كيف تؤثر الثقافة المؤسسية في مستقبل المشروعات الجديدة؟

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

وغالبًا ما تزدهر روح الشركات الناشئة في المراحل الأولى من المبادرات المؤسسية، خاصة عندما يكون الفريق صغيرًا ومنسجمًا. لكن مع توسّع هذه المبادرات وزيادة عدد الموظفين إلى المئات أو الآلاف، يصبح من الصعب الحفاظ على نفس الثقافة، وقد تبدأ في التآكل تدريجيًا. ولهذا، من الضروري أن يعمل القادة بشكل منهجي على بناء ثقافة تنظيمية قوية ومستقرة، تراعي طبيعة البيئة المؤسسية الأكبر. فالتغاضي عن هذه المسألة قد يؤدي إلى نتائج سلبية، إذ تشير الأبحاث إلى أن نحو 26% من حالات فشل المشاريع الناشئة داخل الشركات الكُبرى تعود إلى مشكلات ثقافية.

رغم أن كثيرًا من القادة يعرفون جيدًا مدى أهمية بناء ثقافة قوية داخل مشروعاتهم الجديدة، إلا أنهم في كثير من الأحيان يترددون في اتخاذ خطوات واضحة لترسيخها، خوفًا من أن يؤثر ذلك على سرعة النمو. لكن ما لا يدركه البعض هو أن إهمال هذا الجانب قد يكلّف المشروع الكثير لاحقًا. وللتعمق أكثر في كيفية نجاح بعض القادة في بناء ثقافة صحية أثناء توسّع مشروعاتهم، قامت ماكنزي بدراسة مئات التجارب العملية، كما تحدثت مع عدد من الرؤساء التنفيذيين لمشروعات جديدة من مختلف دول العالم (راجع العمود الجانبي بعنوان: نبذة عن المقابلات). وتوصلت النتائج إلى أن هناك عناصر أساسية لا غنى عنها في أي خطة نمو ناجحة، مثل غرس قناعة حقيقية داخل الفريق بأهمية المشروع، وتقديم أمثلة حقيقية يُحتذى بها، واستخدام طرق فعالة لتشجيع السلوك الإيجابي، بالإضافة إلى تطوير مهارات الفريق وبناء قدراتهم باستمرار. فهذه العناصر ليست مجرد تفاصيل جانبية، بل هي ما يمنح المشروع روحًا حقيقية تساعده على التوسع دون أن يفقد شخصيته.1

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

وفي هذا السياق، فإن بناء ثقافة صحية مهمة صعبة حتى في المشروعات الصغيرة والمستقلة، فما بالك حين يكون المشروع تابعًا لشركة كبيرة؟ في هذه الحالة، يحتاج القادة إلى أن يراعوا البيئة المحيطة بهم بعناية، لأن طبيعة العمل داخل المؤسسات الكُبرى تختلف كثيرًا عن غيرها. ولهذا السبب، يستعرض هذا المقال الفوائد التي يمكن أن تحققها الثقافة الجيدة في مثل هذه المشروعات، ويقدّم نصائح واضحة وعملية تساعد المؤسسين والمديرين في بناء بيئة عمل قوية تضمن استمرارية المشروع وتحقيق قيمة حقيقية تدوم على المدى الطويل.

الثقافة الصحية... سرّ القوة الخفية للمشروعات

تُثبت التجارب أن الشركات الكبيرة التي تنجح في بناء ثقافة عمل صحية، أي ثقافة تقوم على سلوكيات واضحة وعقليات إيجابية ومعتقدات مشتركة تنظم طريقة العمل والتعامل اليومي بين الموظفين،2 تتفوّق بشكل كبير على الشركات التي تفتقر إلى هذه الثقافة. ويظهر هذا التفوّق من خلال مؤشرات ملموسة، أبرزها:

  • العائد الإجمالي للمساهمين: أظهرت أبحاث ماكنزي أن الشركات التي تتميز بثقافة عمل قوية وتأتي ضمن الربع الأعلى تحقق عوائد للمساهمين تعادل ثلاثة أضعاف ما تحققه الشركات في الربع الأدنى.
  • الأرباح قبل احتساب الفوائد والضرائب والاستهلاك وإنخفاض قيم الأصول: الشركات التي تركز على الصحة التنظيمية، أي قدرتها على توحيد العاملين حول رؤية واستراتيجية مشتركة، تحقق زيادة بنسبة 18% في الأرباح خلال عام واحد فقط.3
  • العائد على رأس المال المستثمر: تُعد الثقافة الصحية مؤشرًا قويًا ومباشرًا على الأداء المالي على المدى الطويل، حيث تحقق الشركات ذات الثقافة الجيدة عائدًا على رأس المال المستثمر يعادل 2.5 مرة ما تحققه الشركات ذات الثقافة الضعيفة.

