تغير كل شيء. قبل بضعة أسابيع فقط، كنّا منهمكين في مشاغل الحياة المعتادة والمتزاحمة. ما كان من المسلّمات – كقضاء أمسية مع الأصدقاء، والتنقلّ اليومي، والسفر جوّاً – بات اليوم مستحيلاً. تقلقنا التقارير اليومية عن ارتفاع نسبة الإصابات والوفيات في جميع أنحاء العالم وتثقل قلوبنا حزناً عند فقدان أحد المقرّبين إلينا. وتملكنا انعدام اليقين تجاه الغد بعد الخوف على صحة وسلامة عائلاتنا وأصدقائنا وأحبائنا. والفزع من ألا نستعيد أسلوب حياتنا الذي ألفناه.
وبالإضافة إلى القلق المباشر إزاء درجة التأثير الحقيقي للوباء على حياة الإنسان، تهيمن مخاوف من التداعيات الاقتصادية الشديدة التي قد تنجم عن الصراع الطويل مع الفيروس التاجي الجديد (كوفيد -19). فالشركات التجارية تقفل أبوابها ويفقد الناس وظائفهم. ونأمل بأن يتوافر لنا خيار مختلف عن الخيارات التي طُرحت في افتتاحية صحيفة ”وول ستريت جورنال“ وفحواها أننا قد نواجه قريباً معضلة؛ إما التضحية بسبل عيشنا وإلحاق أضرار جسيمة بها جراء عمليات العزل المنزلي وتوقّف الأعمال حتى إشعار آخر، أو التضحية بحياة الآلاف، إن لم يكن الملايين، جراء الفيروس المستفحل. كلا الخيارين مر، ونحن بحاجة إلى بذل كل جهد ممكن لإيجاد الحلول.
ضرورات الأزمة الراهنة. تفيد مصادر متعدّدة وكذلك تحليلاتنا أن الصدمة على حياتنا ومعيشتنا من جهود مكافحة الفيروس ستكون الأشد فتكاً على مدى قرابة قرن من الزمن. في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، يُرجّح أن يشهد النشاط الاقتصادي أكبر تراجع فصلي عرفه منذ عام 1933، نتيجة العزل المنزلي للسكان والجهود الأخرى الرامية إلى السيطرة على الفيروس. ولم يشهد التاريخ الحديث قط أزمة تستدعى توقف الناس عن العمل، أو ملازمة المنازل على مستوى دول برّمتها، أو الحفاظ على مسافات آمنة بين الناس. الأمر لا يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي أو الاقتصاد فحسب، بل بحياتنا وأسلوب عيشنا أيضاً.
نرى جهوداً جبّارة تُستثمر في القضاء على الفيروس، في حين يحثّ الكثيرون على اتخاذ المزيد من التدابير الأسرع والأكثر صرامة. وتُبذل جهود كبيرة أيضاً للحفاظ على استقرار الاقتصاد من خلال تنفيذ سياسات مبتكرة. إلا أن تجنب الإضرار بمعيشتنا بشكل دائم يكمن في إيجاد سبل لـ ”وضع حدود زمنية“ لهذه الأزمة؛ يجب أن نفكر في كيفية القضاء على الفيروس من جهة وتقصير مدة الصدمة الاقتصادية من جهة أخرى (الشكل1). والاثنان لا يحتملان التأجيل!
لإيجاد حلول للأزمتين الوبائية والاقتصادية، نحتاج إلى تحديد السلوكيات التي تخمد الفيروس، مع العمل على تهيئة ظروف تمكّن الأفراد من استئناف العمل والواجبات العائلية والحياة الاجتماعية.
حتى اليوم، لا طريقة ناجحة ومثبتة لاحتواء الفيروس - إبان انتشار العدوى في المجتمع - إلا فرض إجراءات عزل منزلي وتوقف عن الأعمال على نطاق واسع، والابتعاد الجسدي المنضبط، وإجراء الاختبارات، وتعقّب الحالات ومن خالطها. وقد أظهرت تجارب الصين واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية أن هذه الإجراءات يمكن أن تمنع انتشار الفيروس وتتيح عودة النشاط الاقتصادي، نسبياً على الأقل. ونحن نتابع التطورات في إيطاليا والعديد من الدول الأخرى لمعرفة ما إذا كانت تدابير المكافحة هناك كافية لإبطاء تصاعد عدد الإصابات والوفيات. ويجب أن يكون هدفنا المشترك تنفيذ أفضل استجابة ممكنة لوضع حدّ لهذه الأزمة.
