة في صناعة السيارات الأوروبية

بالرغم من احتفاظها بمكانةٍ قوية في سوق السيارات العالمية لعقود، إلا أن صناعة السيارات الأوروبية باتت تواجه اليوم مجموعةً متشابكةً من التحديات المتسارعة.

  • ضغوط التحوّل التكنولوجي. تشهد الصناعة تغيراتٍ جذرية ناتجةٍ عن الانتقال إلى أنظمة الدفع الكهربائية، والتوسع المتسارع في الرقمنة، فضلًا عن ظهور المَركبات المُعرَّفة بالبرمجيات. وتشير تقديرات ماكنزي إلى أن ما بين 85 إلى 90 في المائة من القيمة المُضافة للسيارات التقليدية العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي يبقى داخل الاقتصاد الأوروبي، بينما تنخفض النسبة إلى 75 في المائة فقط في حالة إنتاج المَركبات الكهربائية محليًا، في حين لا تتجاوز 15 إلى 20 في المائة عند استيرادها من الخارج.6 وهو ما يكشف أن التحوّل نحو السيارات الكهربائية لا يقتصر على تحديث خطوط الإنتاج، بل يتطلب إعادة بناء سلاسل الإمداد وتطوير القدرات الأساسية للصناعة. وفي الوقت ذاته، أصبحت البرمجيات والإلكترونيات محور التنافس الحقيقي، خاصةً في مجالاتٍ تتسارع فيها وتيرة التطوير خارج أوروبا مثل أنظمة مساعدة السائق المتقدمة، والاتصال الذكي بالمَركبات، وتجربة المستخدم داخل السيارة. فقد أصبح توفير تجربةٍ رقميةٍ متكاملة مطلبًا أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه. وتؤكد أبحاث ماكنزي أن الرقمنة والذكاء الاصطناعي أصبحا عاملين رئيسيين في رفع القيمة السوقية على مستوى العالم؛ فقد خسرت أكبر عشر شركات سيارات أوروبية ما يقارب 71 مليار يورو من قيمتها السوقية منذ عام 2015 (أي ما يعادل تراجعًا بنسبة 19 في المائة)، في حين تضاعفت قيمة شركات التكنولوجيا الأمريكية أربع مرات خلال الفترة ذاتها، وفقًا لمؤشر (ناسداك 100).
  • احتدام المنافسة العالمية وصعود قادة جدد. منذ عام 2017 خسرت شركات السيارات الأوروبية التقليدية نحو خُمس حصتها في السوق العالمية، في الوقت الذي ضاعف فيه الوافدون الجدد حصّتهم لتصل إلى مستوى مماثل تقريبًا،7 بحيث أصبح لكل طرفٍ ما يقارب ربع السوق العالمية. وتواجه الشركات الراسخة ضغوطًا متزايدة أمام هذه القوى الصاعدة، خصوصًا في قطاع المَركبات الكهربائية، التي نشأت في بيئاتٍ رقميةٍ بالكامل، مما منحها مزايا تنافسية واضحة، أبرزها سرعة دورات التطوير، واعتماد نماذج عمل تتكامل رأسيًا لتتيح التحكم في مختلف مراحل الإنتاج، إلى جانب زيادة الطاقة الإنتاجية التي تقلل التكاليف بشكلٍ كبير. وبهذه المقومات، تستطيع تلك الشركات طرح سياراتٍ متقدمة بتكلفةٍ تقل إلى ما يقارب النصف وبوتيرة إنتاجٍ أسرع بمرتين مقارنةً بالمصنّعين الأوروبيين التقليديين. وعلى الرغم من المكانة الراسخة التي ما زالت تتمتّع بها العلامات الأوروبية، فإن بوصلة الابتكار العالمي أخذت تتجه بخطى متسارعة نحو آسيا وأمريكا الشمالية، لتتقدّم القارتان اليوم في قيادة مسار التطوّر في التقنيات الناشئة.
  • التحديات الجيوسياسية والاقتصادية. تعاني أوروبا اليوم من ارتفاعٍ حادٍ وتقلباتٍ ملحوظة في تكاليف الطاقة نتيجة التوترات الجيوسياسية الأخيرة التي يشهدها العالم والقارة على وجه الخصوص، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة التصنيع داخل القارة مقارنةً بالمراكز الصناعية الأخرى، إذ يبلغ متوسط أسعار الطاقة في أوروبا ضعف ما هو عليه في الولايات المتحدة والصين.8 وإلى جانب ارتفاع تكاليف التصنيع، تكشف سلاسل الإمداد عن هشاشةٍ واضحة فيما يتعلق بالمواد الخام الهامة، وعلى رأسها العناصر الأرضية النادرة المعروفة مجازًا بـ"المعادن النادرة"، والتي تُعد ضروريةً في صناعة محركات المَركبات الكهربائية والإلكترونيات، حيث يعتمد الاتحاد الأوروبي بنسبةٍ تتجاوز 95 في المائة على وارداته من الصين.9 وفي الوقت الذي تكتسب فيه البطاريات مكانةً متزايدة كأصولٍ استراتيجية، تسيطر الصين على أكثر من 80 في المائة من سلسلة القيمة العالمية للبطاريات منذ عام 2023. 10 وبالرغم من محاولات أوروبا تقليص اعتمادها الخارجي عبر توطين الإمدادات الاستراتيجية، إلا أن هذا المسار قد واجه العديد من العقبات، فقد أدّت الإفلاسات المتتالية مؤخرًا إلى اختفاء ما يقارب نصف القدرات الإنتاجية التي كان يُعوّل عليها القطاع في المدى القريب.
  • التحديات التنظيمية والهيكلية في أوروبا. لا تزال عمليات إعادة الهيكلة في صناعة السيارات الأوروبية – كتغيير مواقع الإنتاج وإعادة توزيع العمالة – أكثر تعقيدًا من أي مكانٍ آخر، وذلك نتيجةً للبيئة التنظيمية الصارمة التي تُلزم الشركات بمعايير دقيقة وتُخضعها لإجراءات اعتمادٍ طويلة، مما يبطئ وتيرة التكيّف ويزيد من أعباء المنافسة.

وبرغم التحديات القائمة، لا تزال أمام صناعة السيارات الأوروبية فرصةً حقيقية لاستعادة تفوقها التنافسي عالميًا، والانطلاق بنجاحٍ نحو مرحلةٍ جديدة من التطور، عبر تحرّكاتٍ مدروسة وموجهّة بعناية.

خارطة الطريق لمستقبل صناعة السيارات الأوروبية

بعد استعراض التحديات المتشابكة التي تقوّض قطاع السيارات في أوروبا، تظهر الحاجة المُلحّة إلى رؤيةٍ جديدة تُعيد رسم ملامح المستقبل. ومن هنا، تأتي خطة العمل التي صاغتها ماكنزي لتكون خارطة طريقٍ تعالج مَواطن الضعف وتُطلق فرص النمو، بما يسرّع انتقال الصناعة نحو مرحلةٍ أكثر استدامةً وتنافسية. وتقوم هذه الرؤية، التي تُعرف اختصارًا بـERA، على مبدأ تحقيق التوازن بين ثلاثة محاور رئيسية:

  • اقتصادٌ مستدامٌ وفعّال. تمتلك شركات السيارات الأوروبية المقومات اللازمة لتحقيق أرباحٍ متوازنة تعزز استقرار المنظومة الصناعية، وتدعم الحفاظ على الوظائف، وتساهم في تعزيز الناتج المحلي لأوروبا.
  • مرونةٌ صناعيةٌ متقدمة. بإمكان أوروبا أن تحافظ على مكانتها كمركزٍ عالميٍ محوري في سلاسل الإمداد، من خلال بناء شبكات إمدادٍ أكثر صلابةً تقلل من الاعتماد على الخارج وتضمن استقرار التدفقات الحيوية.
  • الحياد الكربوني. تستطيع صناعة السيارات الأوروبية خفض الانبعاثات الكربونية إلى الصفر بحلول عام 2050 من خلال التكامل الفعّال بين القطاعات المختلفة، والاعتماد على أنظمة دفعٍ خالية من الانبعاثات.

ولكي يكتمل نجاح هذا التحوّل بأبعاده الثلاثة، فإن أوروبا مطالَبةٌ بالارتكاز على ثلاث دعائم أساسية: إعادة هيكلة شركات السيارات الأوروبية، وتأهيل سلاسل الإمداد لمتطلبات المستقبل، وتوفير بيئةٍ تنافسيةٍ عادلة تُمكّنها من الصمود في مواجهة المنافسين العالميين (الشكل 1).

.1إعادة هيكلة شركات السيارات الأوروبية

يفرض الاستعداد للمستقبل على شركات السيارات الأوروبية إحداث تحوّلٍ جذري في أسلوب عملها. فهي مطالَبةٌ بمواصلة ضخ الاستثمارات لتسريع معدلات طرح السيارات الجديدة، وتحسين كفاءتها التشغيلية بما يُقلّص النفقات ويرفع معدلات الإنجاز، كما ينبغي عليها صياغة استراتيجياتٍ إقليميةٍ مرنة تواكب تنوع احتياجات العملاء وتباين تفضيلاتهم.

