ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com
ومن هذه الانطلاقة الفكرية، ينتقل النقاش إلى جوهر التساؤل الأبدي: لماذا ينجح قلة من القادة في بلوغ القمة، بينما يتعثر معظمهم في منتصف الطريق؟ فمعظم القادة يطمحون إلى أن يكونوا الأفضل، لكن قلّة قليلة فقط تتمكن من الوصول إلى ذلك الارتفاع الشاهق الذي يشبه تسلّق جبل "إيفرست". وهنا يبرز التساؤل الجوهري: ما الذي يفعله القادة الاستثنائيون بطريقة مختلفة؟ هذا السؤال شكّل محور البحث الذي قاده شركاء بارزون في "ماكنزي" أمثال كارولين ديوار، كيرت ستروفينك، سكوت كيلر، بالإضافة إلى فيك مالهوترا، في كتابهم الجديد بعنوان "المدير التنفيذي المناسب لكل زمان: فن إتقان دورات القيادة"، الصادر عن دار "سكريبنر" التابعة لـمجموعة "سايمون آند شوستر"، في أكتوبر 2025. ويستند هذا العمل إلى دراسة معمقة ومقابلات موسعة مع أكثر من مئتي رئيس تنفيذي من أبرز القادة حول العالم، استخلص المؤلفون من خلالها رؤى فريدة حول ما يميز هؤلاء الذين تمكنوا من بلوغ ذروة النجاح والمحافظة عليها. وفي حلقة خاصة من بودكاست ماكنزي، انضم المؤلفون الأربعة إلى المديرة التحريرية العالمية لوسيا راهيلي ليتحدثوا عن أبرز الدروس المفاجئة التي خرجوا بها من هذا البحث، وكيف غيّرت تلك التجربة فهمهم وممارستهم للقيادة ذاتها.
يُقدَّم بودكاست ماكنزي بإشراف مشترك من "لوسيا راهيلي" و "روبرتا فوسارو"، حيث يجمع البرنامج بين التحليل العميق والنقاش المتوازن حول أحدث القضايا في عالم القيادة والأعمال.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
أربع مراحل للقيادة
لوسيا راهيلي: صدر مؤخرًا أحدث كتب ماكنزي، وهو متاح الآن في مختلف متاجر الكتب، ويحمل عنوان "المدير التنفيذي المناسب لكل زمان: فن إتقان دورات القيادة"، ويقول "سكوت كيلر"، الشريك الإداري في ماكنزي وأحد مؤلفي الكتاب، إن هذا الإصدار يستعرض رحلة الرئيس التنفيذي عبر أربع مراحل رئيسية، تُلخّص مسار القيادة وتحوّلاتها على امتداد مسيرة القائد.
سكوت كيلر: تمرّ رحلة القائد بأربع مراحل أساسية. تبدأ الأولى بالسؤال: كيف تستعد لتولي المنصب وتُهيئ نفسك لتكون المرشح الأنسب؟ تليها المرحلة الثانية، وهي لحظة التعيين، حين يُطرح التساؤل: كيف تبدأ بقوة وتنتقل إلى الدور الجديد بطريقة تضمن لك النجاح منذ البداية؟ وبعد أن يمضي القائد فترة في موقعه، تأتي المرحلة الثالثة التي تتطلب منه أن يبقى في الصدارة، فيسأل نفسه: كيف أواصل التقدم؟ وكيف أحقق الإنجاز تلو الآخر عامًا بعد عام؟ أما المرحلة الرابعة والأخيرة، فهي محطة التسليم، حين يحين وقت تمرير الشعلة لمن يأتي بعدك، بما يضمن استمرارية النجاح والمسيرة.