صحيح أن المشروعات الجديدة داخل الشركات الكُبرى يمكن أن تحقق أداءً أفضل إذا امتلكت ثقافة صحية، تمامًا كما هو الحال في الشركات الكبيرة، إلا أن بناء هذه الثقافة في هذا النوع من المشروعات غالبًا ما يكون أصعب مما يبدو. فكثير من القادة يعتقدون أن دورهم في الثقافة يقتصر على أن يكونوا قدوة، دون أن يدركوا أن بناء الثقافة يتطلب جهدًا مستمرًا وخططًا مدروسة، وليس مجرد تصرفات شخصية. والمشكلة الأكبر أن البعض يرى الثقافة أمرًا ثانويًا أو غير ضروري مقارنة بالتحديات العاجلة للعمل، فيؤجلونها أو يتجاهلونها. لكن الواقع أن بناء ثقافة جديدة من البداية ليس بالأمر السهل، فهو يحتاج إلى أدوات ومهارات قد لا تكون مألوفة لكثير من القادة في المؤسسات الكُبرى. وفي كثير من الحالات، يشعر القادة الذين يتولون قيادة مشروع جديد داخل شركتهم بأنهم لا يملكون المهارات أو الصلاحيات الكافية لتأسيس ثقافة جديدة تتماشى مع متطلبات العصر، وتبقى في الوقت نفسه مرتبطة بجذور الشركة الأم وهويتها. ولهذا، فإن بناء ثقافة ناجحة يتطلب وعيًا عميقًا بدورها في نجاح المشروع، واستعدادًا فعليًا لبذل جهد حقيقي في تشكيلها ورعايتها مع مرور الوقت.

وعند التفكير في كيفية بناء ثقافة عمل قوية والمحافظة عليها أثناء التوسع السريع، يمكن للمشروعات الجديدة داخل الشركات الكُبرى أن تستلهم الكثير من تجارب الشركات الناشئة المستقلة. فمن خلال تحليل مئات الشركات الناشئة، إلى جانب مقابلات مع رؤساء تنفيذيين ومؤسسين لمشروعات جديدة داخل مؤسسات كُبرى، توصّلنا إلى مجموعة من الإرشادات التي يمكن أن تساعد القادة في بناء بيئة عمل مميزة في مشروعاتهم الجديدة. وهذه التوجيهات لا تقتصر على المبادئ العامة، بل تقدم خطوات عملية تساعد في مواجهة التحديات اليومية، وبناء ثقافة تدعم النمو والاستمرارية منذ البداية.

ابدأ بتحديد ما يميز ثقافتك... واجعل الجميع يسير في الاتجاه نفسه

في مقابلة أجريت معه مؤخرًا، لخّص "بول تايلور"، الرئيس التنفيذي لشركة "هاب"، أهمية الثقافة التنظيمية بكلمات بسيطة وواضحة. وتُعد "هاب" شركة برمجيات توفّر حلولًا ذكية تعتمد على تحليل البيانات، وتخدم مديري الاستثمارات وصناديق الأموال، وقد تأسست كمشروع مشترك بين خمس شركات كُبرى، من بينها مايكروسوفت. قال تايلور: "استطاع منافسونا تقليد منتجاتنا، لكنهم عجزوا عن تقليد ثقافتنا." وتوضح هذه العبارة أن الثقافة ليست ميزة عابرة، بل عنصر أساسي يصعب تقليده ويمنح المشروع طابعه الفريد.