استثماراتٌ سنوية تزيد عن 150 مليار يورو لدعم مستقبل صناعة السيارات

تستعد صناعة السيارات الأوروبية لطرح ما يقارب 350 طرازًا جديدًا من المَركبات الكهربائية بحلول عام 2032، والتي يُتوقع أن تكون أكثر من 70 في المائة منها مَركباتٍ كهربائية تعمل بالبطارية،11 فيما يشمل الباقي أنواعًا متعددة من السيارات الهجينة، كالسيارات القابلة للشحن الخارجي، والمزوّدة بأنظمة إطالة مدى القيادة، إضافةً إلى المَركبات العاملة بخلايا وقود الهيدروجين. ولكي تتمكّن من تحقيق طموحاتها، اتّجهت شركات تصنيع المعدات الأصلية الأوروبية وكبار مورّديها إلى استثمار نحو 150 مليار يورو سنويًا،12 جرى تقسيمها بشكلٍ متوازن بين البحث والتطوير من جهة والمشروعات الرأسمالية من جهةٍ أخرى. وبذلك، تُرسّخ صناعة السيارات موقعها كأكبر محرّكٍ للابتكار في أوروبا، إذ تستحوذ وحدها على ما يقارب 30 في المائة من إجمالي الإنفاق الأوروبي الموجّه للابتكار.13

ولأن هذه الاستثمارات الكبيرة تشكّل أساسًا لمستقبل القطاع، فإن المرحلة المقبلة ستتطلب مواصلة الاستثمار في تحديث مرافق الإنتاج وتطوير تقنيات المَركبات الجديدة. غير أن نجاح هذا التوجه يعتمد بالأساس على استقرار الأوضاع المالية مما يتيح استمرارية الإنفاق، إلى جانب توجيه الموارد نحو المجالات الأهم والأكثر قدرةً على تعزيز تنافسية القطاع (وهو ما سنتطرّق إليه في مقالتِنا). ومن هنا تظهر أهمية تنويع مصادر التمويل ودوره في تخفيف الضغوط المالية، سواء عبر زيادة صفقات الاندماج والاستحواذ، أو جذب استثمارات رأس المال الجريء، أو حتى من خلال الحصول على قروضٍ أوروبيةٍ منخفضة الفائدة للمشروعات الاستراتيجية. كما تُسهم الشراكة بين القطاعين العام والخاص في دعم وتمويل مشروعاتٍ كبرى مثل مصانع البطاريات العملاقة وشبكات البنية التحتية الخاصة بالشحن. فمن خلال المزج بين حُسن استغلال الموارد واعتماد أساليب تمويلٍ مبتكرة، تستطيع صناعة السيارات الأوروبية تأكيد تفوقها التنافسي على المدى الطويل والحفاظ على موقعها الريادي في الساحة العالمية.

تقليص التكاليف بنسبةٍ تتراوح بين 20 إلى 50 في المائة، وتسريع وتيرة طرح الطرازات الجديدة في الأسواق إلى الضعف

تكشف تحليلات ماكنزي أن المنافسين الجُدد في صناعة السيارات حول العالم استطاعوا توسيع حصتهم السوقية بفضل اعتمادهم استراتيجياتٍ مبتكرة تختلف كليًا عن نماذج العمل التقليدية، مما فتح الباب أمام مرحلةٍ صناعيةٍ جديدة. فقد تميّز هؤلاء اللاعبون بسرعة تطوير منتجاتهم وبناء مصانعهم، إضافةً إلى استخدامهم تقنياتٍ متقدمة في مجالاتٍ عدة، أبرزها التصنيع، والبطاريات، والتصميم، والتكامل. وبهذه المزايا، تمكّنت الشركات الصاعدة من طرح سياراتٍ بأسعار أقل بنسبةٍ تتراوح بين 20 إلى 50 في المائة، وطرحها بالأسواق بسرعةٍ تصل إلى ضعف سرعة الشركات الأوروبية التقليدية.

ولمواكبة هذا التحوّل السريع، أصبح لزامًا على الشركات الأوروبية الاعتماد على مجموعةٍ من الأدوات الأساسية التي تساعدها في مواجهة المنافسين الجدد، ومسايرة التطورات التقنية، وتلبية التغيرات في تفضيلات العملاء:

  • إجراء تغييراتٍ تكنولوجيةٍ جوهرية. لكي تحافظ صناعة السيارات الأوروبية على تنافسيتها، فهي مطالبةٌ باعتماد فكرٍ جديد يقوم على التصميم الذي يحقق القيمة الفعلية للعميل، أي التركيز على المزايا التي تُميّز العلامة التجارية والتخلّي عن التعقيد غير الضروري. وذلك من خلال القيام ببعض التحوّلات العميقة التي تبدأ من تطوير تكنولوجيا البطاريات عبر رفع كفاءتها والاعتماد على بدائل منخفضة التكلفة (مثل فوسفات حديد الليثيوم مع المنغنيز أو بطاريات أيونات الصوديوم)، بما يتيح خفض الأسعار ويضمن استقرار الإمدادات. كما يمتد هذا التحوّل إلى تبسيط التصميم الهيكلي من خلال دمج الخلايا في هيكل السيارة مباشرةً، لتقليل عدد المكونات، والإسراع من عملية التجميع، وتحسين الأداء. ويوازي ذلك ضرورة تعزيز التكامل الإلكتروني عبر دمج وحدات التحكم المختلفة أو اعتماد أنظمةٍ مركزيةٍ متطورة، مما يحدّ من تعقيد الأسلاك والأجهزة ويخفض التكاليف ويُسرّع وتيرة الإنتاج. وفي الوقت ذاته، يتعين على الشركات إعادة النظر في بعض المعايير التقليدية الموروثة من سيارات محركات الاحتراق الداخلي، مثل كثرة أجهزة الاستشعار أو سماكة المواد أو متطلبات الضوضاء والاهتزاز، إذ إن معظمها لا يُقدّم قيمةً حقيقيةً للعميل أو لعناصر الأمان بالمركبة، بينما يضيف أعباءً وتكاليف غير مبررة.
  • زيادة سرعة تطوير المنتجات لتقليص زمن وصولها إلى السوق. مع التسارع الكبير في مجالي الكهرباء والبرمجيات، لم يعُد ممكنًا الاعتماد على أساليب التطوير التقليدية البطيئة، خاصةً بعدما أصبح عامل السرعة عنصرًا حاسمًا للحفاظ على القدرة التنافسية وضبط التكاليف. وقد تمكنت الشركات الصينية من خفض فترة تطوير المَركبات الجديدة إلى أقل من عامين، أي أسرع بمرتين من الشركات الأوروبية التقليدية. وللتغلب على هذا التحدي، تحتاج الشركات الأوروبية لاعتماد أساليب عملٍ أكثر مرونةً وديناميكية، تقوم على اختبار البرمجيات وتحسينها بشكلٍ متواصل حتى قبل اكتمال المكوّنات الأخرى، بدلاً من التمسك بالنماذج الهندسية التقليدية. فهذا النهج يُمكّنها من سرعة طرح السيارات الجديدة ويمنحها مزايا تنافسية أكبر، خصوصًا في الأنظمة البرمجية المعقدة مثل إدارة البطاريات، والتحكم في المَركبات، وأنظمة القيادة المتقدمة، والتي باتت اليوم المعيار الأبرز لتميُّز السيارات في السوق العالمية.
  • تعزيز كفاءة سلاسل الإمداد من خلال شراكاتٍ أعمق مع المورّدين. تستطيع شركات السيارات الأوروبية تعزيز قدرتها التنافسية من خلال بناء علاقاتٍ أكثر عُمقًا مع المورّدين، تقوم على العمل المشترك وتبادل المعلومات والمتطلبات بشفافيةٍ كاملة منذ المراحل الأولى لتصميم وتطوير المنتجات، كاعتماد نهج "الكتاب المفتوح" على سبيل المثال، مما يساعد على تسريع عملية التطوير وتقليص المدة اللازمة لطرح المَركبات في الأسواق. كما يتيح التعاون المباشر مع المورّدين والشركاء اختبار حلولٍ جديدة بسرعةٍ ومرونة، مع الاستفادة من الخبرات المتنوعة داخل المنظومة الصناعية. ولا يقتصر هذا النهج على خفض التكاليف وتحسين الأداء، وتسريع إدخال الحلول التقنية، بل يساعد أيضًا على إنشاء سلاسل إمدادٍ محلية أكثر تنوعًا وصلابة. إضافةً إلى ذلك، فإن تبادل المنصات والمكونات بين الشركات المُصنِّعة يمكن أن يحقق زيادةً في الطاقة الإنتاجية ويعزز قوة الصناعة على مستوى السوق العالمي.
  • لمواكبة التغيرات، ينبغي على الشركات الأوروبية اعتماد نماذج عملٍ جديدة تقوم على المرونة والديناميكية، بدلًا من التمسك بالنماذج الهندسية التقليدية.

  • إعادة تصميم عمليات التصنيع لرفع الكفاءة. تحتاج شركات السيارات الأوروبية إلى إعادة النظر في مواقع مصانعها وآليات تشغيلها، بما يضمن تحقيق أقصى استفادةٍ من الطاقات الإنتاجية، وخفض التكاليف، والاقتراب أكثر من الأسواق الرئيسية. ويساعد اعتماد تصاميم هندسية تراعي متطلبات التصنيع في تبسيط خطوات الإنتاج، وتقليل الفوارق والاختلافات بين مراحل التصنيع المختلفة، مما يحقق مرونةً أكبر في سير العمليات. وتُعد التقنيات التصنيعية المتقدمة، مثل صبّ أجزاءٍ كبيرة من هيكل السيارة في قطعةٍ واحدة باستخدام مكابس ضخمة من الألومنيوم المنصهر، وهو ما يُعرف بـ "السّبك الضخم"، واعتماد نماذج تصنيعٍ معياريةٍ مرنة تقوم على إنتاج وحداتٍ مستقلة قابلةٍ للتجميع أو التبديل بسهولة، عنصرًا محوريًا يمنح الشركات فرصًا حقيقيةً لزيادة الكفاءة، وتسريع تنفيذ المشاريع، وخفض النفقات.
  • الذكاء الاصطناعي كأداةٍ لرفع الإنتاجية. تشير تقديرات ماكنزي إلى أن اعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطوير السيارات وتصنيعها وإدارتها التشغيلية قد يُعزّز الكفاءة التشغيلية ويُضيف إلى القيمة الاقتصادية أكثر من 100 مليار يورو بحلول عام 2030. ويمكن للشركات الأوروبية استثمار إمكانات الذكاء الاصطناعي التفاعلي القائم على الوكلاء لتعزيز الإنتاجية في مجالات الهندسة والمبيعات والعمليات الإدارية، إلى جانب الاستعانة بالروبوتات المستقلة لتنفيذ خطواتٍ مختلفة من عمليات الإنتاج. كما يتيح الذكاء الاصطناعي تبسيط مختلَف مراحل عمل المنظومة الصناعية، بدءًا من إدارة سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية، ووصولًا إلى تطوير المنتجات، بما يخلق كفاءةً أعلى ويُسرّع من وتيرة الإنجاز.