دروس مدهشة من تجارب من أبرز الرؤساء التنفيذيين في العالم
لوسيا راهيلي: يزخر هذا الكتاب بدروس مستخلصة من تجارب أبرز القادة في عالم الأعمال، من بينهم مايكل ديل مؤسس "ديل تكنولوجيز" و ستيفن شوارزمان من "بلاكستون". وقد شارك في تأليفه إلى جانب "سكوت كيلر" كلٌّ من الشركاء الإداريين في ماكنزي كارولين ديوار، كيرت ستروفينك، إضافة إلى فيك مالهوترا. وتوضح كارولين أن أكثر ما لفت انتباهها أثناء العمل على الكتاب هو استعداد هؤلاء القادة لإظهار ما لا يعرفونه، وهي سمة نادرة تكشف عن عمق الوعي الذاتي الذي يميز القادة الحقيقيين.
كارولين ديوار: ما أثار دهشتي حقًا هو عقلية التعلّم المستمرة والفضول المعرفي الذي يتمتع به هؤلاء القادة. فقد يتوقع المرء، خصوصًا من شخصيات حققت نجاحًا متواصلًا لسنوات طويلة، أن يكونوا أصحاب الإجابات الجاهزة والخبرة المكتملة، وكأنهم يسيرون وفق نمط ثابت ومتكرر. لكنّ ما وجدناه كان على النقيض تمامًا؛ إذ لمسنا تواضعًا لافتًا واستعدادًا صادقًا لتقبّل الملاحظات والانفتاح على النقد، إلى جانب رغبة حقيقية في التعلم المستمر وتحدي أنماط تفكيرهم السابقة. وقد بدت هذه السمات حاضرة بقوة في جميع المراحل الأربع للقيادة التي يتناولها الكتاب.
لوسيا راهيلي: ما فاجأ "سكوت" بدوره هو القدرة اللافتة التي يمتلكها هؤلاء القادة على فهم الدوافع الإنسانية، وإدراكهم العميق لما يُحرّك الناس ويُلهمهم داخل بيئات العمل.
كان لافتًا في جميع المراحل الأربع للقيادة ذلك التوازن الناضج بين التواضع والانفتاح والرغبة الدائمة في التعلّم. فقد أظهر القادة الاستثنائيون استعدادًا حقيقيًا لتقبّل الملاحظات وإعادة النظر في قناعاتهم باستمرار، مؤمنين بأن القيادة ليست بلوغ القمة فحسب، بل هي رحلة دائمة من التطور الذاتي والنضج الفكري.
سكوت كيلر: ما أثار دهشتي هو إدراك هؤلاء القادة العميق لمدى مفارقات القيادة وطبيعتها غير البديهية. فعلى سبيل المثال، اكتشفنا أن تخصيص وقت أطول قليلًا للوصول إلى القرار، مع إشراك الفريق في النقاش وصنع القرار، يمكن أن يحقق أثرًا يفوق التوقعات، تأثيرًا لا يخطر حتى على بال من يفكر بمنطقٍ عقلاني بحت. إنها مهارة مكتسبة تعكس فهمًا دقيقًا لما يُعرف بـ تأثير الارتكاز، ذلك الانحياز الذهني الذي قد يوجّه أحكامنا دون وعي، ويحتاج القادة الحقيقيون إلى الوعي به لتجنّب الوقوع في فخه.
وعند الحديث عن التواضع، تتجلّى المفارقة بوضوح. فلو طُرِح سؤال على السائقين: هل تعتبر نفسك من بين أفضل 50% من السائقين؟ سيجيب نحو 88% منهم بالإيجاب. رغم أن المنطق يجعل ذلك مستحيلًا. وبالمثل، طرحت سؤالًا مشابهًا على أفراد الأسرة: كم تبلغ نسبة مساهمتك في أعمال المنزل؟ ستجد أن مجموع الإجابات يتجاوز 100%. هذه الأمثلة البسيطة تبرهن على ميل الإنسان الطبيعي إلى المبالغة في تقدير ذاته، غير أن القادة الحقيقيين يتميّزون بقدرتهم على التحكم في هذه النزعة البشرية وفهم الجوانب غير المنطقية في السلوك الإنساني، وهي مهارة جوهرية تمنحهم تفوّقًا في القيادة وتميّزًا في الرؤية.