وبالتوازي، يراقب قادة العالم وحكومات الدول مستجدات الآثار الاقتصادية لهذه الإجراءات. ما هي تبعات توقف العديد من الشركات عن العمل أو تخفيف نشاطها بشكل كبير؟ إلى متى يمكننا تحمل ذلك؟ ما مدى عمق الصدمة الاقتصادية التي يمكن أن نتحملها دون التسبب في معاناة بشرية لا تستطيع مجتمعاتنا تحملها؟
نستعرض في ما يلي سبلاً للتفكير في هذه القضايا الملحة. (يرجى أيضاً الاطلاع على المقالة ”ما بعد فيروس كورونا: الطريق إلى الوضع الطبيعي التالي,“ التي نشرها زميلانا كيفن سنيدير وشوبهام سينغال والتي يحاولان فيها تصور الوضع مستقبلاً).
التعامل مع الشكوك المرتبطة بكوفيد-19
- انتشار كوفيد -19. ما هو عدد الإصابات الجديدة التي تسجّل؟ هل ينخفض معدل الوفيات؟ هل تختلف ظاهرة انتشار الفيروس بين موسم وآخر؟ هل تتطور سلالة جديدة من الفيروس؟
- سياسات الصحة العامة في كل دولة أو ولاية أو بلدية. هل ستكون هناك عمليات عزل منزلي وتوقّف في الأعمال؟ هل يظل من الممكن الذهاب إلى العمل؟ هل يُسمح للمصانع بالعمل؟ هل نحن بحاجة إلى المرور بمركز حجر صحي رسمي عند الوصول، أم يمكننا أن نمارس العزل الذاتي؟
- التأثير على الاقتصاد وسبل عيشنا. هل يتأزم وضع الشركات إلى حدّ الإفلاس؟ هل يمكن مواصلة توريد السلع والخدمات الأساسية؟ هل تتاح فرص عمل؟ إلى متى يطول أمد الأزمة؟
- التبعات على حياتنا. هل سنتمكن من تجنب العدوى؟ هل أحباؤنا بأمان؟ هل نستأنف التدريب للحدث الرياضي الذي كنا نستعد له؟ هل ما زال بوسعنا الحصول على درجات جامعية بعد إغلاق العديد من المدارس وإلغاء الامتحانات؟
ملايين الأسئلة تتزاحم في أذهاننا، لتفرض حالة ضغط معيشي خلال الأزمة الراهنة.
هناك حقيقتان: عدم السيطرة على الفيروس يعني فقدان حياة الآلاف. وإذا كانت محاولات القضاء على الوباء تدمر اقتصاداتنا، فإن هذا يعني معاناة أشد خطورة في المستقبل.
أثر إجراءات العزل المنزلي وتوقّف الأعمال على معدلات الاستهلاك والنشاط الاقتصادي
إننا نستخلص نتائج تطبيق حالة العزل المنزلي وتوقّف الأعمال في دول مثل الصين وإيطاليا وتدريجياً في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث يشهد النشاط الاقتصادي تراجعاً غير مسبوق. ويقتصر التسوّق على الضروريات. وينقطع الناس عن السفر وشراء السيارات.
ونتوقّع أن يؤدي ذلك أيضاً إلى اختفاء ما نسبته 40 إلى 50 بالمائة من سلوكيات الإنفاق الاستهلاكي.1 ففي حالات الركود، يبتعد الناس عن المشتريات التي يمكن تأجيلها (مثل السيارات والأجهزة)، ويحرصون على المدخرات تحسباً لتفاقم الأزمة. وما ميّز جائحة فيروس كورونا المستجد عن سابقاتها أن الناس لا ينفقون على المطاعم والسفر والخدمات المماثلة الأخرى، وهي نفقات كانت تنخفض في العادة ولكنها لم تصل أبداً إلى نقطة الصفر.