يُعدّ التوسّع في الطاقة الإنتاجية عاملًا أساسيًا لنجاح جهود خفض التكاليف ورفع الكفاءة في مجال صناعة السيارات. وتشير تحليلات مركز ماكنزي للتنقّل المستقبلي إلى أن الشركات التي تُصنّع السيارات الكهربائية غير الهجينة لا تحقق أرباحًا إيجابية إلا عند إنتاج ما لا يقل عن 80 ألف سيارةٍ كل ثلاثة أشهر. ومع ذلك، فإن زيادة حجم الإنتاج وحدها لا تكفي، إذ تحتاج الشركات أيضًا إلى أن تكون منظَّمةً وفعّالةً من الداخل. فالشركات التي تبسّط هياكلها الإدارية، وتُحسن توظيف الأدوات الرقمية، وتتّسم بسرعة اتخاذ القرار، بينما تفرض رقابةً دقيقةً على الأداء، مع ترشيد النفقات التشغيلية، تمتلك القدرة الأكبر على التكيّف مع المتغيرات التنظيمية. ومن خلال هذا النهج المتكامل، يمكن للشركات تحويل خططها إلى نتائج ملموسة تعزّز موقعها الريادي وتضمن استمراريتها في مسار التحوّل نحو السيارات الكهربائية.

نموذجٌ تشغيليٌّ إقليمي يضع المستهلك أولًا

لم يعُد سوق السيارات العالمي يتحرك في اتجاهٍ واحد، بل أصبح يسلك مساراتٍ متباينة تتسارع يومًا بعد يوم؛ إذ تتأثر هذه المسارات بالتباين الملحوظ في وتيرة التحوّل إلى المَركبات الكهربائية، والتطورات التقنية المتسارعة، وتغيّر سلوكيات المستهلكين. ففي الصين مثلًا، شكّلت المَركبات التي تعمل كليًا أو جزئيًا بالطاقة الكهربائية، والمعروفة بـ "مَركبات الطاقة الجديدة" قرابة نصف إجمالي المبيعات في عام 2024، وتضم هذه الفئة السيارات الكهربائية العاملة بالبطاريات بنسبةٍ بلغت 28 في المائة، والسيارات الهجينة القابلة للشحن بنسبة 15 في المائة، إضافةً إلى السيارات الكهربائية ذات المدى الممتد بنسبةٍ بلغت 6 في المائة،14 وهي فئةٌ تزداد شعبيتها بسرعةٍ كبيرة، ولكنها تكاد تقتصر على السوق الصينية. أما في أوروبا، فما زال الاعتماد على هذه المَركبات محدودًا، حيث لم تتجاوز مبيعات السيارات الكهربائية العاملة بالبطاريات 14 في المائة من إجمالي المبيعات، في حين تقف مبيعات السيارات الهجينة القابلة للشحن عند 7 في المائة. بينما جاءت الولايات المتحدة في مرتبةٍ أدنى، بنسبةٍ إجمالية لم تتخطَّ 10 في المائة.15

كما تتفوّق الصين كذلك في مؤشرات الطلب المستقبلي؛ إذ أظهر استطلاعٌ حديثٌ أن 45 في المائة من المستهلكين الصينيين يخططون لاقتناء سيارةٍ كهربائيةٍ تعمل بالبطارية، مقابل 23 في المائة فقط في أوروبا و12 في المائة في الولايات المتحدة. في الوقت ذاته، عبّر 37 في المائة من المستهلكين الصينيين عن نيتهم التوجه نحو السيارات الهجينة القابلة للشحن الخارجي أو السيارات الكهربائية ذات المدى الممتد. وفي المقابل، لا يتوقع سوى 18 في المائة من المستهلكين الصينيين أن تكون سياراتهم المقبلة بمحرك احتراقٍ داخلي، مقارنةً بـ 49 في المائة من الأوروبيين و70 في المائة من الأمريكيين. ومن اللافت أن 24 في المائة من المستهلكين الأوروبيين و23 في المائة من نظرائهم الأمريكيين قد أبدوا استعدادهم لشراء سياراتٍ كهربائيةٍ ذات مدى ممتد إذا توافرت على نطاقٍ واسع، على الرغم من أن معظمهم كان قد صرّح في البداية بنيته شراء سياراتٍ تقليديةٍ بمحركات احتراقٍ داخلي.16

ويزداد التباين وضوحًا بالنظر إلى حجم الطلب على أنظمة مساعدة السائق المتقدمة؛ فقد أبدى أكثر من 75 في المائة من المستهلكين الصينيين اهتمامًا بالحصول على سياراتٍ مزودةٍ بالمستوى +L2، بينما أعرب ما يزيد عن 65 في المائة عن رغبتهم في الحصول على سياراتٍ مجهزةٍ بتقنيات المستوى L3 الأكثر تقدُّمًا،17 لتتبوأ هذه الأنظمة مكانةً ضمن أهم عشرة عوامل مؤثرة، بينما يضعها المشترون من الفئات المميزة ضمن أول أربعة معايير حاسمة. أما في أوروبا، فما زال تأثير هذه الأنظمة محدودًا نسبيًا، إذ لم يتجاوز اهتمام المستهلكين بالمستوى +L2 نسبة 40 في المائة، في حين بلغ الاهتمام بالمستوى L3 نحو 30 في المائة فقط. 18

وإلى جانب هذا الاهتمام المتزايد بالتقنيات المساعِدة على القيادة، تلعب التجارب الرقمية وتوجهات المستهلكين نحو العلامات التجارية دورًا متناميًا في تشكيل المشهد. ففي الصين، على سبيل المثال، باتت مزايا المقصورة الذكية والمساعدات الصوتية من العناصر الأساسية التي تتحكم في قرار الشراء، بينما ما تزال هذه التقنيات في أوروبا والولايات المتحدة تُصنّف كخياراتٍ إضافيةٍ غير ضرورية. كما يُظهر المستهلكون الصينيون أيضًا انفتاحًا لافتًا على العلامات الجديدة؛ إذ أعرب 82 في المائة منهم عن اهتمامهم بشركات السيارات الكهربائية المحلية الصاعدة، وأكد أكثر من 65 في المائة استعدادهم للتحوّل إلى علامةٍ جديدة في مشترياتهم المقبلة، بفضل ما تحققه هذه الشركات من تقدمٍ في تقنيات القيادة الذكية وتجربة المقصورة الرقمية. وعلى الرغم من قوة تمسك المستهلكين في الغرب بعلاماتهم التقليدية، فقد أبدى 21 في المائة من الأوروبيين و25 في المائة من الأمريكيين استعدادهم للتفكير في اقتناء سيارةٍ كهربائيةٍ من علامةٍ صينية.

وبالنّظر إلى هذا التباين الإقليمي الواضح، لم يعُد من الممكن الاكتفاء بالاستراتيجية التقليدية التي تعتمد على تطوير منصةٍ واحدةٍ للتسويق على مستوى العالم، حيث فقَدَ هذا النهج قدرته على مواكبة تنوع الأسواق. لذلك من الضروري التحوّل إلى نهجٍ أكثر محليةً، يقوم على إنشاء سلاسل إمدادٍ إقليمية وتصميم المنتجات بأسلوبٍ يناسب خصوصية كل سوق.19 فمثل هذا التوجه لا يلبّي فقط المتطلبات التنظيمية والبنى التحتية المتفاوتة وتفضيلات المستهلكين المختلفة، بل يوفّر أيضًا حمايةً أكبر من اضطرابات سلاسل الإمداد العالمية.

إلا أن هذا التوجه المحلي قد يضيف تحدياتٍ جديدة ويحدّ من الطاقة الإنتاجية، مما يجعل التحالفات والشراكات الاستراتيجية ضرورةً للحفاظ على القدرة التنافسية وخفض التكاليف.

ولإنجاح هذا النهج، تحتاج الشركات إلى تطوير منتجاتٍ مصممةٍ خصيصًا لكل منطقة، مع تحديد بعض الأولويات الخاصة بكل تصميم لجعله يتماشى مع طبيعة كل سوق، بالإضافة إلى إعادة صياغة هوية العلامة التجارية بما يلبي توقعات المستهلكين المحليين. ففي حالة المَركبات المعتمِدة على البرمجيات، قد يكون من الأفضل إنشاء فِرق عملٍ محليةٍ مستقلة في الأسواق الرئيسية مثل الصين، لتواكب سرعة التحوّل الرقمي هناك وتستجيب مباشرةً لمتطلبات العملاء. كما أن وجود فِرقٍ متعددة التخصصات، تعتمد على البيانات وتضع المستهلك على رأس أولوياتها، يُعد أمرًا أساسيًا لضمان تطوير المنتجات بالشكل المناسب، واعتماد سياسات تسعيرٍ متوازنة، وبناء جسور تواصلٍ محلية أكثر تأثيرًا.