لقد أظهر هؤلاء القادة قدرة استثنائية على فهم الجوانب اللامنطقية في الطبيعة البشرية والتعامل معها بوعي وحكمة. فقد تعلّموا كيف يضبطون ميولهم الإنسانية، ويتجاوزون الانحيازات الخاصة التي كثيرًا ما تؤثر في قرارات الآخرين، وهو ما منحهم تفوقًا في القيادة، ورؤية أكثر اتزانًا في فهم البشر وتحفيزهم.
لوسيا راهيلي: يتفق "فيك مالهوترا" مع هذا الطرح، مشيرًا إلى أن ما يميز هؤلاء القادة حقًا هو التزامهم العميق بأن يكونوا جزءًا من الفريق، لا مجرد قادته. فقد أدركوا أن القيادة الحقيقية لا تقوم على التوجيه من الأعلى، بل على المشاركة الفعلية وبناء روح الجماعة التي تنعكس على أداء الجميع.
فيك مالهوترا: ما شدّ انتباهي حقًا هو التوازن البديع الذي يحافظ عليه هؤلاء القادة في أسلوب قيادتهم؛ فهم يجمعون بين الثقة العالية في رؤيتهم الجريئة لما يريدون أن تصل إليه مؤسساتهم، وبين الصدق والتواضع والقدرة على الإصغاء بعمق. يمتلكون نظرة استراتيجية بعيدة المدى، لكنهم في الوقت ذاته يؤمنون بقيمة العمل الجماعي ويحققون النجاح من خلال الآخرين، لا على حسابهم. وهذا المزيج بين الطموح والإنسانية هو ما يصنع منهم قادة استثنائيين بحق.
ويمتد هذا الفهم الإنساني العميق ليشكّل سمة مشتركة بين القادة الكبار الذين تناولهم الكتاب؛ فإلى جانب وعيهم بالتحفيز وفهمهم للطبيعة البشرية، يتميزون أيضًا بتواضعهم الحقيقي في ممارسة القيادة. ومن بين النماذج التي تجسد هذه القيمة، يبرز "كين فريزر"، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "ميرك"، الذي تحدث عن التواضع بوصفه ركيزة لا غنى عنها في قيادة الإنسان لنفسه قبل الآخرين. وقد استلهم "فريزر" هذا الدرس من والده، الذي كان يعمل عاملاً بسيطًا في التنظيف، لكنه كما وصفه، "كان يقف شامخًا في نظري كأنه بطول عشرة أقدام"، وأوضح أن تلك التجربة زرعت فيه قناعة راسخة بأن القيادة الحقيقية ليست سلطة تُمارس، بل خدمة تُقدَّم للموظفين، وللمرضى، وللمساهمين على حدّ سواء.
