تحديث إدارة الشؤون المؤسسية في ظل عصر الجُغرافيا السياسية الجديد

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

تتحرك الأرض من تحت أقدام قادة الأعمال في ظل اضطرابات جيوسياسية تعيد رسم ملامح المشهد العالمي. إذ يجد التنفيذيون أنفسهم وسط موجات متلاحقة من الرسوم الجمركية الجديدة، وتداعيات الصراعات المشتعلة في أوروبا والشرق الأوسط، وتصاعد التوترات في آسيا، إلى جانب شبكة معقدة ومتشابكة من السياسات الحكومية التي تهدف إلى تأمين النفوذ الاقتصادي والمصالح الاستراتيجية. وفي مواجهة هذا الواقع المتقلب، بدأت كبريات الشركات العالمية في تطوير أدواتها واستشرافها، فتعزز من قدرتها على تحليل الاتجاهات الجيوسياسية بعمق، وتحرص على إشراك مجالس إدارتها وفرقها القيادية في الإشراف المباشر على هذه الملفات، كما تعيد تصميم نماذج أعمالها لتظل قادرة على العمل بمرونة في عالم آخذ في الانقسام. ومع كل ذلك، تستثمر في بناء الرؤية المستقبلية من خلال التخطيط بالسيناريوهات المختلفة، وتضع استراتيجيات دقيقة لإدارة التوترات ذات الطابع الجيوسياسي داخل مؤسساتها، حتى تظل قادرة على التوازن وسط عالم لا يعرف الاستقرار.

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

ويُعدّ التواصل الفعّال مع صانعي السياسات وأصحاب المصلحة الخارجيين عنصرًا أساسيًا في بناء القدرة على الصمود أمام التحديات الجيوسياسية. ففي وقت تتبدل فيه القوانين التي تحكم التجارة والأعمال الدولية بسرعة غير مسبوقة، وقد تؤدي الانتماءات السياسية والاقتصادية إلى تغيّر مصير الشركات بين ليلة وضحاها، يصبح من الضروري أن تمتلك كل شركة روايتها الخاصة وأن تدير علاقاتها مع الحكومات والجهات التنظيمية والمؤثرين السياسيين بأسلوبٍ مدروس ومتوازن. ويشير الخبير في الاقتصاد الجيوسياسي إدوارد فيشمان، مؤلف كِتاب "نقاط الاختناق: كيف تحوّل الاقتصاد العالمي إلى سلاح (الكتاب صادر عن دار إليوت آند تومسون البريطانية في شهر مارس 2025)"، إلى أن الشركات أصبحت اليوم أدواتٍ مؤثرة في سياسات الاقتصاد الجيوسياسي أو ما يعرف أيضاً الجيو-اقتصادية (مصطلح يشير إلى كيفية توظيف الدول للأدوات الاقتصادية كالاستثمار، التجارة، الطاقة، والتكنولوجيا لتحقيق أهداف سياسية أو استراتيجية على المستوى الإقليمي أو العالمي)، غير أنها في الوقت نفسه تملك القدرة على التأثير في هذه السياسات من خلال الحوار المستمر، وجهود المناصرة، والالتزام الذكي بالقوانين، وهو ما يمنحها مساحة حقيقية للمشاركة في تشكيل البيئة التي تعمل ضمنها بدل الاكتفاء بالتأثر بها.

ولفهم الطريقة التي تتكيّف بها الشركات مع المتطلبات الجديدة في إدارة شؤونها المؤسسية، أجرى فريق البحث استطلاعًا شمل نحو تسعمئة من كبار التنفيذيين، إضافةً إلى مقابلات معمقة مع مجموعة من خبراء الشؤون المؤسسية ذوي الخبرة الواسعة في قطاعات متنوعة مثل التعدين والخدمات المالية وصناعة الأدوية والتكنولوجيا.1 وقد كشفت النتائج أن فرق الشؤون المؤسسية تواجه اليوم اختبارات لم تعرفها من قبل، إذ وصف أحد الخبراء المخضرمين، الذي يمتلك خبرة تمتد لأكثر من أربعة عقود في هذا المجال، المرحلة الحالية بأنها «غير مسبوقة» بكل المقاييس.