وأخيرًا، يُمثّل التعاون داخل المنظومات الصناعية المحلية عنصرًا أساسيًا لدعم هذا التحوّل. فالشراكات الاستراتيجية مع الجهات المحلية تتيح للشركات الأوروبية الوصول بسرعةٍ أكبر إلى التقنيات والقدرات الجديدة، وتحقيق فهمٍ أعمق لاحتياجات السوق. كما أن تطوير مزايا تنافسية عبر المراكز الإقليمية، خاصةً في الأسواق التي يقودها الابتكار، يساعد في تلبية الطلب المحلي ويسهم في تعزيز الحضور العالمي للشركات في آنٍ واحد. ومع تصاعد الاتجاه نحو المحلية في صناعة السيارات على مستوى العالم، أصبح بإمكان هذه الشراكات أن تُمهد لعصرٍ جديد من "العولمة الإقليمية"، يصبح فيه الابتكار المحلي قوةً دافعةً لتحقيق النجاح على المستويين المحلي والعالمي.

تحتاج صناعة البطاريات في أوروبا إلى تحوّلٍ جذري يقوم على رؤيةٍ استراتيجيةٍ منسّقة تغطي جميع مراحل المنظومة.

2. تهيئة المنظومة الإنتاجية لمتطلبات المستقبل

لا يقتصر التغيير المطلوب على إعادة هيكلة شركات السيارات الأوروبية بشكلٍ منفرد، بل يتطلب الأمر أيضًا تعزيز المنظومة الصناعية ككل لضمان استعدادها لمجابهة تحديات المستقبل، وهو ما يشمل إنشاء صناعة بطارياتٍ أوروبيةٍ قوية وقادرة على المنافسة، وزيادة الاستثمار في التقنيات الواعدة، إضافةً إلى بناء شراكاتٍ استراتيجية تضمن استقرار تدفق المواد الأساسية.

تطوير منظومة صناعة البطاريات الأوروبية لتصبح أكثر تنافسيةً

تكشف منصة ماكنزي لبيانات البطاريات – التابعة لمركز ماكنزي للتنقّل المستقبلي – أن أوروبا ما زالت تؤدي دورًا محدودًا في صناعة البطاريات؛ إذ لا يتجاوز نصيبها 10 في المائة من القدرة العالمية لإنتاج خلايا البطاريات، بينما يظل حضورها في المراحل الأولية، مثل استخراج ومعالجة المواد الخام، ضعيفًا للغاية. وهو ما يجعل شركات السيارات الأوروبية تعتمد بدرجةٍ كبيرة على سلاسل الإمداد العالمية (الشكل 2). ومن المرجّح أن يتضاعف الطلب الأوروبي على بطاريات السيارات الكهربائية بحلول عام 2030 ليتراوح من 600 إلى 800 غيغاواط/ساعة، مقارنةً بنحو 200 غيغاواط/ساعة فقط في عام 2024، بل قد يتخطّى هذا الطلب ستة أضعافٍ، في حال استمرت التحديات التي تواجه تشغيل المصانع الجديدة واستقرار الإنتاج. وفي المقابل، واجهت الصناعة الأوروبية انتكاساتٍ حادّة؛ حيث تعثّر تنفيذ مشروعاتٍ بطاقةٍ إنتاجية تُقدَّر بنحو 600 غيغاواط/ساعة من الطاقة المُعلَن عنها حتى يوليو 2025، وذلك نتيجة حالات الإفلاس وتقليص عدد المشاريع، إذ مُنّيت الشركات الأوروبية بالنصيب الأكبر من الخسائر، بينما واصلت الشركات الآسيوية قيادة المشهد والاستحواذ على معظم المشاريع الفاعلة. وتزداد خطورة الموقف مع اتساع الفجوة بين ما يحتاجه السوق فعليًا وما تخطط له أوروبا؛ إذ يتنامى الطلب العالمي على بطاريات فوسفات حديد الليثيوم التي تعتمد بشكلٍ كامل على الصين، في حين تتركّز الخطط الأوروبية على بطارياتٍ أكثر تكلفةً وتعقيدًا، تعتمد على مزيجٍ من الليثيوم والنيكل والمنغنيز والكوبالت.

ولسدّ هذه الفجوة المتزايدة، تبدو أوروبا بحاجةٍ إلى تحوّلٍ جذري في صناعة البطاريات، يقوم على نهجٍ استراتيجيٍ منسّق يشمل جميع مراحل المنظومة. ووفقًا لتحليلات ماكنزي، فإن ضمان القدرة التنافسية الإقليمية يتطلّب استثماراتٍ ضخمة تتراوح بين 200 إلى 300 مليار يورو بحلول عام 2035، بالإضافة إلى توفير اتفاقات شراءٍ طويلة الأمد تجعل هذه الاستثمارات أكثر جاذبيةً. ويمكن لمِثل هذا التمويل، خاصةً إذا اقترن بآليات دعمٍ منخفضة الفائدة، أن يعوّض الفوارق في التكاليف بين أوروبا وغيرها من المناطق، مما يحوّل القارة إلى وجهةٍ واعدة لكلٍ من مُصنّعي السيارات، والمورّدين، ومُصنّعي البطاريات، والشركات الناشئة، والمستثمرين على حدٍ سواء. بجانب التمويل، هناك العديد من العوامل الحاسمة التي تسهم في إنجاح هذا التحوّل، من أبرزها تسريع إجراءات الموافقات، ولا سيما المتعلقة بالمعادن والمواد الخام الأساسية وعملية تكريرها، فضلًا عن اعتماد سياساتٍ فعّالة لجذب الكفاءات والاحتفاظ بها. إلا أن تحقيق هذه الطموحات لا يكون من خلال المبادرات المتفرقة سواء كانت على مستوى الدول أو الشركات، بل يستلزم جهدًا منسقًا على مستوى أوروبيٍ موحّد يضمن بناء منظومة بطارياتٍ قادرة على المنافسة عالميًا.

ومع ذلك، لا يُشترط أن يتم توطين جميع مراحل إنتاج البطاريات داخل أوروبا، بل يكفي أن تحافظ القارة على سيطرةٍ استراتيجية على المراحل الحسّاسة لضمان استقرار الإمدادات وحماية الصناعة من أي اضطراباتٍ خارجية. فزيادة التصنيع والمعالجة محليًا، سواء في إنتاج الخلايا أو في المراحل الأولية مثل تجهيز المواد الخام، يمكن أن تضيف قيمةً كبيرةً للاقتصاد الأوروبي وتعزز من قدرته التنافسية. ولتحقيق ذلك، يتعين على أوروبا توفير حوافز قوية تشجّع الشركات على الانخراط في سلاسل الإمداد، ودعم جهود البحث والتطوير، وتسهيل نقل المهارات والخبرات المتخصصة. كما أن فتح المجال أمام المشاريع المشتركة والفرص الاستثمارية الجاذبة يمكن أن يستقطب شركاتٍ عالميةٍ كبرى، خصوصًا إذا ركّزت هذه الشراكات على تبادل التكنولوجيا، ودمج الخبرات المتنوعة، وتسريع عملية نقلها وتوطينها داخل القارة. وفي هذا الإطار، يمكن أن يشكّل التعاون بين الاستثمارات العامة والخاصة عنصرًا محوريًا في خلق بيئةٍ مواتية لنقل المعرفة والابتكار. ومن خلال هذا النهج المُنسّق القائم على الشراكات البنّاءة، تستطيع أوروبا بناء منظومة بطارياتٍ قويةٍ ومرنة، قادرةٍ على المنافسة عالميًا، مع ضمان انتقالٍ مستدامٍ نحو السيارات الكهربائية.

الاستثمار في التقنيات المستقبلية

لا يقتصر الأمر على تطوير البطاريات فحسب، بل إن نجاح صناعة السيارات الأوروبية يتطلب تحقيق تطوّرٍ ملموسٍ في مجالاتٍ تكنولوجيةٍ أخرى تُعدّ أساسيةً للمنافسة العالمية. وكما أوضحت ماكنزي في مقالها "صناعة السيارات الأوروبية: ما الذي تحتاجه الشركات لاستعادة قدرتها التنافسية"،20 فإن الاستثمار المباشر في البحث والتطوير، إلى جانب صفقات الاندماج والشراكات الاستراتيجية، جميعها أدواتٍ حاسمة تمكّن أوروبا من توسيع قدراتها الإنتاجية واستعادة موقعها الريادي. وهذه سبعة مجالاتٍ تقنيةٍ أساسية تتصدّر قائمة الأولويات التي ينبغي أن تركّز عليها القارة في المرحلة المقبلة:

1. المَركبات المُعرَّفة بالبرمجيات. تزداد أهمية البرمجيات يومًا بعد يوم لا سيّما في صناعة السيارات، إذ لم تعُد مجرد وسيلةٍ لتحسين الأداء، بل أصبحت عنصرًا أساسيًا يُميز العلامات التجارية ويُطوّر نماذج الأعمال. وبالرغم من ثبات مبيعات السيارات عالميًا، يُتوقّع أن ترتفع إيرادات دورة حياة المَركبات – أي العوائد الكاملة من السيارة طوال فترة استخدامها –، بنسبةٍ تصل إلى 30 في المائة بحلول عام 2035، 21 بفضل الاعتماد المتزايد على الوظائف الرقمية والخدمات الذكية. وهو ما يفتح المجال أمام فرصٍ أكبر لبناء منظوماتٍ برمجيةٍ متكاملة تمنح الشركات ميزةً تنافسيةً واضحة. إلا أن المقارنات تكشف عن فجوةٍ كبيرة بين الشركات الناشئة خارج أوروبا والشركات الأوروبية التقليدية؛ فالأولى تتقدم بخطواتٍ سريعة، إذ يتم توجيه أكثر من 40 في المائة من فِرق البحث والتطوير لديها نحو البرمجيات، بينما لا يتعدى هذا التركيز 15 في المائة لدى الشركات الأوروبية التقليدية.22 ولسد هذه الفجوة، تحتاج أوروبا إلى ضخ استثماراتٍ أكبر في تطوير بُنى كهربائيةٍ وإلكترونيةٍ مركزية، وبناء منصاتٍ برمجيةٍ مرنة قائمة على الحوسبة السحابية تتيح تحديث الوظائف وتطويرها بشكلٍ أسرع، إلى جانب إنشاء طبقةٍ برمجيةٍ وسيطة لتكون متاحةً بشكلٍ مجاني، تعمل كأساسٍ مشتركٍ بين الشركات، مما يساعد على تقليل التعقيد وتخفيض التكاليف وتسريع الابتكار. وبالرغم من وجود العديد من المبادرات القائمة بالفعل، إلا أن تعزيز التعاون بين المصنّعين والمورّدين وشركات التكنولوجيا يظل شرطًا محوريًا لتحقيق كامل إمكانات هذا التحوّل.