ويمتد الحديث هنا إلى جانب آخر لا يقلّ أهمية في رحلة القيادة، وهو البعد الإنساني في موقع القرار. فبينما يشدّد "كين فريزر" على التواضع والخدمة، تتحدث "غيل بودرو"، الرئيسة التنفيذية لشركة "إليفانس هيلث"، عن تجربة مختلفة من زواياها النفسية والعاطفية، إذ تصف كيف أصبحت وظيفة الرئيس التنفيذي أكثر عزلة مع مرور الوقت. فبرغم كون القائد جزءًا من الفريق، إلا أنه في الوقت نفسه المدرب الذي يوجّه هذا الفريق، ما يضعه في موقع فريد ومعقّد. وتتساءل "بودرو": كيف يمكن بناء علاقات حقيقية مع كل فرد في الفريق، في وقتٍ تكون فيه قائدًا وموجّهًا في آن واحد؟ وكيف يمكن الحفاظ على الصدق والاتساق الداخلي وسط كل هذا التوازن الدقيق بين القيادة والمشاركة؟
وبعد الحديث عن الجوانب الإنسانية والعاطفية في القيادة، يبرز بُعد آخر لا يقل أهمية، وهو القيادة القائمة على القيم الشخصية والتطلّع الداخلي. في مثال لافت، يشارك "مايكل فيشر"، الرئيس التنفيذي السابق لمستشفى "سينسيناتي للأطفال"، تجربة مميزة تعكس فلسفته في القيادة، إذ تحدّث "فيشر" عن ما يسميه "قائمة أن أكون" التي يعتبرها أكثر أهمية من قائمة المهام اليومية. فبدلًا من التركيز على ما يجب عليه فعله كل يوم، يسعى "فيشر" إلى التركيز على ما يريد أن يكون عليه، على سبيل المثال أن يكون قائدًا أكثر إنصاتًا، أكثر تواضعًا، وأكثر التزامًا بخدمة الآخرين. تلك النظرة، كما يوضح، تمنحه وضوحًا في الاتجاه ومعنى أعمق لكل قرار يتخذه.
ويمضي "فيشر" في توضيح فكرته قائلًا: "إنه يسعى قبل كل شيء إلى أن يكون مصدر إلهامٍ للآخرين، صادقًا في حضوره، متواضعًا في تعامله". غير أن التحدي الأكبر في نظره كما يوضح، يكمُن في ترجمة هذه القيم إلى سلوكٍ عمليٍّ يومي، وكيف يمكن تجسيدها في كل تفاعل وكل اجتماع، لتصبح جزءًا أصيلًا من شخصيته القيادية، لا مجرد شعارات يردّدها.
لوسيا راهيلي: وهنا تحديدًا يتفق معي "كيرت ستروفينك"، إذ يؤمن أن القادة الحقيقيين لا يقيسون نجاحهم بما يحققونه اليوم فحسب، بل بقدرتهم على الإبقاء على رؤية طويلة المدى لدورهم ومسؤولياتهم. فالقائد الناجح هو من يدير الحاضر بعينٍ على المستقبل، يدرك أن أثر قراراته لا يُقاس بالأشهر أو السنوات، بل بما تتركه من بصمة دائمة في مسيرة المؤسسة واستدامة نجاحها. لنستمع إليه يوضّح هذه النقطة بمزيد من التفصيل.
كيرت ستروفينك: نعم، تمامًا يا "لوسيا"، هذا ما أؤمن به فعلًا. فالقادة المتميزون يتمتعون دائمًا برؤية مختلفة تمكّنهم من إدراك إمكاناتهم الحقيقية. فبعضهم يحقق ذلك من خلال القدرة على الانفصال عن الدور الوظيفي والنظر إليه من الخارج بموضوعية، فيدركون المساحات غير المستغلة التي يمكن تطويرها. بينما يتمكن آخرون من التعرّف على نقاط قوتهم الفريدة وكيفية توظيفها في مجالات محددة يقودونها بأنفسهم، مقابل مجالات أخرى يفوّضون إدارتها للآخرين. إن هؤلاء القادة يدركون جيدًا الطاقة الكامنة في موقع الرئيس التنفيذي في كل مرحلة من مراحل القيادة، ويتعاملون مع هذا الدور بوعي استراتيجي يجعلهم قادرين على توجيه المنظمة في الاتجاه الصحيح، دون أن يفقدوا توازنهم بين الرؤية الشاملة والعمل الميداني.