ويُترجم انخفاض الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 40 إلى 50 في المائة إلى انخفاض نسبته 10 في المائة تقريباً في الناتج المحلي الإجمالي – ناهيك عن تداعيات المستوى الثاني والمستوى الثالث. ولا يقتصر هول هذه التداعيات على كونها غير مسبوقة في التاريخ الحديث وحسب، بل أيضاً لكونها حدثت بصورة مباغتة غير محسوبة.
وقد توافرت لنا بعض الأدلة الواقعية على حدوث صدمة اقتصادية على هذا النطاق، مثل الانكماش الاقتصادي المرتبط بـكوفيد-19 في الصين، والمؤشرات المبكرة في ”البيانات عالية التردد“ في الولايات المتحدة الأمريكية مثل الإنفاق باستخدام بطاقات الائتمان.
وكلما طالت فترة العزل المنزلي وتوقّف الأعمال، اشتدت وطأة الآثار السلبية على حياتنا. وحتى نتصور ما يعنيه هذا للأشخاص في مناطق العزل المنزلي وتوقّف الأعمال، تخيل سائقي سيارات الأجرة الذين لا يُسمح لعملائهم بارتياد الشوارع، والطهاة المحترفين الذين اضطرت مطاعمهم إلى الإغلاق، ومضيفات شركات الطيران المتوقفة عن العمل لعدة شهور. ومع اعتماد 25 في المائة من الأسر الأمريكية على الراتب الشهري، وعدم قدرة 40 في المائة من الأمريكيين على تغطية نفقات غير متوقعة بقيمة 400 دولار بدون اقتراض، فإن تأثير إطالة عمليات العزل المنزلي وتوقّف الأعمال يكون كارثياً، على أقل تقدير، لعدد كبير من الأفراد.
ولا يمكن أن يكون الحلّ هو أن نتقبل فرضية أن يستنزف الوباء نظام الرعاية الصحية، وأن يودي بحياة الآلاف، إن لم يكن الملايين. ولكن هل يتمثل الحل في التسبب في معاناة إنسانية أكبر من خلال تدمير الاقتصاد؟
تبديد مخاوف الأزمة
البشر نوعان أمام أزمة تنطوي على درجة عالية من انعدام اليقين؛ إما الجمود، أو التسرّع في إيجاد حلول بسيطة مطمئنة، فيقول لنفسه ”سوف تختفي هذه المشكلة بالسرعة التي ظهرت بها، تماماً مثل الإنفلونزا السنوية“. وتتعاظم تحديات فيروس كوفيد-19 في هذا الصدد لأن غالبية المصابين قد يشعرون بأعراض طفيفة فقط، أو قد لا يشعرون بها على الإطلاق. إنه عدو غير مرئي وخبيث. يجب أن نحاول أن نجابه عدم اليقين بالتروي والتفكير في الحلول من خلال تصوّر عدد محدود من السيناريوهات التي يمكن أن تتطور.
نقترح توصيف تأثير كوفيد-19 على الاقتصاد العالمي من خلال التركيز على بُعدين اثنين يساعدان في تحديد نتائج الأزمة علينا جميعاً:
- الأثر الاقتصادي لانتشار الفيروس: خصائص الفيروس والمرض الذي يتسبّب به، مثل طرق انتقال العدوى، ومعدلات الإصابة، ومعدلات الوفيات، واستجاباتالصحة العامة مثل إجراءات الحجر المنزلي وتوقّف الأعمال، وحظر السفر، والتباعد الجسدي، وإجراء الاختبارات، وتعقّب المخالطة، والقدرة على توفير الرعاية الصحية، وتوفير اللقاحات، وتحسين سبل العلاج.
- التبعات الاقتصادية للآثار غير المباشرة للاستجابات على صعيد الصحة العامة، مثل ارتفاع نسبة البطالة، وإغلاق شركات الأعمال، وإخفاق الشركات، والتخلف عن سداد القروض، وانخفاض أسعار الأصول، وتقلبات السوق، وهشاشة النظام المالي. تضاف إلى ذلك الاستجابات على صعيد السياسات العامة للتخفيف من هذه الآثار السلبية، مثل سياسات منع تزايد حالات الإفلاس، ومساندة العمال المتغيبين عن العمل، وحماية النظام المالي، واستمرارية القطاعات الأكثر تأثراً.