ومع ذلك، يبقى هذا التوجّه محل نقاش، فهناك من يرى أن الاعتماد على طبقةٍ برمجيةٍ مشتركة قد يحدّ من قدرة الشركات على التميُّز وإبراز خصوصية كلٍّ منها. ومن هنا تبرز أهمية أن توظّف الشركات الأوروبية هذه القاعدة المشتركة كوسيلةٍ لتوفير الوقت والموارد، مع ضرورة توجيه تركيزها نحو ابتكار ميزاتٍ رقميةٍ وخدماتٍ حصرية تُضيف قيمةً حقيقيةً وتمنحها أفضليةً تنافسية. كما يتعيّن على الشركات الأوروبية تضييق الفجوة مع منافسيها العالميين من خلال الاستثمار الجاد في استقطاب الكفاءات البرمجية المتميّزة والحفاظ عليها، وهو ما يستدعي تعزيز الشراكات مع الجامعات، وابتكار مساراتٍ مهنيةٍ محفّزة لمهندسي البرمجيات. وإذا نجحت أوروبا في تحقيق ذلك، فستتمكّن من تسريع وتيرة تطوير منتجاتها، وتوسيع آفاق الابتكار في مجال البرمجيات، وترسيخ مكانتها كقوةٍ رائدةٍ في السوق العالمية.

2. أنظمة مساعَدة السائق المتقدمة والمَركبات ذاتية القيادة. لا يزال الإقبال في أوروبا على تقنيات القيادة المتقدمة محدودًا، وهو ما قد يُضعف نمو الصناعة ويؤدي إلى تراجع الاستثمارات، وبالتالي فقدان الشركات الأوروبية جزءًا من قدرتها التنافسية أمام منافسيها العالميين. ويُعزى ذلك إلى مجموعةٍ من التحديات أبرزها تفتّت المنظومة التقنية، وتعقيد الأنظمة، وارتفاع تكاليف التطوير. وللتغلب على هذه التحديات، يمكن للشركات الأوروبية التعاون في تطوير منظومةٍ برمجيةٍ مشتركة ومتاحةٍ للجميع تدعم أنظمة مساعدة السائق المتقدمة، لتكون قاعدةً موحّدة يمكن البناء عليها لتطوير ميزاتٍ جديدة ومبتكرة. كما أن الاستثمار الجماعي في بنيةٍ تحتيةٍ متطورة لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي، مع توفير الدعم الحكومي اللازم، يمكن أن يسهم في خفض التكاليف وتسريع التطوير وتعزيز متانة هذه المنظومة.

أما في مجال المَركبات ذاتية القيادة، فما زالت أوروبا متأخرةً في تقنيات المستوى الرابع (L4) على وجه التحديد، إذ يقتصر الأمر على عددٍ محدودٍ من الشركات وعلى موارد تمويلٍ محدودةٍ أيضًا.23 وتشير تقديرات ماكنزي إلى أن إنشاء مناطق اختبارٍ متكاملة يتطلب استثماراتٍ تتجاوز 200 مليون يورو لكل منطقة، حتى تتحول هذه المواقع إلى مختبراتٍ عملية لأساطيل المَركبات الذاتية، تمهيدًا لإطلاقها بشكلٍ واسعٍ بحلول عام 2028/2027. ولكي تكون هذه المشاريع ذات أثرٍ حقيقي، ينبغي أن يكون التمويل مرتبطًا بالاستخدام التجاري الفعلي، كأن تُسهم الجهة الممولة في تغطية جزءٍ من التكلفة مقابل كل كيلومترٍ تقطعه المَركبة أثناء تشغيلها في خدمات نقلٍ حقيقية، بدلًا من الاكتفاء بتمويل تجارب محدودة لا تصل إلى السوق. كما يُستحسن أن يكون التمويل مشتركًا، بحيث تتحمّل شركات التنقّل الذاتي الجزء الأكبر من التكاليف لضمان التزامها بجدوى المشروع واستدامته.

وإلى جانب التمويل، تبقى تهيئة بيئةٍ جاذبةٍ للشركات عاملًا حاسمًا لتسريع انتشار تقنيات القيادة الذاتية، وذلك عبر وضع أطرٍ تنظيميةٍ مرنة تدعم الابتكار، وتطوير بنيةٍ تحتيةٍ مناسبة، وتسريع إجراءات اعتماد المَركبات ومنح التراخيص. كما يُسهم توحيدُ معايير القيادة الذاتية داخل الاتحاد الأوروبي وتبسيط متطلبات الامتثال في خفض التكاليف وتسريع طرح هذه المَركبات في الأسواق. وفي الوقت نفسه، تستطيع الشركات دفع عجلة التقدّم من خلال خطواتٍ عمليةٍ عدّة، في مقدمتها تعزيز التعاون فيما بينها ومع الجهات الحكومية لإنشاء مناطق اختبارٍ وتجاربٍ ميدانيةٍ مخصصة للسيارات ذاتية القيادة في بيئاتٍ حقيقيةٍ وآمنة، إضافةً إلى تطوير منصاتٍ برمجيةٍ مشتركة، واستقطاب أفضل الكفاءات البرمجية عبر شراكاتٍ وثيقةٍ مع الجامعات والمؤسسات التعليمية.

3. أشباه الموصلات. تُعدّ أشباه الموصلات العمود الفقري للتقنيات الحديثة في صناعة السيارات، سواء في المَركبات المُعرَّفة بالبرمجيات أو في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فهي تتحكم في كل شيء، بدءًا من توفير القدرة الحاسوبية اللازمة لتشغيل الأنظمة المتقدمة داخل السيارة وحتى ربطها بالحوسبة السحابية أو الطّرفية – المسؤولة عن معالجة البيانات داخل السيارة، بدلًا من إرسالها إلى السحابة –.24 ووفقًا لتقديرات مركز ماكنزي للتنقُّل المستقبلي، من المتوقع أن يرتفع الطلب الأوروبي على أشباه الموصلات بنحو 25 في المائة في المائة بحلول عام 2030. غير أن هذه الزيادة تأتي في وقتٍ تتسابق فيه آسيا والولايات المتحدة عبر استثماراتٍ ضخمة ومتسارعة في هذا القطاع، وهو ما يضع أوروبا في موقفٍ أكثر صعوبةً. فالقارة لا تمتلك سوى 10 في المائة من القدرة العالمية في مرحلة التصنيع الأمامي، ونحو 1 في المائة فقط في التصنيع الخلفي، الأمر الذي يضعها تحت ضغط الاعتماد بدرجةٍ كبيرة على سلاسل الإمداد الخارجية.25 وللتصدّي لهذه المشكلة، يتعيّن على أوروبا توجيه استثماراتٍ استراتيجيةٍ نحو تعزيز قدراتها في التصميم والتصنيع، سواء في المراحل الأمامية أو الخلفية لسلسلة إنتاج أشباه الموصلات، مع العمل في الوقت ذاته على خفض تكاليف التصنيع. ويمكن للقارة أن تبني على نقاط قوتها الحالية، والتي تشمل خبراتها في البحث والتطوير، وصناعة المعدات المتخصصة، وإلكترونيات الطاقة. غير أن نجاح هذه الجهود يعتمد على عدة عوامل، أهمها تعزيز الشراكات بين شركات السيارات ومُصنّعي أشباه الموصلات، إلى جانب إطلاق برامج تدريبٍ متقدمة لتأهيل الكفاءات البرمجية وجذب أفضل المواهب العالمية، فضلًا عن إدماج الشركات الناشئة والجامعات في هذه المنظومة المتكاملة. وبهذا النهج، يمكن لأوروبا أن تبني سلاسل إمدادٍ أكثر قوةً ومرونة، وتحافظ على ريادتها التكنولوجية في السباق العالمي لصناعة السيارات.

4. أنظمة الدفع الكهربائي. يشهد سوق أنظمة الدفع الكهربائي – باستثناء البطاريات – تشتّتًا ملحوظًا، إذ يضم أكثر من 50 مورّدًا لمكوّنات نظام الدفع الكهربائي وحدها، وفقًا لتحليلات ماكنزي. غير أن معظم هؤلاء المورّدين يواجهون صعوبةً في تحقيق الأرباح بسبب ارتفاع التكاليف الناتج عن الإفراط في تخصيص التصاميم، رغم أن الفوارق الفعلية بينها محدودة، بالإضافة إلى تعقيد سلاسل الإمداد الخاصة بأنظمة الدفع الكهربائي، فهي لا تعتمد على مورّدٍ واحدٍ فقط، بل تمر عبر سلسلةٍ طويلةٍ من المورّدين المترابطين. ولتتمكّن الشركات من مواجهة التحديات وخفض التكاليف، يتعيّن عليها تعزيز التعاون فيما بينها من خلال تبنّي منصاتٍ صناعيةٍ مشتركة ووضع معايير موحّدة. كما يمكن أن تسهم الابتكارات المستهدَفة – مثل تطوير أشباه الموصلات الخاصة بالطاقة ورفع مستوى التكامل بين المكونات – في تحسين كفاءة أنظمة الدفع الكهربائي. وفي بعض الحالات، قد يكون نقل بعض أنشطة التطوير، مثل الإلكترونيات الخاصة بالطاقة، إلى مناطق أقل تكلفة في آسيا وسيلةً فعّالة لتعزيز القدرة التنافسية. ومع ذلك، يبقى من الضروري أن تحافظ أوروبا على تحقيق توازنٍ استراتيجيٍ يضمن استقلاليتها التكنولوجية ويحدّ من الاعتماد المفرط على منطقةٍ بعينها.