الدروس المستفادة التي خرج بها المؤلفون من رحلتهم البحثية
لوسيا راهيلي: بعد إجراء هذا العدد الكبير من المقابلات مع أبرز القادة التنفيذيين حول العالم، يبرز سؤال بديهي: كيف أثّر ذلك في ممارسات المؤلفين أنفسهم وأساليبهم في العمل؟
سكوت كيلر: لا أنسى نصيحة غيّرت كثيرًا من طريقتي في التفكير، قدّمها لي "دوغ بيترسون"، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "S&P Global"، كانت نصيحته بسيطة في ظاهرها، لكنها تركت أثرًا عميقًا في حياتي، وتعلّقت بكيفية إدارة الوقت واتخاذ القرارات المستقبلية بحكمة. إذ قال لي يومًا: "حين تصلك دعوة إلى اجتماع أو فعالية بعد أشهر، تخيّل للحظة أن الموعد سيكون غدًا. ومن ثم اسأل نفسك بصدق: هل سأندم لأنني وافقت؟ هل سأشعر أن وجودي في هذه الفعالية غير مجدٍ أو بلا قيمة حقيقية؟ هل كنت سأفضّل استثمار وقتي في أمرٍ آخر؟". ثم أوضح لي "دوغ" بابتسامة: "إذا كانت إجابتك نعم على أي من هذه الأسئلة، فالأفضل أن تعتذر منذ البداية. فالرفض في الوقت المناسب أهون من الندم لاحقًا".
أكدت لي الأبحاث والمناقشات أن منصب الرئيس التنفيذي، رغم ما يحمله من إنجازات وبريق، يبقى دورًا يواجه فيه القائد شعورًا عميقًا بالانفراد في تحمّل المسؤولية واتخاذ القرار.
فيك مالهوترا: هناك أمران أساسيان خرجت بهما من هذه التجربة. أولًا، أدركت مدى أهمية الجانب الإنساني في القيادة، ذلك الجانب الذي يشمل الثقافة المؤسسية، وتنمية المواهب، وضمان انسجام المنظمة مع استراتيجيتها واتجاهها العام. لقد تبيّن لي أن هذه العناصر الناعمة، التي يُستهان بها أحيانًا، تشكل في الحقيقة جوهر نجاح المؤسسة وفاعلية الرئيس التنفيذي نفسه، بل وتتطلّب منه وقتًا وجهدًا مستمرين للحفاظ على توازنها ونموّها.
وانطلاقًا من ذلك، أصبحتُ مستشارًا أفضل لهم؛ إذ أركّز على مرافقتهم في رحلات تشكيل ثقافة مؤسساتهم، وبناء قاعدة المواهب القادرة على دفع المنظمة إلى النجاح، وخلق اتساقٍ تنظيمي يربط الإستراتيجية بالاتجاه العملي. كما أعمل معهم على تمكين المؤسسة من المرونة والتكيّف، بحيث تستجيب بسرعة للتغيرات دون أن تفقد بوصلتها أو تتنازل عن أولوياتها.
والأمر الآخر الذي أدركته من خلال البحث والمناقشات هو أن منصب الرئيس التنفيذي، على الرغم مما يحمله من نجاح وتأثير ومسؤولية، يظل موقعًا يختبر فيه القائد شعور الانفراد في تحمّل القرار. فوسط الزخم اليومي والفرق الكبيرة التي يعمل معها، يجد القائد نفسه في النهاية وحيدًا أمام اللحظة الفاصلة التي تتطلب الحسم. إنها ليست وحدة عاطفية أو اجتماعية، بل عزلة مهنية تنبع من ثقل المسؤولية واتساع دائرة التأثير، حيث لا يمكن للقائد أن يشارك كل ما يدور في ذهنه أو يتقاسم أعباء القرار مع أحد. إنها لحظة الصمت التي تُظهر جوهر القيادة وتختبر صلابتها في مواجهة التحديات.
لوسيا راهيلي: وعند الحديث عن الانفراد بالمسؤولية في مواقع القيادة العُليا، ذكرت "كارولين ديوار" تجربة لافتة رواها "ساتيا ناديلا"، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، وقد وصفتها بأنها من أكثر الرؤى التي تركت أثرًا في نفسها لما حملته من عمق إنساني وفكري. وسأترك الآن المجال لــ "كارولين" لتحدثنا أكثر عمّا استخلصته من تلك التجربة.