من حيث انتشار الفيروس والاستجابات على صعيد الصحة العامة, نشهد حالياً ثلاثة نماذج من التدخلات والنتائج:
- استجابات قوية على صعيد الصحة العامة للسيطرة على الانتشار ضمن الدولة الواحدة في غضون شهرين إلى ثلاثة أشهر، وفي الخفض التدريجي والمتسارع لإجراءات لتباعد الاجتماعي (أسوة بالصين وتايوان وكوريا وسنغافورة).
- نجاح استجابات الصحة العامة في البداية، ولكن يجب أن يستمر التباعد الاجتماعي (إقليمياً) لعدة أشهر إضافية لمنع عودة الفيروس.
- تخفق الاستجابات على صعيد الصحة العامة في السيطرة على انتشار الفيروس لفترة طويلة من الوقت، ربما إلى أن تتوافر اللقاحات، أو إلى أن تُكتَسب المناعة الجماعية أو ما يُعرف بمصطلح “مناعة القطيع”.
في ما يتعلق بالآثار غير المباشرة والاستجابات على صعيد السياسات العامة, نتوقع ثلاثة مستويات محتملة من الفعالية:
- انعدام الفعالية: تتطور ديناميكيات الركود تدريجياً ويعمّ الإفلاس والتخلف عن سداد القروض على نطاق واسع. وتزايد احتمالات اندلاع أزمة مصرفية.
- الفعالية الجزئية: تُعَوِّض الاستجابات السياسية الضرر الاقتصادي إلى حد ما. ونتفادى الأزمة المصرفية. ولكن يؤدي ارتفاع معدلات البطالة وتوقّف الأعمال إلى كبح فرص الانتعاش الاقتصادي.
- الفعالية العالية: تحول الاستجابات السياسية دون إلحاق ضرر جذري بالاقتصاد. وبعد السيطرة على الفيروس، يعود الاقتصاد إلى مستويات ما قبل الأزمة ويكتسب زخماً، وفق ما تطرحه أساسيات الاقتصاد.
إذا جمعنا بين هذه النماذج الثلاثة لانتشار الفيروس ومستويات فعالية السياسات الاقتصادية الثلاثة، نحصل على تسعة سيناريوهات للعام المقبل أو ما بعده (الشكل 2).
نعتقد أن الكثيرين يتوقعون حالياً أن يتحقق أحد السيناريوهات التي تمّ تظليلها في الرسم البياني 2 أي أ1-أ4. في كل من هذه السيناريوهات، تتم السيطرة على انتشار فيروس كوفيد-19 في نهاية المطاف، ويتم تجنب الضرر الاقتصادي الهيكلي الكارثي. تصف هذه السيناريوهات المتوسط العالمي، لكنها ستختلف حتماً بحسب البلد والمنطقة. لكن كل هذه السيناريوهات الأربعة تؤدي إلى عمليات تعافٍ على شكل حرف V أو حرف U.
ويمكن أيضاً تصوّر سيناريوهات أكثر حدة، وبعضها قيد المناقشة (ب1-ب5). لا يمكن للمرء أن يستبعد إمكانية تحقق ما يسمى بنظرية ”البجعة السوداء“، حيث يستفحل الفيروس ويلحق الضرر الهيكلي بالاقتصاد لمدة عام إلى أن يتوفر اللقاح على نطاق واسع، ويرافق ذلك نقص في الاستجابات السياسية لمنع الإفلاس والبطالة والأزمة المالية على نطاق واسع. سيؤدي هذا إلى مسار اقتصادي طويل على شكل حرف L أو W. ومع تزايد عدد الحالات الجديدة بشكل كبير في العديد من البلدان في أوروبا والولايات المتحدة، لا يمكننا استبعاد هذه السيناريوهات الأكثر حدة في الوقت الحالي.