حتى يتمكّن المشروع الجديد داخل الشركة من بناء ثقافة ناجحة، لا بد أن يدرك المؤسسون والقادة أن عليهم الانطلاق من أرضية ثابتة، وهي قيم الشركة الأم وممارساتها وطريقتها في العمل. فرغم أن هذه المشروعات تشبه الشركات الناشئة في أمور كثيرة، مثل سرعة التحرك، وروح الابتكار، والأسلوب المرن، إلا أنها لا تنمو في فراغ، بل تستمد قوتها من علاقتها بالشركة الأم. وهنا يكمن التحدي والفرصة معًا: كيف يمكن بناء ثقافة خاصة ومميزة، دون أن تنفصل عن هوية الشركة التي تنتمي إليها؟ لهذا، لا بد أن تعكس الثقافة الجديدة رؤية الشركة الأم وتتكامل معها، خاصة مع تطوّر المشروع واتساع نطاقه. فمع كل خطوة نحو التوسع، تزداد الحاجة إلى الحفاظ على هذا الانسجام، لأن غيابه قد يؤدي إلى ارتباك في التوجه، أو حتى فقدان للهوية. أما حضوره، فيمنح المشروع قوة إضافية تعزز استقراره ونموه بثقة (راجع العمود الجانبي بعنوان: الحفاظ على النسيج الثقافي للمؤسسة في ظل النمو المتسارع).

ولهذا السبب، لا يكفي أن تتماشى الثقافة الجديدة مع رؤية الشركة الأم، بل يجب أيضًا دعمها بشكل فعلي حتى تنجح وتنمو. ويمكن للقادة أن يوفّروا هذا الدعم من خلال وضع سياسات واضحة، وتخصيص الموارد، وإنشاء هياكل دعم تنظّم العمل وتوجّه الفريق. وبجانب ذلك، يستطيع قادة المشروع أن يستفيدوا من ثقافة الشركة الأم من خلال تقليد السلوكيات الناجحة فيها، ونقل بعض الممارسات التي أثبتت فعاليتها. وفي المقابل، لا بد أن يُظهر قادة الشركة الأم دعمًا حقيقيًا لقيم المشروع الجديدة، ويمنحوه المساحة الكافية لتكوين هويته الخاصة. فالعلاقة هنا تكاملية، يتبادل فيها الطرفان التأثير والدعم. ولضمان هذا التوازن منذ البداية، يجب أن يتواصل الطرفان بوضوح بشأن القيم الأساسية والتوقعات المشتركة، مع تحديد صلاحيات اتخاذ القرار بشكل دقيق يضمن وضوح الأدوار وتجنّب التعارض مستقبلاً.

وفي هذا الإطار، يحتاج كل مشروع جديد داخل الشركة إلى أن يحدد بوضوح كيف سيستفيد من قيم الشركة الأم عند بناء ثقافته الخاصة. فالمطلوب ليس أن ينسخ ثقافة المؤسسة حرفيًا، ولا أن يبدأ من الصفر، بل أن يجد توازنًا بين ما ورثه وما يريد أن يبتكره. فعلى سبيل المثال، أطلقت شركة عالمية مشروعًا في مجال القيادة الذاتية، واستفاد هذا المشروع من مبادئ الشركة الأم، مثل العمل الجماعي، والسعي المستمر للتطوير، والتفكير في النمو بطريقة متوازنة تراعي الأثر الاجتماعي والبيئي. في الوقت نفسه، أنشأ المشروع ثقافة خاصة به، تعتمد على السرعة، والمرونة، والتعاون بين الفرق المختلفة دون تعقيد في الإدارة. وقد ساعده هذا الأسلوب على مواكبة التغيّرات السريعة في السوق، واتخاذ قرارات بشكل أسرع. وهذا المثال يوضح أن المشروع الناجح هو من يعرف كيف يجمع بين خبرة الشركة الأم واحتياجاته الخاصة، ليصنع طريقه بأسلوب يناسب واقعه. فالثقافة القوية لا تُبنى فقط بالقيم المكتوبة، بل بما يعيشه الفريق في تفاصيل العمل اليومية، وبما يشعر به من ثقة في أن تلك القيم تنطبق فعلًا على أرض الواقع.