الجغرافيا السياسية تتصدر أولويات فرق الشؤون المؤسسية

لطالما شكّلت الجغرافيا السياسية محورًا أساسيًا في عمل فرق الشؤون المؤسسية، فهي الجسر الذي يربط بين الشركات والعالم الخارجي بمؤسساته وحكوماته وتشريعاته. وتشمل مهام هذه الفرق عادةً إدارة العلاقات مع الحكومات والجهات التنظيمية، والإشراف على الاتصال المؤسسي والعلاقات العامة، إلى جانب قيادة جهود الاستدامة، وأحيانًا متابعة الالتزام بالقوانين. ومن خلال هذا الدور الحيوي، تمثل هذه الفرق خط الدفاع الأول في مواجهة المخاطر الجيوسياسية ومساعدة الشركات على اتخاذ قرارات أكثر وعيًا في بيئة متقلبة. لكن المشهد اليوم تغيّر جذريًا؛ فالتحديات لم تعد متفرقة أو متوقعة كما في السابق، بل أصبحت أكثر تداخلًا وغموضًا، ما يجعل التعامل معها اختبارًا حقيقيًا لقدرة الشركات على الثبات والتكيّف في عالم تتبدل فيه الموازين بوتيرة سريعة.

يشرح روبرت يونغر، أحد أبرز المتخصصين في الشؤون المؤسسية ومؤسس ومدير مركز أكسفورد لتسويق الشركات بجامعة أكسفورد، هذا التحول بقوله: "منذ سقوط جدار برلين، عشنا في عالم يتسم باستقرارٍ جيوسياسي لافت". غير أن هذا الاستقرار، كما يضيف، لم يعد قائمًا اليوم؛ فقد عادت التعقيدات الجيوسياسية وحالة عدم اليقين من جديد. ومع ذلك، فإن مجالس الإدارة والقيادات التنفيذية وفرق الشؤون المؤسسية تفتقر إلى الخبرة التي تمكّنها من التعامل مع مثل هذه الظروف المضطربة، لأنها ببساطة لم تعتد على إدارة الأعمال في عالم بهذه الدرجة من التقلب وعدم الاستقرار.

في الواقع، يرى قادة الأعمال أن تغيّر سياسات التجارة العالمية وعدم الاستقرار الجيوسياسي يُمثّلان الخطر الأكبر على النمو الاقتصادي العالمي، وبفارقٍ واسع عن أي عوامل أخرى، اطلع على (الشكل 1).2 ومع ذلك، فإن مستوى اهتمام الإدارة بهذه المخاطر لا يزال أدنى بكثير من حجم تأثيرها المحتمل. إذ أظهر الاستطلاع أن 28 في المئة فقط من المشاركين يعتبرون سياسات التجارة من أولويات القيادة في شركاتهم، بينما يرى 15 في المئة فقط أن عدم الاستقرار الجيوسياسي يستحق أن يكون في صدارة اهتمام الإدارات العُليا. وفي المقابل، أشار أكبر عدد من المشاركين، بنسبة 40 في المئة، إلى أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي هو الأولوية القصوى لديهم، وهو ما يعكس الفجوة الواضحة بين المخاطر التي تهدد بيئة الأعمال فعليًا وتلك التي تحظى بالاهتمام داخل أروقة الإدارة.

Upgrading corporate affairs for a new geopolitical era

ويُرجَّح أن هذا الانفصال يعكس حالة من عدم اليقين لدى الإدارة حول أفضل السبل للاستجابة، في ظل تعدد العوامل الجيوسياسية التي تتطلب تحرّكًا متزامنًا على عدة اتجاهات. أما فرق الشؤون المؤسسية المكلّفة بتوجيه هذه الاستجابات، فهي نفسها لا تزال تتعلّم كيفية التعامل مع تلك التحوّلات.

وفي هذا الشأن، يشير "كاريثك رمانا"، أستاذ إدارة الأعمال والسياسات العامة في جامعة أكسفورد، الذي تناول في أبحاثه تأثير التطورات الجيوسياسية على السياسات المؤسسية، إلى أن المؤسسات تواجه اليوم تحديًا يتمثل في كيفية تبني مواقف قوية قادرة على الصمود أمام تغيّر التوجهات السياسية. ويقول موضحًا: "إذا تجاهلت المكاسب قصيرة الأجل، فلن تستمر طويلًا وستذهب لتفكر في المستقبل، لكن إذا اكتفيت بالتركيز على المدى القصير وحده، فسينتهي بك الحال متراجعًا أمام منافسيك على المدى الطويل".

وهناك ثلاثة اتجاهات رئيسية تفرض اليوم ضغوطًا متزايدة على فرق الشؤون المؤسسية:

  • في السنوات الأخيرة، ازداد اعتماد الحكومات على ما يُعرف بأدوات الاقتصاد الجيوسياسي، مثل فرض الرسوم الجمركية، وتطبيق سياسات صناعية موجَّهة، وفرض العقوبات، وقيود التصدير والاستيراد، في إطار مساعٍ تهدف إلى حماية الأمن القومي وتعزيز سلاسل الإمداد المحلية ودعم الشركات الوطنية، اطّلع على (الشكل 2).3 ومع هذا التحول المتسارع، أصبحت فرق الشؤون المؤسسية في الشركات تلعب دورًا أكثر أهمية من أي وقت مضى، إذ يُنتظر منها مراقبة هذه التطورات بدقة، وتحليل آثارها المحتملة، والعمل على اغتنام الفرص التي قد تنشأ عنها أو الحد من المخاطر المرتبطة بها. ويشمل ذلك بناء علاقات متوازنة مع صانعي القرار، ووضع برامج امتثال مرنة تساعد الشركات على التكيف بسرعة مع التغييرات المستمرة في السياسات التجارية والتنظيمية.