كارولين ديوار: نعم، بالفعل، ما تعلمناه من "ساتيا" بقي حاضرًا في ذهني طوال الوقت. وقد فهمته على النحو الآتي: حين نتحدث عن الانفراد بالمسؤولية فإننا لا نقصد العزلة، بل نقصد أن الرئيس التنفيذي يرى الصورة الكاملة ويُسأل عنها وحده. فأنا من موقع القائد أتعامل يوميًا مع ما يجري في الداخل: فرق العمل، العمليات، الثقافة المؤسسية، وتفاصيل التنفيذ. وفي الوقت نفسه، أتعامل مع العالم الخارجي: المستثمرين، الشركاء، الجهات التنظيمية، وسمعة الشركة لدى الجمهور. هذا هو معنى "الداخل والخارج". أما حديثنا عن القرارات الصلبة مقابل الجوانب المرنة، فأقصد به أن عليّ اتخاذ قرارات حاسمة تحدد الاتجاه، كإعادة هيكلة، أو دخول سوق جديدة، وهذه هي القرارات الصلبة. وفي المقابل، هناك ما يتطلب مرونة عالية: كإدارة المواهب، وترتيب الأولويات بين الفرق، والحفاظ على الروح المعنوية والثقة. عملي اليومي هو جمع هذه الأبعاد المتباينة في رؤية واحدة متماسكة، أوازن بين ما يريده المستثمر وما يحتاجه الموظف، بين سرعة القرار وجودة التنفيذ، وأفكر ليس فقط في الأثر المباشر للقرار، بل أيضًا في تَبِعاته اللاحقة وما قد ينتج عنه في المدى المتوسط والبعيد. هذا في جوهره هو ما يجعل موقع الرئيس التنفيذي موقع تكاملٍ ومسؤوليةٍ فرديةٍ عالية في آن واحد.
أنت لست بقدر ما يبدو عليك من تميّز حين تسير الأمور على ما يرام، ولست بالسوء الذي تظنه حين تمرّ بمرحلة صعبة.
كيرت ستروفينك: ما يدهشني دائمًا هو ضخامة هذا الدور وما يحمله من إمكانات استثنائية، إلى جانب صعوبته في كل مرحلة، خصوصًا عندما تواجه القائد أحداث غير متوقعة، لا تكون من صنعه ولا ضمن خططه. في تلك اللحظات يدرك أن النجاح لا يعني أنه في ذروة الكمال، كما أن الإخفاق لا يجعله في أسوأ حالاته. وكما أقول دائمًا: أنت لست بقدر ما تبدو عليه من تميّز حين تسير الأمور على ما يرام، ولست بالسوء الذي تظنه حين تمرّ بمرحلة صعبة. لقد أصبحت اليوم أكثر وعيًا بأهمية الحفاظ على التوازن العاطفي وسط هذه التقلبات، لأن هذا الاتزان هو ما يمكّن القائد من مواصلة القيادة بوعي وهدوء وبروح بنّاءة مهما تغيرت الظروف.
أدركت كذلك أهمية السرد في مسيرة القيادة، سواء على مستوى القائد الفرد أو المؤسسة بأكملها، ودور الرئيس التنفيذي في صياغة الحكاية التي تعبّر عن هوية المنظمة واتجاهها. فالقائد ليس مجرد من يضع الإستراتيجيات، بل هو من يكتب رواية الشركة أمام موظفيها والعالم. ومع مرور الوقت، أرى كيف ينضج الرؤساء التنفيذيون في طريقة سردهم لقصصهم، تلك التي يروونها لأنفسهم لتجديد قناعتهم، ولشركاتهم لتعزيز الانتماء، ولقطاعهم لترسيخ مكانتهم. إنهم يتعلمون كيف يجعلون من السرد أداة توجيه وإلهام بقدر ما هو وسيلة للتعبير.