ولتعزيز الترابط بين المشروع الجديد والشركة الأم، يمكن الاعتماد على أنشطة ثقافية مشتركة تجمع الموظفين من الجانبين في بيئة غير رسمية، مثل تخصيص يوم للقيم أو ورش عمل يشارك فيها الجميع. مثل هذه الفعاليات لا تقتصر على الترفيه أو بناء العلاقات فحسب، بل تساعد على خلق شعور بالهدف المشترك، وتسمح بتبادل الأفكار وتوضيح القيم التي تقوم عليها كل جهة. ومن المهم أيضًا تخصيص وقت منتظم للحوار حول الثقافة والقيم، من خلال اجتماعات أو استبيانات يشرف عليها قادة الفرق أو فرق الموارد البشرية. هذه اللقاءات قد تكون جزءًا من تقييم الأداء، أو جلسات منفصلة تُجرى مرة في السنة بهدف قياس مدى التزام الفريق بالقيم الأساسية. فكلما تم فتح المجال للنقاش والتغذية الراجعة، شعر الموظفون الجُدد والقدامى أنهم جزء من بيئة واحدة واضحة التوجه. وتكمن قوة هذه الخطوات في أنها تبني ثقافة ملموسة يشعر بها الجميع في تفاصيل العمل اليومية، بدلًا من أن تبقى مجرد شعارات معلقة على الجدران.

الثقافة القوية تجذب أفضل الكفاءات وتحتفظ بها

وخلال بناء ثقافة جاذبة تستقطب أفضل الكفاءات، تُظهر التجربة أن الثقافة الإيجابية والواضحة تعمل كالمغناطيس، فهي لا تجذب أصحاب المهارات العالية فحسب، بل تساعد أيضًا على بقائهم داخل المؤسسة. فالأشخاص غالبًا ما يبحثون عن بيئات تشبههم من حيث المبادئ والقيم، وينجذبون بطبيعتهم إلى الشركات التي تتوافق ثقافتها مع ما يقدّرونه شخصيًا.4 وقد أشار "بوريس غرويسبرغ" وزملاؤه في مقال نُشر بمجلة "هارفارد بزنس ريفيو" بعنوان "دليل القائد إلى الثقافة المؤسسية" (يناير - فبراير 2018) إلى أن التشابه بين قيم الفرد وقيم المؤسسة هو عنصر رئيسي في جذب الكفاءات. ولهذا، يصبح من الضروري أن تكون الثقافة محفّزة، وتوفّر الدعم والتمكين للموظفين، حتى يشعروا بأنهم جزء فعلي من بيئة تقدّرهم. وقد بيّنت أبحاث ماكنزي أن أكثر من 70% من الباحثين عن عمل حول العالم يعتمدون بشكل فعّال على توصيات موظفين حاليين عند بحثهم عن فرص وظيفية، مما يؤكد أن سمعة الشركة الداخلية تلعب دورًا كبيرًا في جذب أصحاب الكفاءة من خارجها.

ومن أجل جذب أفضل الكفاءات والاحتفاظ بها، يمكن للمؤسسين والقادة في المشروعات الجديدة داخل الشركات أن يكوّنوا فرق عمل تتوافق في معتقداتها وسلوكها مع قيم الشركة الأم، مع الحرص في الوقت نفسه على ضمّ أشخاص يمتلكون عقلية مرنة وسريعة الاستجابة، تناسب بيئة العمل التي تتّسم بالبساطة والسرعة، كما هو الحال في الشركات الناشئة. ومنح هذه المشروعات مساحة لبناء ثقافتها الخاصة من خلال أساليب توظيف مستقلة يُعد خطوة مهمة لتحقيق هذا التوازن. فوجود فريق متقارب في التفكير قد يساعد على سهولة التعاون، لكن نمو المشروع يحتاج إلى تنوّع حقيقي في الآراء والخبرات، وليس إلى تكرار النمط ذاته. ومن هنا، يمكن أن تسهم ممارسات التوظيف الشاملة، وبرامج تدريب الموظفين على مفاهيم التنوع، وخلق بيئة تقوم على التواصل المنفتح والاحترام المتبادل، في تقليل التحيّزات الخفية التي قد تعيق الابتكار، وتجعل الفريق ينظر إلى التحديات بزاوية ضيقة تفوّت عليه فرصًا مهمة للنمو.