5. مكوّنات محركات الاحتراق الداخلي. رغم التحوّل المتزايد نحو السيارات الكهربائية، ستظل محركات الاحتراق الداخلي وأنظمة الدفع الهجينة جزءًا أساسيًا من سوق السيارات في أوروبا لسنواتٍ طويلة، خاصةً في مجال خدمات ما بعد البيع، بل وقد يمتد وجودها لفترةٍ أطول في الأسواق العالمية خارج أوروبا. فوفقًا لتقديرات مركز ماكنزي للتنقُّل المستقبلي، من المتوقع أن تبلغ قيمة هذا السوق نحو 100 مليار يورو بحلول عام 2035. وتملك أوروبا خبرةً واسعةً في هذا المجال تمكّنها من الحفاظ على تدفقاتٍ ماليةٍ مستقرة تدعم الصناعة في المدى القريب. غير أن إدارة التراجع التدريجي لهذه التقنيات تتطلب خطةً واضحة، تشمل إنشاء مركزٍ متخصصٍ لتجميع الخبرات والعمليات المرتبطة بمحركات الاحتراق، وتوحيد الجهود مع بقية الشركات في القطاع، إضافةً إلى رفع كفاءة تشغيل المصانع من خلال دمج الموارد وتنسيق العمليات. وباعتماد هذه الخطوات، لن تتمكن أوروبا فقط من الحفاظ على كفاءة الصناعة خلال مرحلة الانتقال، بل ستنجح أيضًا في تحقيق تحوّلٍ أكثر سلاسةً نحو أنظمة دفعٍ نظيفةٍ منخفضة الانبعاثات، في ظل التراجع المستمر للطلب العالمي على محركات الاحتراق التقليدية.

6. الوقود البديل. إن ما تتمتع به أوروبا بمقوماتٍ قوية يؤهلها لقيادة مسار التحوّل نحو استخدام الهيدروجين والوقود المستدام على مستوى العالم، مستندةً إلى خبرتها الطويلة في تقنيات الاحتراق الفعّال والعمليات الصناعية المتقدمة. ومع التوسع في إنتاج أنوعٍ جديدة من الوقود مثل الديزل المتجدد، والبنزين الحيوي، والوقود الصناعي الإلكتروني، يُتوقع أن تصل القارة إلى الاستغناء الكامل عن الوقود الأحفوري بحلول عام 2050. فيما يكتسب هذا التوجه أهميةً خاصة في القطاعات التي يصعب الاعتماد فيها على الكهرباء بشكلٍ كامل، مثل أسطول المَركبات التقليدي، والنقل البحري، والطيران. كما يُعدّ الوقود المستدام فرصةً لتعزيز التعاون بين القطاعات المختلفة، إذ يمكن توظيفه في إزالة الكربون من المواد الخام، وفي العمليات الصناعية، وكذلك في تشغيل المَركبات منخفضة الانبعاثات. ومع ذلك، ما يزال الجدل قائمًا حول مدى استدامة هذه الحلول على المدى الطويل، وحول الدور الحقيقي الذي يمكن أن تؤديه في قطاع النقل البري. ومن جانبٍ آخر، يعتمد جزءٌ كبيرٌ من الوقود الحيوي المتوافر حاليًا على الواردات القادمة من آسيا، وهو ما يخلق درجةً من التبعية الخارجية، لكنه في المقابل يوفر تنوعًا جغرافيًا في مصادر التوريد، إلى جانب استمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري ومعادن البطاريات المستوردة من مناطق أخرى، مما يعزز مرونة السوق الأوروبية. ورغم أن تكلفة هذه البدائل ما تزال أعلى من تكلفة الوقود التقليدي، إلا أن تزايد الطلب وتوافر التشريعات الداعمة يمكن أن يفتحا الباب أمام إنتاج كمياتٍ أكبر، ويوفّرا للمستهلكين خياراتٍ أوسع لتقليل الانبعاثات، مع تقديم حوافز إضافية تدفع تدريجيًا نحو زيادة الاعتماد على الكهرباء.

وإذا ما نظرنا بعمقٍ إلى واقع هذه الصناعة، سنجد أن مستوى الجاهزية في إنتاج أنواع الوقود المستدام يختلف من نوعٍ لآخر. فبينما لا تزال سلاسل الإمداد الخاصة بالبنزين الحيوي والوقود الصناعي الإلكتروني في مراحلها الأولى ولم تصل بعد إلى التطور الكافي، نجد أن وقودًا آخر مثل زيت النباتات المُعالَج بالهدرجة يتمتع بقدراتٍ إنتاجيةٍ متقدمة وبنيةٍ تحتيةٍ راسخة، بل ويشهد أحيانًا فائضًا مؤقتًا في الإنتاج. ومع اتضاح اتجاهات السوق وزيادة الطلب المدعوم بالتشريعات، يمكن لأوروبا أن تستثمر هذه الفرصة لتقود التحوّل العالمي نحو الوقود منخفض أو معدوم الانبعاثات، بحيث يصبح جزءًا أساسيًا من حزمة الحلول المستدامة التي تدعم انتقال قطاع النقل والطاقة إلى مستقبلٍ نظيف وأكثر استدامة.

7. الاقتصاد الدائري وإعادة استخدام المواد. إن تطوير أنظمة تدويرٍ متكاملة للبطاريات يُمثّل خطوةً حاسمةً أمام أوروبا لتعزيز استدامتها وتقوية قدرتها التنافسية، فهو يسهم في خفض التكاليف وتقليل الاعتماد على الإمدادات الخارجية، خاصةً من الصين. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2040 يمكن أن تُلبّي إعادة التدوير نصف احتياجات أوروبا من البطاريات، مما يتيح لها فرصةً لتقليل المخاطر وتحقيق استقلاليةٍ أكبر.26غير أن الاستفادة من هذه الفرصة تتطلب تحركًا سريعًا لترسيخ الحضور العالمي للقارة في هذا المجال بحلول أوائل ثلاثينيات هذا القرن، حيث من المتوقّع أن تبدأ كمياتٌ ضخمة من هذه البطاريات في العودة إلى السوق بعد انتهاء عمرها الافتراضي، وبالتالي ستكون هناك فرصةٌ ذهبيةٌ لإعادة تدويرها واستخراج المعادن المهمة منها.

لتتمكن أوروبا من إنجاح التحوّل نحو النقل الكهربائي، لا بد لها من الاستثمار بشكلٍ واسعٍ في بناء محطات الشحن السريع لتغطي كافة دول الاتحاد الأوروبي.

ضمان إمداداتٍ مستقرة من المواد الخام الأساسية

تعتمد صناعة السيارات الأوروبية، وبالأخصّ قطاع المَركبات الكهربائية، على مجموعةٍ واسعةٍ من المواد الخام اللازمة لضمان استمرار نموها وتعزيز قدرتها التنافسية. وقد حدّد الاتحاد الأوروبي 34 مادةً تُعدّ أساسيةً للأمن والاستدامة،27 من بينها 25 تدخل مباشرةً في صناعة السيارات، فيما تُصنَّف 14 مادةً منها على أنها بالغة الأهمية ولا غنى عنها. وتشمل هذه الموارد عناصر محورية مثل الليثيوم والغرافيت اللّازمَين لإنتاج البطاريات، إلى جانب العناصر الأرضية النادرة المستخدَمة في تصنيع المغناطيسات الدائمة لمحركات السيارات الكهربائية، والتي يُرجَّح أن يرتفع الطلب العالمي عليها إلى أربعة أضعافٍ خلال السنوات المقبلة. وبالرغم من امتلاك الصين نسبةً محدودةً من الاحتياطات العالمية لمعظم هذه الموارد (باستثناء الغرافيت)، إلا أنها تسيطر فعليًا على جزءٍ كبير من السوق؛ فهي تستحوذ على أكثر من 40 في المائة من عمليات التعدين عالميًا، وعلى ما يزيد على 80 في المائة من قدرات التكرير، وفقًا لتحليلات منصة "ماينسبانز" الرقمية التابعة لماكنزي، والمعنيّة بتقديم بياناتٍ دقيقةٍ ومتعمّقة حول قطاع التعدين العالمي. والأخطر أن ما يقارب 95 في المائة من واردات الاتحاد الأوروبي من العناصر الأرضية النادرة تأتي من الصين، في وقتٍ تظل فيه أنشطة المعالَجة النهائية داخل القارة محدودةً للغاية.28 هذه المعطيات تجعل أوروبا في موقفٍ بالغ الصعوبة أمام أي اضطراباتٍ محتملة في سلاسل الإمداد العالمية.

ولتعزيز أمنها الصناعي، يتعيّن على أوروبا تبنّي حلولٍ عملية تقلّل من اعتمادها المفرط على الخارج وتضمن استقرار الإمدادات، ليس فقط لحماية أرباح الشركات والمورّدين، بل أيضًا لترسيخ استقلال القارة وزيادة قدرتها على الصمود في وجه الأزمات. وتعتمد هذه الحلول على بناء شراكاتٍ استراتيجيةٍ مع الدول الغنية بالموارد الطبيعية لضمان تدفقٍ مستدام، إلى جانب تشكيل تحالفاتٍ صناعيةٍ تؤمّن المراحل الحساسة في سلاسل الإمداد، خاصةً في القطاعات الحيوية مثل البطاريات وأشباه الموصلات. كما يمكن الحد من هذا الاعتماد عبر تعزيز قدرات التكرير داخل أوروبا، من خلال دعم التعاون الدولي، وتبسيط الإجراءات التنظيمية، وتوفير الحوافز التي تشجع على زيادة الطاقة الإنتاجية واستدامتها. وإضافةً إلى ذلك، فإن إنشاء مخزوناتٍ استراتيجيةٍ من المعادن الأساسية، مثل العناصر الأرضية النادرة والكوبالت والنيكل، سيُوفر حمايةً إضافية ضد أي اضطراباتٍ مستقبليةٍ في الإمدادات.