ونظراً إلى قلة المعلومات المتوافرة لدينا حول احتمال وجود سيناريوهات أكثر حدة، فإننا نركز على الأربعة الأكثر وضوحاً في الوقت الحالي. وخلال الأسبوع المقبل، نضيف اتساعاً وعمقاً إلى وجهة النظر هذه، من خلال العمل عن كثب مع ”أكسفورد إيكونوميز“ على وضع العديد من سيناريوهات الاقتصاد الكلي لكل دولة، وللعالم بأسره.
السياق الواقعي: ما هي التطورات المحتملة
إذا أسعفها القليل من الحظ، سوف تشهد الصين تباطؤاً حاداً، لكنها سرعان ما ستستأنف نشاطها بالمستوى الذي كان عليه قبل ظهور الأزمة. وفيما تشير التوقعات إلى احتمال انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ في الربع الثاني من العام 2020، بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها نوعاً ما في بكين وشنغهاي ومعظم المدى الكبرى الواقعة خارج مقاطعة هوباي. ووفقاً لهذا السيناريو، لن يسجّل الناتج المحلي الإجمالي المزيد من النمو على الإطلاق في العام 2020، خلافاً لما توقعناه قبل ثلاثة أشهر؛ أي أن تصل نسبة النمو إلى 6%. ولكن الاقتصاد الصيني سيتّبع تدريجياً بحلول العام 2021 المسار الذي كان يسلكه قبل الأزمة على الرغم من تأثره سلباً بالتطورات في بقية دول العالم.
ووفق هذا السيناريو، ستتمكن أوروبا والولايات المتحدة الأميركية من السيطرة على الفيروس بفعالية بفضل توقف النشاط الاقتصادي لمدة شهرين إلى ثلاثة أشهر. وستساهم السياسات المالية والنقدية الجديدة في الحدّ من الضرر الاقتصادي وتأخير انتقال الفيروس نوعاً ما، ما سيؤدي إلى انتعاش الاقتصاد بعد احتواء الفيروس في نهاية الربع الثاني من العام 2020. وبالتالي، ينطبق السيناريو أ3 على أوروبا والولايات المتحدة الأميركية (الشكل 3).
وحتى إن تحقّق هذا السيناريو التفاؤلي، قد تشهد جميع الدول في الربع الثاني من العام 2020 تراجعاً حاداً وغير مسبوق في الناتج المحلي الإجمالي. وتجدر الإشارة إلى أن الإنفاق الاستهلاكي في الأنظمة الاقتصادية الأكثر تطوراً يمثل حوالي ثلثي الاقتصاد، ويشكل الإنفاق التقديري غير النفعي ما يناهز نصف هذه النسبة. وتشير البيانات الآنية إلى أن الإنفاق على السلع المعمّرة، بما في ذلك السيارات، في المناطق التي تطالها إجراءات العزل المنزلي والإقفال العام قد يتراجع بنسبة تتراوح بين 50 و70 في المائة، وأن الإنفاق على رحلات الطيران والتنقل قد يتقلص بنسبة 70 في المائة تقريباً فيما قد ينخفض الإنفاق على الخدمات، كالمطاعم، بنسبة 50 إلى 90 في المائة في المدن الملتزمة بالإجراءات. وبشكل عام، وكما ذكرنا آنفاً، قد يهبط الانفاق الاستهلاكي التقديري فجأة بنسبة قد تصل إلى 50 في المائة في المناطق الملتزمة.
ومع أن الإنفاق الحكومي المتزايد قد يساهم في التعويض عن بعض الآثار الاقتصادية، إلا أنّه من المستبعد أن ينجح في التعويض عن هذه الآثار بالسرعة الكافية أو بشكل كامل. وبحسب تقديراتنا، قد يسجل الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة تراجعاً في الربع الثاني من العام 2020 بنسبة 25 إلى 30 في المائة، مُحتسباً على أساس سنوي، وقد تسجل الاقتصادات الكبرى في منطقة اليورو أرقاماً مشابهة، بعد انتهاء الأزمة وتعود الأمور إلى مجاريها. ومن باب المقارنة التوضيحية، نشير إلى أنّ الأزمة المالية في العامين 2008-2009 أدّت إلى أكبر تراجع ربع سنوي للناتج المحلي الإجمالي في الربع الأخير من العام 2008، بلغت نسبته 8.4%، محتسبة على أساس سنوي. ما يعني أن وتيرة التراجع الناجمة عن الأزمة الحالية ستتخطّى بأشواط نسب التراجع التي عرفتها جميع حالات الركود منذ الحرب العالمية الثانية (الشكل 4).