ومن هذا المنطلق، يمكن لقادة الشركات أن يحوّلوا عملية التوظيف إلى أداة فعالة لبناء ثقافة قوية وجاذبة، وذلك عبر تصميم مقابلات تركز على مدى انسجام المتقدّمين مع القيم الأساسية، وليس فقط على المهارات التقنية. فعلى سبيل المثال، أقدمت شركة أوروبية بدأت كمزوّد خارجي لألواح الطاقة الشمسية على إطلاق مشروع جديد يهدف إلى مساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة والأسر في التكيّف مع التحول الكبير في قطاع الطاقة. ومع خطتها الطموحة لتوسيع الفريق من خلال توظيف أكثر من 500 شخص، صممت الشركة عملية توظيف دقيقة شملت مقابلة خاصة لتقييم مدى توافق المتقدمين مع الثقافة التنظيمية الجديدة. ولم تكتفِ بذلك، بل عمل قادة المشروع على صياغة هوية ثقافية مستقلة عن الشركة الأم، فاعتمدوا آليات اتخاذ قرار متعددة الخطوات لتشجيع التعاون والمسؤولية الجماعية. كما أطلقت الشركة مبادرة مميزة بتأسيس أكاديمية تدريب مخصصة للنساء في مجال تركيب الألواح الشمسية، بهدف تعزيز التنوع وزيادة عدد العاملين المهرة في هذا القطاع المتنامي. وقد أسهمت هذه الجهود في خلق بيئة عمل نابضة بالحيوية والانفتاح، يشعر فيها الجميع بأنهم جزء من رؤية أكبر وقصة ملهمة، حيث تتقاطع السرعة والابتكار مع قيم الاستدامة والتنوع والمسؤولية.

وبالاستمرار في الحديث عن جذب الكفاءات، نجد أن المشاريع التابعة للشركات الكُبرى تتمتع ببعض المزايا مقارنة بالشركات الناشئة التقليدية، من بينها امتلاكها لسمعة موثوقة وموارد مالية وتنظيمية أكبر. وتشير أبحاث ماكنزي إلى أن إشراك المتخصصين في استقطاب الكفاءات من داخل الشركة الأم في وقت مبكر يمكن أن يساعد هذه المشاريع على تجنب العديد من العثرات الشائعة عند وضع خطط الموارد البشرية. فعندما تشارك إدارة الموارد البشرية منذ البداية، يصبح من الممكن وضع معايير توظيف قائمة على النتائج، وتحديد العقبات المحتملة مبكرًا، والحصول على رؤية أوضح حول كفاءة عمليات التوظيف. ومع ذلك، لا تخلو المسيرة من التحديات، إذ تجد هذه المشاريع صعوبة في إقناع المطورين الأكثر تميزًا وأصحاب العقلية الريادية بالانضمام إليها. فالمشاريع التابعة، مهما بدت مبتكرة، يُنظر إليها في كثير من الأحيان على أنها مجرد امتداد للشركة الأم، في حين أن العديد من الكفاءات المتميزة تفضّل الانضمام إلى شركات ناشئة في "وادي السيليكون"، تتميز بسرعة نموها وأجوائها الحماسية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إيجاد طرق جديدة تجعل المشروع أكثر جاذبية، من خلال تقديم مزيج متوازن بين الابتكار والدعم المؤسسي.

خطوات عملية لبناء ثقافة قوية تولّد قيمة حقيقية

بناءً على ما رصدناه من تجارب عملية، يمكن للمؤسسين والقادة في المشاريع التابعة للشركات الكُبرى اتباع ثلاث خطوات بسيطة لبناء ثقافة عمل واضحة وقوية تدوم مع الوقت وتساعد على تحقيق نتائج حقيقية مع نمو المشروع.