3. إرساء بيئةٍ تنافسيةٍ عادلة

لكي تحافظ أوروبا على قدرتها التنافسية وتواكب الأسواق العالمية، يتعيّن على الجهات الفاعلة فيها الإسراع في تطوير البنية التحتية وشبكات الطاقة، وتعزيز الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة. كما ينبغي توفير المرونة اللازمة لمسار التحوّل نحو الحياد الكربوني، مع العمل بالتوازي على معالجة الفجوات التي تُضعف قدرتها التنافسية.

توسيع شبكات الشحن والبُنى التحتية للطاقة النظيفة

بينما تمضي بعض الدول بخطواتٍ متقدمة في نشر البنية التحتية للشحن، ما تزال دولٌ أخرى متأخرةً بشكلٍ ملحوظ. ولتضمن أوروبا نجاح تحوّلها نحو النقل الكهربائي، يتعيّن عليها الاستثمار على نطاقٍ واسع في إنشاء محطات الشحن السريع وتطوير شبكات الطاقة المتجددة لتغطي جميع دول الاتحاد الأوروبي. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2035 سيكون من الضروري زيادة عدد محطات الشحن بما يقارب ستة أضعاف، ليصل المعدل إلى محطةٍ واحدةٍ لكل 15 سيارةٍ كهربائية، مع تفاوت هذه النسبة بين الدول بحسب قدراتها الاستيعابية. فيما تتطلب هذه الخطط ضخ استثماراتٍ ضخمة تصل إلى نحو 350 مليار يورو، لا تقتصر على إنشاء محطات الشحن فحسب، بل تشمل أيضًا تعزيز شبكات الكهرباء وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة لضمان توفير كهرباء نظيفة لهذه المحطات. فمن المؤكد أن انتشار شبكات شحنٍ عامةٍ ومنخفضة التكلفة سيسهم في طمأنة السائقين بشأن قدرة سياراتهم الكهربائية على قطع المسافات الطويلة دون قلقٍ، كما سيؤدي إلى خفض تكلفة الشحن السريع، وتشجيع المستهلكين على اعتماد هذا التحوّل، مما يمهّد الطريق لبناء منظومة نقلٍ أوروبيةٍ أكثر استدامةً ومرونة.

وللمُضي بخُطى أسرع نحو هذا المسار، يمكن لأوروبا أن تتبنّى مجموعةً من الخطوات العملية. يأتي في مقدمتها تبسيط إجراءات التصاريح عبر دول الاتحاد الأوروبي للحد من التأخّر في مشروعات الشحن والطاقة المتجددة، وتعزيز التعاون بين مختلف الأطراف، وخاصةً بين مشغّلي شبكات الكهرباء ومولّدي الطاقة النظيفة، بما يتيح توحيد معايير محطات الشحن وضمان قابليتها للتشغيل المشترك، إلى جانب ربط خطط تطوير الشبكات الكهربائية بالتوسّع في إنشاء البنية التحتية للشحن. كما يُعدّ بناء شراكاتٍ قوية بين القطاعين العام والخاص عنصرًا أساسيًا لتوجيه الاستثمارات بكفاءةٍ أكبر وزيادة معدلات التنفيذ.

ومع ذلك، يُعد من الطبيعي أن تكون معدلات استخدام محطات الشحن منخفضةً في المراحل الأولى، إذ يتعيّن إنشاء البنية التحتية مسبقًا قبل أن يبلغ الطلب ذروته. ووفقًا لتقديرات مركز ماكنزي للتنقّل المستقبلي، قد لا تتجاوز نسبة السيارات الكهربائية على الطرق الأوروبية 25 في المائة بحلول عام 2035، مما يعني أن بعض المناطق ستشهد معدلات استخدامٍ محدودةٍ لشبكات الشحن لفتراتٍ طويلة. ومن هنا يبرز الدور الحاسم للتمويل الحكومي في ضمان استكمال بناء هذه الشبكات، ولا سيما في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة، في حين يُتوقّع أن تتسارع وتيرة تبنّي السيارات الكهربائية في المدن الكبرى والمراكز الحضرية المكتظّة.

مواجهة التحديات لتحقيق الحياد الكربوني

لقد وضعت أوروبا أهدافًا طموحة للحد من الانبعاثات، من أبرزها التحوّل الكامل نحو السيارات عديمة الانبعاثات بحلول عام 2035. لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب التغلب على عددٍ من العقبات الأساسية (الشكل 3). فعلى صعيد الصناعة، ما زالت منظومة البطاريات والبنية التحتية للسيارات الكهربائية في أوروبا بحاجةٍ إلى توسّعٍ كبير حتى تتمكّن من تلبية الطلب المستقبلي. أما على مستوى المستهلكين، فلا يزال الإقبال محدودًا؛ إذ لا تتجاوز نسبة من يفكرون في اقتناء سيارةٍ كهربائيةٍ تعمل بالبطارية 20 في المائة، في حين يفضّل أكثر من 40 في المائة السيارات الهجينة طويلة المدى، وتميل نسبةٌ مماثلةٌ إلى سيارات محركات الاحتراق التقليدية29. ويُعزى ذلك بدرجةٍ كبيرة إلى ارتفاع أسعار السيارات الكهربائية، التي تتزايد بما يتراوح بين 20 إلى 30 في المائة مقارنةً بنظيراتها التقليدية (إذا ما استبعدنا الدعم الحكومي)، وذلك بحسب تقديرات مركز ماكنزي للتنقُّل المستقبلي. فيما يظل ارتفاع التكلفة ومدى القيادة المحدود أبرز ما يقلق المستهلكين، إلى جانب ارتفاع أسعار الكهرباء في أوروبا، في وقتٍ كان فيه انخفاض تكلفة تشغيل السيارات الكهربائية أحد أهم الأسباب التي ساعدت على انتشارها السريع في الصين.30

في حال استمرت هذه التوجهات، قد يؤجّل كثيرٌ من المستهلكين تحوّلهم إلى السيارات الكهربائية، إما لارتفاع تكلفتها أو لأنها لا تزال غير قادرةٍ على تلبية احتياجاتهم اليومية بالشكل الكافي. ويظهر هذا التحدي جليًا لدى من يشترون السيارات الصغيرة والمَركبات التجارية الخفيفة، أو لدى من يسكنون المناطق التي تفتقر إلى بنية شحنٍ كافية. إن واقعًا كهذا قد يعرقل جهود خفض الانبعاثات ويبطئ من وتيرتها، إذ ستبقى السيارات الملوِّثة قيد الاستخدام لفترةٍ أطول، خاصةً مع ارتفاع متوسط عمر السيارة في أوروبا إلى نحو 13 عامًا بعد أن كان أقل من عشر سنوات قبل عِقدٍ واحدٍ فقط.31 ومن المتوقع أيضًا أن تشهد الأسواق موجةً من الإقبال على شراء سيارات الاحتراق الداخلي قبل عام 2035، ليعقبها انخفاضٌ ملموسٌ في المبيعات بعد هذا التاريخ، وهو ما قد يضع الشركات المُصنّعة والمورّدين أمام اختباراتٍ اقتصاديةٍ صعبة تهدد استدامة نمو القطاع.

وللحد من المخاطر، تحتاج منظومة السيارات الكهربائية في أوروبا إلى التوسّع السريع، خاصةً في مجال البنية التحتية للشحن وسلسلة توريد البطاريات، بما في ذلك تأمين المواد الخام اللازمة لها. وبحسب ما أشارت إليه تحليلات ماكنزي، فإن وتيرة نشر محطات الشحن يجب أن ترتفع بما يعادل ضعفين إلى ثلاثة أضعافٍ على الأقل، حتى تتمكّن أوروبا من تحقيق أهدافها في خفض الانبعاثات والوصول إلى الحياد الكربوني. كما يمكن لأوروبا أن تستفيد من التجارب الناجحة في دولٍ أخرى مثل الصين، حيث تشهد الأسواق هناك انتشارًا واسعًا لما يُعرف بـ السيارات الهجينة طويلة المدى، وهي فئة تجمع بين المحرك الكهربائي ومحرك الوقود، وتشمل نوعين رئيسيين، هما السيارات الهجينة القابلة للشحن الخارجي، التي يمكن شحن بطارياتها من مصدر كهربائي خارجي، والسيارات الكهربائية ذات المدى الممتد، التي يعمل فيها محرك الوقود كمولّد كهرباء لإعادة شحن البطارية عند الحاجة. وقد أصبحت هذه الطرازات تمثّل نحو نصف مبيعات السيارات الكهربائية في الصين، حيث تمتاز هذه الطرازات بقدرتها على توفير مدى كهربائي يغطي معظم الاحتياجات اليومية، ليصل في المتوسط إلى 100 كيلومتر للسيارات الهجينة القابلة للشحن الخارجي، بينما يتجاوز 200 كيلومتر لبعض الطرازات الصينية ذات المدى الممتد،32 مع وجود ميزة الإبقاء على محرك احتراقٍ داخلي كخيارٍ بديل يمكن تشغيله مستقبلًا بأنواع وقودٍ مستدامة. وهو ما يجعل من هذه المَركبات خيارًا عمليًا يعالج مخاوف المستهلكين المتعلقة بمدى القيادة، خصوصًا في المناطق التي ما زالت تفتقر إلى بنية شحنٍ متكاملة. فضلًا عن ذلك، فهي تسهم في دعم أهداف خفض الانبعاثات، في حين يساعد اعتماد بطارياتٍ أصغر في هذه الطرازات على تقليل الاعتماد على المواد النادرة، وتخفيف الضغط على سلاسل الإمداد الأوروبية، مما يجعل مسار التحوّل أكثر مرونةً واستدامة.