الشكل 2
Upgrading corporate affairs for a new geopolitical era
Upgrading corporate affairs for a new geopolitical era
Upgrading corporate affairs for a new geopolitical era
  • تتسارع وتيرة القوانين والسياسات التنظيمية حول العالم بوتيرة لم يشهدها قطاع الأعمال من قبل، حتى باتت فرق الشؤون المؤسسية تكافح للبقاء على اطلاع دائم في بيئة تتغيّر قواعدها بين يومٍ وآخر. ففي المملكة المتحدة مثلًا، تشير الأرقام إلى أن الشركات المالية تضاعفت عليها أعباء الامتثال والمراجعة القانونية ثلاث مرات منذ عام 2009، بينما قفزت تكاليف الامتثال وحدها بنسبة 138 في المئة منذ عام 2017،4 ما يعكس حجم الضغوط المتزايدة التي تواجهها المؤسسات. وإلى جانب ذلك، يلوح في الأفق تحدٍّ جديد يُعرف بـ"عدوى سيادة البيانات"، ويقصد به توجه بعض الدول إلى فرض تخزين البيانات داخل حدودها الوطنية وسط تصاعد الانقسامات الجيو-اقتصادية، وهو ما قد يضع مزوّدي الخدمات الأجانب، ولا سيما الشركات الأمريكية، في موقف غير متكافئ. ويزداد المشهد تعقيدًا حين تختار بعض الحكومات تجاوز القنوات الرسمية للإعلان عن قراراتها، فتُفاجئ الشركات بسياسات جديدة تُعلن عبر منصات التواصل الاجتماعي، لتجد فرق الشؤون المؤسسية نفسها مطالبة بالتحرك السريع وسط عالم تتبدّل فيه القواعد دون إنذار مسبق.
  • تتصاعد اليوم موجة جديدة تُعرف بـ"الوطنية المؤسسية"، إذ لم يعُد مقبولًا أن تظل الشركات كيانات عابرة للحدود بمعزل عن المصالح القومية لبلدانها. فبعد عقودٍ من العولمة والانفتاح الاقتصادي، يجد قادة الأعمال أنفسهم أمام معادلة دقيقة: كيف يحافظون على حضورهم العالمي الواسع، وفي الوقت ذاته يُظهرون التزامًا واضحًا بأجندات بلدانهم الجيو–اقتصادية؟ ولقد بدأت الحكومات تطالب الشركات بإثبات إسهامها الفعلي في دعم اقتصاداتها الوطنية، وتوجيه قراراتها بما يخدم أولويات الأمن القومي والتنمية المحلية. بل إن بعضها ذهب أبعد من ذلك، مستثمرًا بشكل مباشر في قطاعات استراتيجية تُعدّ حجر الزاوية في السيادة الاقتصادية، كما فعلت الحكومة الأمريكية مؤخرًا بشرائها حصة في شركة "إنتل" ودراستها الدخول في استثمارات مماثلة في شركات أخرى تُعدّ ذات أهمية وطنية قصوى.5 كما تتعرض الشركات لضغوط متزايدة من حكوماتها للحد من تعاملها مع أنظمة تُعدّ بعيدة أو متوترة سياسيًا6 لتجد نفسها أحيانًا، من غير قصد، في موقعٍ حساس يجعلها طرفًا غير مباشر في نزاعاتٍ تجارية ذات طابع جيوسياسي معقد.

تزداد أهمية دور فرق الشؤون المؤسسية اليوم مع تصاعد حدة التحديات الثلاثة التي تواجهها، إذ أصبحت بيئة الأعمال أكثر تعقيدًا وتقلّبًا من أي وقت مضى. فالمعايير التي كانت تُعدّ مستقرة بالأمس باتت اليوم موضع تساؤل دائم، حتى أصبح "الاستثناء هو الوضع الطبيعي الجديد"، كما يصف أحد قادة الشؤون المؤسسية في قطاع التمويل هذا الواقع المتغيّر. ويضيف موضحًا أن مفهوم السلطة الموثوقة قد تغيّر بالكامل، فلم تعد الثقة تُمنح تلقائيًا كما في السابق، بل أصبحت تُكتسب بصعوبة في عالم تتبدّل فيه القواعد والنماذج يومًا بعد آخر. وفي ظل هذا المشهد المتقلب، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن إعادة بناء الثقة في عالم لم يعد فيه الثابت ثابتًا، وصار النجاح مرهونًا بالقدرة على التكيّف مع واقع يعيد تعريف المألوف باستمرار؟