الخطوة الأولى: تحديد المعتقدات الأساسية

ولأن أي ثقافة ناجحة تبدأ من الأساس، فإن الخطوة الأولى تتمثل في تحديد المعتقدات الجوهرية التي يستند إليها المشروع منذ اللحظة الأولى. هذا التحديد لا يساعد فقط في توحيد الرؤية بين أعضاء الفريق، بل يخلق أيضًا فهمًا مشتركًا للقيم التي تحكم طريقة العمل. ومن المهم أيضاً أن يشعر الفريق المؤسس أنه شريك فعلي في وضع هذه المعتقدات ومشاركتها، وإلا فلن يتقبل ثقافة المشروع أو يلتزم بها. في هذا الإطار، نجد أن شركة "سيركيولي" الألمانية، المتخصصة في تقديم أجهزة وخدمات تقنية صديقة للبيئة، وضعت ثقافتها التنظيمية في وقت مبكر جدًا، وتحديدًا خلال مراحل التوظيف الأولى. ووفقًا لرئيسها التنفيذي، شمل بناء هذه الثقافة كل ما يتعلق بطريقة تفاعل الفريق مع العملاء، مرورًا بأسلوبهم في تسويق الأثر البيئي الذي يقدّمونه. وبفضل وضوح المعتقدات وتعزيزها داخليًا، حرصت الشركة على توظيف أشخاص يتشاركون نفس العقليات والمبادئ، مما ساعد على توحيد أسلوب العمل مع الموردين وتعزيز روح الفريق داخل الشركة. ومن هنا يتضح أن تحديد القيم الأساسية من البداية لا يمنح المشروع وضوحًا فقط، بل يبني قاعدة صلبة للنمو والتماسك في المستقبل.

وبينما يُفترض أن تحافظ المشاريع التابعة على ثقافة عمل موحدة، إلا أنه من الطبيعي أن تتغير هذه الثقافة مع نمو الفريق وازدياد عدد الموظفين. في هذه المرحلة، يمكن للمؤسسين والقادة أن يلاحظوا ظهور بعض المشكلات المشتركة، خاصة بين الأفراد الذين لم يتم توظيفهم مباشرة من قبلهم. ولمواكبة هذا التغير الطبيعي، من المهم أن يعمل القادة على توضيح الرؤية العامة للمشروع منذ وقت مبكر، وأن يستمروا في فتح نقاشات منتظمة مع مختلف الفرق داخل الشركة، كما ينبغي أن يكون الجميع على تواصل فعّال من خلال مشاركة القصص والتجارب التي تجسد قيم المشروع، والحفاظ على الشفافية بين الأقسام. فهذه الخطوات لا تساعد فقط في ضبط مسار الثقافة، بل تجعلها حية ومترسخة رغم كل التغيرات التي قد تطرأ.

الخطوة الثانية: التركيز على القيادة

عند تشكيل فريق القيادة لمشروع جديد داخل الشركة، يصبح من الضروري اتخاذ قرار مهم بشأن ما إذا كان سيتم اختيار القادة من داخل المؤسسة أو من خارجها. وفي كثير من الحالات، يكون تعيين مدير تنفيذي أو مدير عام من خارج الشركة خيارًا ناجحًا بنفس قدر اختيار شخص من داخلها. بل تشير أبحاث ماكنزي إلى أن ما يقارب نصف المديرين التنفيذيين الذين يُصنفون ضمن أفضل 5% قد تم تعيينهم من خارج الشركات التي يقودونها. ومع ذلك، فإن تعيين قادة من خارج الشركة يتطلب تنسيقًا دقيقًا مع باقي أعضاء الفريق، حتى لا يحدث تضارب في الأسلوب أو فقدان للانسجام الداخلي. ومن هنا، ينبغي أن تتم هذه الخطوة بحذر لضمان التكامل بين الخبرات الجديدة وثقافة الفريق القائم.

وفي بعض الأدوار، يكون تعيين شخص من داخل الشركة خيارًا ذكيًا للغاية. فعلى سبيل المثال، المدير المالي الذي تتم ترقيته من الداخل يكون ملمًا مسبقًا بسياسات الشركة المالية وأنظمتها وإجراءاتها، مما يُمكنه من الاستفادة المباشرة من البنية التحتية الحالية دون الحاجة إلى وقت إضافي للتعلم أو التكيف. وبالمثل، إذا كان المشروع الجديد يتطلب الدخول في شراكات كُبرى أو إبرام اتفاقيات تجارية مع شركات ضخمة، فإن وجود قائد للإيرادات من داخل الشركة يتيح فرصة الاستفادة من العلاقات السابقة التي تم بناؤها مع هؤلاء العملاء. ومن خلال هذه الروابط الداخلية، يمكن للمشروع أن يحقق انطلاقة أسرع وأكثر ثباتًا، دون الحاجة إلى بناء الثقة من نقطة الصفر.