النسخة غير المتفائلة بالمستقبل
من المحتمل طبعاً ألا تنجح الدول في السيطرة على الفيروس بفعالية أو في التخفيف من الضرر الاقتصادي الناتج عن الجهود الرامية إلى الحدّ من انتشاره. وفي هذه الحالة، سوف ترسم ملامح التوقعات الاقتصادية للعام 2020 وما بعده بمزيد من السلبية.
وإذا تحقّق هذا السيناريو التشاؤمي، تتعافى الصين من الأزمة بوتيرة أبطأ وقد تواجه موجة ثانية من فيروس كورونا في بعض المناطق. وربما تتضرّر الصين أيضاً من تراجع صادراتها إلى بقية دول العالم، ويشهد اقتصادها انكماشاً لم يسبق له مثيل.
ومن المحتمل أن يؤدي هذا السيناريو أيضاً إلى استفحال الوضع في أوروبا والولايات المتحدة. فقد تفشل هذه الدول في احتواء الفيروس في غضون ربع عام وتضطر إلى فرض الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي طيلة الصيف، ما قد يتسبب في تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 35 و40 في المائة في الربع الثاني، محتسباً على أساس سنوي. وقد تسجل الاقتصادات الكبرى في أوروبا أداءً مماثلاً. وقد تفشل السياسات الاقتصادية في الحؤول دون ارتفاع معدل البطالة وحالات إقفال الأعمال، ما يؤدي إلى تباطؤ التعافي الاقتصادي حتى بعد احتواء الفيروس. وفق هذا السيناريو القاتم، قد لا يستعيد نمو الناتج المحلي الإجمالي مستواه الذي كان عليه قبل ظهور وباء كورونا إلا بعد مرور أكثر من سنتين، ما يرجّح كفة الميزان لصالح السيناريو أ1 في أوروبا والولايات المتحدة (الشكل 5).
وفق هذا السيناريو، سيكون وقع الأثر الاقتصادي غير مسبوق على المنتمين إلى اقتصادات متطورة. أمّا الدول النامية التي سبق أن واجهت أزمات مرتبطة بالعملة فقد عاشت تجارب بهذا الحجم.
ليس هدفنا من كتابة هذا التقرير أن نتوقع أنّ هذا ما سيحصل، بل أن نوجّه دعوة إلى التحرك من أجل اتخاذ التدابير الضرورية لوقف انتشار الفيروس والحدّ من ضرره على الاقتصاد بأسرع ما يمكن. حتى هذه اللحظة، لم تصدر الدول الأوروبية والولايات المتحدة سياسات عامة صارمة كفيلة باحتواء الفيروس على نحو فعّال. وإذا لم نتحرك سريعاً لكبح جموح الفيروس، سيتحول احتمال حصول دمار اقتصادي ناجم عن الإقفال العام المطوّل إلى واقع ملموس وسيكون لذلك تداعيات هائلة على حياتنا ومعيشتنا.
الحفاظ على حياتنا وسبل عيشنا
لكي نتجاوز معضلة الحفاظ على حياتنا من دون القضاء على سبل عيشنا، علينا أن نجد وسائل تضمن فعالية إجراءات العزل والإغلاق العام من أجل الحدّ من انتشار الفيروس بأسرع وقت ممكن. وتُقاس فعالية إجراءات العزل والإغلاق العام بقدرتها على السيطرة على انتشار فيروس كوفيد-19.
ولقد أثبتت دول شرق آسيا أنّ هذا الهدف قابل للتحقيق من خلال اتخاذ إجراءات صارمة لعزل المدن ومراقبة تحركات السكان. وحتى هذه اللحظة، تبقى هذه الإجراءات في أوروبا والولايات المتحدة أقلّ صرامة وفعالية. وإذا أردنا أن نقطع دابر فيروس كورونا، علينا أن نتحرك بحزم.