فيما تستطيع أوروبا تقليل انبعاثات النقل بشكلٍ أكبر من خلال تبني استراتيجياتٍ شاملةٍ تغطي دورة حياة السيارة بالكامل. ويشمل ذلك تسريع التخلص من السيارات القديمة، والتوسّع في استخدام الوقود المستدام، وتقديم الحوافز لاستخدام الكهرباء الخضراء في عمليات الشحن. كما أن الاعتماد على موادٍ صديقةٍ للبيئة مثل الفولاذ والألمنيوم الأخضر، إلى جانب التصنيع باستخدام الطاقة المتجددة، سيساعد خفض التلوث الناتج عن الكربون، والذي يُعرف بالبصمة الكربونية، ويعزز في الوقت نفسه من تطوير الصناعات الأوروبية المحلية منخفضة الانبعاثات.

غير أن هذه الحلول لا يمكن تأجيلها أو اعتبارها إجراءاتٍ مؤقتة تُتّخذ في اللحظات الأخيرة؛ فهي تحتاج إلى تخطيطٍ طويل الأمد، وحوافز واضحة، وتعاونٍ واسع النطاق بين مختلف القطاعات لضمان توفير الاستثمارات الكافية وتحقيق التوسّع بالمعدلات المطلوبة.

سدّ الفجوات التنافسية

أصبحت تواجه أوروبا اليوم جملةً من التحديات المعقدة التي تُهدّد مكانتها التنافسية على الساحة العالمية، وتفرض عليها التحرّك بسرعةٍ إذا ما أرادت تقليص الفجوة المتزايدة بينها وبين الولايات المتحدة والصين. إذ بات يُشكّل ارتفاع تكاليف العمالة وأسعار الطاقة، إلى جانب النقص في الكفاءات المتخصّصة وضعف مرونة سلاسل الإمداد، عبئًا ثقيلًا على الشركات الأوروبية. كما تعاني القارة من تباطؤٍ في الإنتاجية، وتراجع الاستثمارات الموجّهة للنمو، فضلًا عن التعقيدات التنظيمية والإجراءات البيروقراطية المطوّلة، وتفتّت السوق الأوروبية الذي يُقيد قدرتها على تحقيق وفورات الحجم والاستفادة من مزايا التوسّع والإنتاج على نطاقٍ واسع.33

وللتغلب أوروبا على هذا الواقع، يتطلب الأمر تبنّي استراتيجيةٍ استثماريةٍ شاملة ومنسّقة، تعالج مشكلة نقص الاستثمارات المُزمنة وتسرّع من وتيرة التوسّع من خلال أسواقٍ ماليةٍ أكثر تكاملًا وعمقًا، وتعتمد بناء شراكاتٍ قويةٍ بين القطاعين العام والخاص، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا الحديثة. كما يجب العمل على إتاحة التمويل منخفض التكلفة للمصنّعين ورواد الابتكار، إذ يساعد ذلك على جذب رؤوس الأموال الجريئة، ودعم الشركات الصناعية الكبرى، بما يعزز نمو القطاع بشكلٍ مستدام.

كما تحتاج أوروبا أيضًا إلى استثماراتٍ واسعة في مجال الطاقة الخضراء والبُنى التحتية الرقمية، لتُسرّع من نشر مصادر الطاقة المتجددة وربطها بالشبكات الكهربائية، بما يوفّر لمصانع السيارات إمداداتٍ مستقرةٍ ومنخفضة التكلفة من الكهرباء النظيفة. حيث يُعدّ بناء بنيةٍ تحتيةٍ رقمية قوية ركيزةً أساسية لدعم التصنيع المتقدّم ولتمهيد الطريق أمام التوسّع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والمَركبات ذاتية القيادة. وبموازاة ذلك، يتعيّن الاستثمار في تنمية مهارات القوى العاملة ورفع جاهزيتها الرقمية، مع دمج التقنيات الحديثة داخل خطوط الإنتاج لتعزيز الإنتاجية. أما على صعيد الكفاءات المتخصصة، فيمكن لأوروبا الاستفادة من البرامج المتكاملة لدعم تنقّل المواهب، والتي تشمل تسهيل إجراءات التأشيرات، وتقديم حلولٍ سكنيةٍ مناسبة، وإطلاق مبادراتٍ تدريبيةٍ واسعة النطاق، بما يضمن جذب أفضل الخبرات العالمية والاحتفاظ بها.

ولتعزيز مسار التحوّل وضمان تكامله على مستوى القارة، تحتاج أوروبا إلى تبنّي نهجٍ موحّدٍ يجمع دولها ضمن رؤيةٍ متكاملةٍ تمكّنها من المنافسة مع الولايات المتحدة والصين. ويستلزم ذلك وضع أطرٍ واضحةٍ لبرامج الحوافز المالية على مستوى الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء، بحيث تشمل دعم المصنّعين والمستهلكين على حدٍّ سواء، إلى جانب اتخاذ إجراءاتٍ تستهدف تنشيط الطلب، مثل إعادة تفعيل برامج الدعم المالي المخصّصة لشراء السيارات الكهربائية – سواء الجديدة أو المستعملة – وتطبيق برامج لاستبدال أساطيل المَركبات القديمة. هذه الإجراءات من شأنها أن تُسهم في تنشيط السوق المحلي، وتسريع وتيرة التخلص من السيارات العاملة بمحركات الاحتراق التقليدية، ودعم التحوّل نحو المَركبات الكهربائية.

في الوقت ذاته، يمكن لأوروبا أن تستلهم من التجارب الناجحة على مستوى العالم، كمدينتي سان فرانسيسكو وشنزن، الّلتين أنشأتا مناطق ابتكارٍ خاصة تقوم على إجراءاتٍ إداريةٍ مُبسّطة، وتمويلٍ موجهٍ للبحث والتطوير، وإتاحة رؤوس الأموال في مراحل مبكرة لدعم الشركات الناشئة، إلى جانب إقامة شراكاتٍ واسعةٍ تضم الحكومات والجامعات والقطاع الخاص. فمثل هذه الخطوات كفيلةٌ بتسريع وتيرة الابتكار، ودعم انتقال أوروبا نحو منظومةٍ أكثر تنافسيةً واستدامة.

ولتحقيق مكانةٍ رائدةٍ على الساحة العالمية، تحتاج أوروبا إلى توظيف تنوّع مواردها بذكاءٍ عبر مختلف المناطق، من العمالة منخفضة التكلفة، إلى الطاقة الخضراء المتاحة بأسعارٍ مناسبة، وصولًا إلى المعادن الحيوية والمراكز الصناعية المتقدمة. فمع توحيد هذه المزايا التكميلية في إطارٍ تعاونيٍ واحد على مستوى القارة، تستطيع أوروبا بناء سلاسل إنتاجٍ متكاملةٍ للسيارات ليصبح القطاع أكثر كفاءةً وقدرةً على التوسع والابتكار.

ومع سعي أوروبا لتعزيز قدرتها التنافسية على المدى الطويل، فإنها بحاجةٍ إلى بيئةٍ تنافسيةٍ عادلة، خصوصًا في هذه المرحلة الانتقالية. وهو ما يتطلب متابعة فروقات الأسعار العالمية، واختلاف تكاليف العمل والطاقة والمعايير التنظيمية بين المناطق الأوروبية المختلفة. ومع تطبيق ضوابط مرنة وفعّالة، تستطيع القارة حماية قطاع السيارات، ودعم استثماراتٍ طويلة الأمد، وضمان استمرار المنافسة بشكلٍ صحيٍ ومتوازن.

إن استعادة مكانة أوروبا الريادية في صناعة السيارات العالمية، وضمان جاهزية المنظومة الصناعية الأوروبية لمتطلبات المستقبل، بالإضافة إلى تحقيق فرصٍ متكافئةٍ للمنافسة مع القوى الكبرى، باتت جميعها مهامًا عاجلةً لا تحتمل التأجيل. فغياب تحرّكٍ حاسمٍ وسريع يهدد بحدوث تداعياتٍ اقتصاديةٍ جسيمة تطال صناعة السيارات بأكملها وتمتد إلى الاقتصاد الأوروبي ككل. ولمواجهة هذا التحدي، يتعيّن على الشركات إحداث تحوّلاتٍ جوهريةٍ وسريعة، تقوم على تبنّي أحدث التقنيات، ورفع الإنتاجية، والتكيّف مع ديناميكيات السوق المتغيرة. وفي المقابل، تتحمل الحكومات مسؤولية تهيئة البيئة اللازمة لإنجاح هذه التحوّلات، عبر تبسيط القوانين والإجراءات، وتقديم حوافز مدروسة، وتوجيه الاستثمارات نحو البُنى التحتية الحيوية، وفي مقدمتها الطاقة المتجددة، والاتصال الرقمي، وتعزيز مرونة سلاسل الإمداد. لقد تخطّت أوروبا مرحلة الإصلاحات الجزئية والإجراءات البطيئة. واليوم، أصبح من الضروري إطلاق عملٍ جريءٍ ومنسَّق يجمع بين القطاعين العام والخاص، لإعادة إنعاش القطاع الصناعي الأوروبي، والحفاظ على قدرته التنافسية، وضمان مستقبلٍ مستدامٍ ومزدهرٍ لصناعة السيارات في القارة. فهذه اللحظة لا تحتمل الانتظار، والتحرّك فيها ضرورةٌ مصيرية ليس لمستقبل الصناعة، بل لأوروبا بأسرها.

Explore a career with us