أما على الجانب الآخر، فعندما يكون الهدف من المشروع التابع هو تطوير تقنيات جديدة أو اعتماد أساليب عمل أكثر مرونة لتسريع الوصول إلى السوق، فإن تعيين قائد من خارج الشركة قد يكون هو الخيار الأمثل، إذ يمكن أن يضيف منظورًا جديدًا وخبرة متخصصة تفتقر إليها المؤسسة. وينطبق هذا النهج أيضًا على قسم الموارد البشرية، حيث تحاول بعض المشاريع الاعتماد على فرق الموارد البشرية القائمة لديها، إلا أن السياسات التقليدية المعمول بها في هذه الأقسام قد تُبطئ من وتيرة التوظيف أو تعرقل تطبيق نماذج جديدة ومبتكرة للمكافآت والتحفيز. وهنا تبرز أهمية وجود قائد متخصص في الموارد البشرية، سواء من داخل الشركة أو خارجها، يمتلك بعض الاستقلالية عن السياسات القديمة، مما يتيح له العمل بأسلوب أكثر مرونة وفعالية. فوجود مثل هذا الشخص يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في بناء فريق قوي بسرعة، مع الحفاظ على روح الابتكار والانطلاق.

وأخيرًا، يتوقف التوازن المثالي بين التعيينات الداخلية والخارجية على نوع الثقافة التي يسعى المشروع الجديد إلى بنائها. فكلما زادت نسبة التعيينات من داخل الشركة الأم، انعكس ذلك على المشروع بثقافتها وأساليبها المعتادة. أما إذا كانت الغاية هي تأسيس ثقافة مستقلة تحمل طابعًا مختلفًا وأسلوب عمل أكثر حداثة ومرونة، فإن زيادة عدد التعيينات من خارج الشركة يمكن أن تساهم بشكل فعّال في تحقيق هذا التوجه، وتمنح المشروع هوية جديدة تتماشى مع طموحاته.

الخطوة الثالثة: تعزيز السلوكيات الجيدة وتشجيعها

من الضروري، عند بناء ثقافة قوية داخل الشركات الناشئة التابعة، أن يكون القادة هم أول من يجسد هذه الثقافة في أفعالهم اليومية، وفيمن يختارونه للترقيات، وفي أسلوب تواصلهم سواء بالكلمات أو من خلال التصرفات. كما أن تشجيع السلوك الإيجابي لا يقل أهمية عن الإشارة الواضحة إلى السلوك غير المرغوب فيه، بغض النظر عن مرتكب ذلك السلوك. فجميع من في الفريق، من المديرين إلى الموظفين، يعملون معًا لتحقيق نفس الهدف؛ مما يتطلب التزامًا مشتركًا ومسؤولية جماعية للحفاظ على هوية الشركة. ويمكن للقادة أن يرسخوا هذه الثقافة من خلال أدوات ملموسة، مثل الوثائق الداخلية أو القصص التي تعبّر عن القيم، مع الحرص على احترام الاختلافات بين أعضاء الفريق، سواء في مواقعهم الجغرافية أو خلفياتهم أو أساليبهم في العمل. وبذلك، يمكن الحفاظ على ثقافة موحدة وخاصة تعكس روح المشروع الجديد، وتمنحه طابعًا مميزًا يعزز من تماسك الفريق وتحفيزه.


في نهاية المطاف، تبقى الأصالة في بناء الثقافة أمرًا لا يقبل التفاوض. فمحاولة اصطناع ثقافة أو فرضها بالقوة تؤدي غالبًا إلى تعطيل سير العمل والإضرار بسمعة المشروع الناشئ. أما الثقافة الحقيقية، التي تنبع من القيم الأساسية للشركة الأم وتُجسَّد بوضوح في كل تفصيلة من تفاصيل العمل، فهي قادرة على خلق بيئة صحية تدعم الموظفين وتعزز أداءهم. ومن خلال هذه الثقافة الأصيلة، لا يقتصر الأثر على الأفراد فحسب، بل ينعكس أيضًا على النتائج المالية، مما يمنح المشروع الناشئ فرصة للنمو السريع، ويُمكّن الشركة الأم من تحويله إلى كيان ناجح يحقق قيمة مستدامة على المدى الطويل.

Explore a career with us