لذلك، يجب أن تكون الحلول الهادفة إلى معالجة هذه المعضلة في العالم حلولاً فعالة، سواء أتمكّنا من السيطرة بالكامل على انتشار الفيروس والحؤول دون عودته (قبل ابتكار اللقاحات أو العلاجات المناسبة) أم عجزنا عن احتواء الفيروس بالكامل واضطررنا إلى الاستمرار في تطبيق التدخلات لبعض الوقت. في كلتا الحالتين، علينا أن نجد الوسائل المناسبة للحفاظ على حياتنا وسبل عيشنا.
في هذا الإطار، نقترح التحرك بسرعة أكبر لوضع بروتوكولات سلوكية شاملة وواضحة تسمح للسلطات المعنية بالتخفيف من بعض إجراءات العزل والإغلاق الشاملة التي تضيق علينا الخناق حالياً. ولا يمكن أن تؤدي هذه البروتوكولات الغرض المرجوّ منها إلا إذا وضعنا أيضاً آليات إنفاذ مقبولة للبروتوكولات المذكورة وإلا وجدنا أنفسنا مضطرين إلى فرض مطالب على الناس غير مقبولة اجتماعياً.
بروتوكولات السلوك
هذه البروتوكولات مبادئ توجيهية تنظم كيفية إدارة الأعمال وتوفير الخدمات الاجتماعية في حالات الأوبئة. وقد بدأت بعض الدول بتطبيق جزء من هذه البروتوكولات، فهل يمكن أن يعتمدها لاحقاً عدد أكبر من الدول؟
- يعمل مقدّمو الرعاية الصحية الشجعان في مستشفيات يتفشى فيها الفيروس ويخضعون لقواعد صارمة ترعى كلّ جوانب تحركاتهم ومهامهم وسلوكياتهم من أجل الحفاظ على سلامتهم وسلامة مرضاهم. هل يمكن أن تستمر الأعمال في متجركم بأمان في حال تطبيق قواعد مماثلة؟
- في المصانع الصينية التي تعتمد على التقنيات المتطورة، يتوجب على كلّ شخص من دون استثناء الخضوع لفحص الكشف عن فيروس كوفيد-19. ما هو شعوركم لو صعدتم على متن طائرة اليوم وأنتم تعلمون أنّ كلّ راكب وكلّ فرد من أفراد الطاقم وكلّ عامل صيانة موجود على متن الطائرة قد خضع للفحص وجاءت النتيجة سلبية؟
- قرر أصحاب بعض المطاعم توصيل الطلبيات إلى المنازل، فغيّروا نماذج وبروتوكولات العمل من أجل التكيف مع انتشار الفيروس. هل يمكنكم إدارة أعمالكم الخدماتية بأمان من خلال تطبيق بروتوكولات جديدة؟
من الأهمية بمكان ألا يطغى على هذه البروتوكولات الطابع العمومي والشمولي. اليوم، تطبّق معظم الدول إجراءات العزل والإغلاق العام بشكل موحد على الجميع وفي كلّ مكان، بغض النظر عن الاختلاف في درجات مخاطر الإصابة بالفيروس. تخيلوا لو تمكّنا من تطبيق مجموعة مختلفة من البروتوكولات بمستويات متفاوتة من الصرامة بحسب درجة الخطر في كلّ مدينة وكلّ منطقة وكلّ حيّ.
تقنياً، هذا النوع من البروتوكولات المرنة ممكنٌ. فالتقنيات الحديثة وتحليلات البيانات تساعدنا على تتبّع وتوقّع مستويات التعرض لخطر الإصابة في المناطق ولدى الشرائح السكانية غير المحصنة. ويمكن تكييف البروتوكولات والتدخلات الصحية العامة وفق المتغيرّات من أجل توفير الحماية أينما ومتى دعت الحاجة.
وبفضل هذا النوع من البروتوكولات، يمكن تخفيف صرامة إجراءات العزل المنزلي والإغلاق العام في مزيد من الأماكن ولعدد أكبر من الناس بوتيرة أسرع، مع المحافظة على فعالية التدخلات الصحية العامة لكبح انتشار الفيروس.
آليات الإنفاذ المقبولة
هذه مهمة أصعب. كيف نقنع الجميع بتقبل عواقب وضع هذه البروتوكولات وتطبيقها؟ وهنا نجد أن الجوانب الحساسة عديدة؛ منها الحريات الشخصية والحق في الخصوصية والحق في الوصول العادل إلى الخدمات. في الواقع، ما من إجابات موحّدة لما يتعلق بهذه المواضيع لأن مستوى حساسية كلّ منها يختلف بين دولة وأخرى، فضلاً عن وجود اختلافات كبيرة على صعيد المعايير والسلوكيات المقبولة اجتماعياً. لذلك، يتعين على الناس في كلّ بلد العمل معاً لإيجاد سبل إنفاذ بروتوكولات سلوكية تتلاءم مع وضعهم وظروفهم الخاصة. ولا يخطئن أحد: لن تشكل المعايير الاجتماعية والمجتمعية السائدة ما قبل فيروس كوفيد-19 نقطة الانطلاق، بل سيُعتدّ بإجراءات العزل الشاملة المطبقة حالياً في الكثير من الدول حول العالم.
في هونغ كونغ، تجري الحكومة فحص الكشف عن فيروس كوفيد-19 لجميع الوافدين إلى البلاد. وقررت إجازة العزل المنزلي الذاتي للمسافرين القادمين الذين لا تظهر عليهم أيّ أعراض. ولكن نظراً إلى ارتفاع خطر انتقال العدوى، تلزم الحكومة هؤلاء الأشخاص بارتداء سوار إلكتروني لرصد تحركاتهم. وتطالب الحكومة الناس أيضاً بالتقيد بالإرشادات وتهددهم بالسجن المطوّل في حال المخالفة.
سوف يتوجب علينا وضع وتطبيق بروتوكولات تسمح لنا بالتخلي بأسرع وقت ممكن عن بعض التدابير الأكثر صرامةً حيثما يكون ذلك ممكناً. ولكي يتحقق ذلك، يتعين على كلّ حكومة إيجاد سبل فعالة وفي الوقت نفسه مقبولة اجتماعياً لإنفاذ هذه التدابير والبروتوكولات الجديدة.
الحاجة إلى تنفيذ خطة فورية
سوف نواصل تحديث السيناريوهات التي وضعناها، ونأمل أن نتمكن في الأسابيع المقبلة من تكوين صورة أوضح عن ملامح المنحى المحتمل الذي سيتخذه العالم. ولكن بعض الأمور اتضحت بالفعل:
- قد تكون هذه الصدمة الأقوى على الإطلاق التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي في تاريخنا المعاصر.
- من المحتمل جداً أن تتعرض حياتنا وسبل معيشتنا لأضرار دائمة لا تزول مع زوال الأزمة.
- يتوجب علينا اتخاذ الإجراءات المناسبة للسيطرة على انتشار الفيروس وإنقاذ حياة الناس، لكن يتعين علينا أيضاً التحرك من أجل الحفاظ على سبل عيشنا.
- قد تساعدنا البروتوكولات السلوكية والتدخلات المصممة بحسب الاحتياجات على إزالة إجراءات العزل في وقت أبكر ممّا هو متوقع والسماح لمعظم الناس باستئناف عملهم ومعاودة حياتهم الطبيعية.
وعلى حدّ قول المستشارة أنجيلا ميركل حين توجهت لمواطني دولة ألمانيا الأسبوع الماضي وحذت حذوها دول أخرى: تعتمد قدرتنا على الخروج من هذه الأزمة على سلوك كلّ واحد منّا في الدرجة الأولى. إنّ إجراءات العزل الأولية والفورية ضرورية للحدّ من انتشار الفيروس وإنقاذ حياة الناس. ونعتقد أنه بالإمكان رفع قيود العزل تدريجياً وفي وقت أبكر في حال وضعت البروتوكولات المناسبة والتزم الناس بتطبيقها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكننا الإسراع في وضع هذه البروتوكولات وهل يمكننا إقناع المجتمع بتطبيقها؟ إذا نجحنا في ذلك، سنتمكن على الأرجح من السيطرة على الفيروس والتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية التي لا مفرّ منها وحصر تداعياتها والحفاظ على حياتنا وسبل عيشنا.
هذه هي الضرورة الحتمية في عصرنا هذا.