تعزيز القدرات الجيوسياسية لفرق الشؤون المؤسسية

توجّهنا إلى قادة الشؤون المؤسسية في كبرى الشركات العالمية لنسألهم كيف يطوّرون مهامهم وأساليب عملهم لمواكبة التغيّرات المتسارعة في البيئة الجيوسياسية والتجارية العالمية. ومن خلال هذه الحوارات، إلى جانب خبرتنا العملية مع عدد من المؤسسات الدولية، توصّلنا إلى دليل من خمس خطوات رئيسية يمكن أن تساعد فرق الشؤون المؤسسية على التعامل بفعالية مع الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تشهدها الساحة العالمية. وتشمل هذه الخطوات: رسم صورة واضحة للعالم المحيط بالشركة، وصياغة رواية مؤسسية مؤثرة تعكس موقفها، وتطوير أساليب التواصل وبناء العلاقات مع الجهات الخارجية، وإعادة هيكلة فرق العمل لتصبح أكثر مرونة، وأخيرًا الاستثمار في تنمية مهارات جديدة تُمكّن هذه الفرق من فهم الواقع المتغيّر والاستجابة له بثقة واحترافية.

1- رسم الخريطة

الخطوة الأولى تبدأ بفهم الاتجاهات العالمية الأكثر ارتباطًا بأعمال الشركة وتحديدها بدقة. فالقادة الناجحون لا يكتفون برصد هذه الاتجاهات، بل يسعون إلى قياس أثرها الفعلي على مؤسساتهم، وعلى موظفيهم وعملائهم، بل وحتى على المجتمع من حولهم. وتقدير حجم القيمة المهددة أو المعرضة للمخاطر يمثل عنصرًا أساسيًا في فهم مستوى التأثير الحقيقي، ومع ذلك أظهرت نتائج الاستطلاع أن 9 % فقط من الشركات تقوم بهذه العملية التحليلية بانتظام وبأسلوب منهجي. ويشمل مفهوم "رسم الخريطة" ثلاث مكونات مترابطة تشكّل معًا الأساس لفهم العالم: -

  • يُعد فهم مدى تأثر الشركة بالعوامل الجيوسياسية خطوة أساسية لبناء استراتيجية واقعية وفعّالة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تحليل البيانات والنماذج الإحصائية التي تساعد القادة على قياس درجة المخاطر التي قد تواجهها الشركة في الأسواق المختلفة. ومن المهم هنا التمييز بين نوعين من التغيرات: تحولات طويلة الأمد، (مثل تزايد التركيز العالمي على قضايا المناخ الذي أصبح ساحةً جديدة للتنافس الصناعي بين الدول، والتحول من عالم العولمة المفتوحة إلى عالم أكثر انقسامًا وتعددًا في مراكز النفوذ)؛ وأحداث قصيرة الأجل لا تعكس تغيرًا هيكليًا دائمًا في النظام الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، لم يكن حادث جنوح السفينة في قناة السويس عام 2021 سوى أزمة مؤقتة لم تُحدث تغييرًا دائمًا في حركة التجارة العالمية، بينما تُعد التوترات الأخيرة حول قناة بنما مؤشرًا على تصاعد التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى للسيطرة على الممرات البحرية الحيوية، وهو ما يعكس تحولًا عميقًا في شكل الاقتصاد العالمي وتوازناته.
  • تقدير حجم القيمة المعرّضة للمخاطر: تحتاج فرق الشؤون المؤسسية إلى تقييم الأثر المالي والتشغيلي الذي قد تتعرض له الشركة في ظل السيناريوهات الجيوسياسية المختلفة، وذلك من خلال منهجية تحليلية دقيقة مؤلفة من خمس خطوات تساعد على قياس حجم المخاطر والفرص المحتملة في آنٍ واحد، اطّلع على (الشكل 3). وتُستخدم هذه المنهجية لتقدير تأثير أفضل السيناريوهات الممكنة وأسوئها على أداء الشركة، سواء في نتائجها المالية أو في استمرارية عملياتها حول العالم.7 ويمكن أيضاً لفرق الشؤون المؤسسية بعد ذلك بناء مجموعة من السيناريوهات المحتملة بهدف تحديد ما يُعرف بــ"الحدود القصوى للحلول" أي النتائج التي قد تقع في أقصى درجات التفاؤل أو التشاؤم. ويساعد هذا النهج على استكشاف الصورة الكاملة لاحتمالات المستقبل واستباق التغيرات قبل وقوعها. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تتضمّن السيناريوهات الجيوسياسية ما يلي:
    • السيناريو الأول "الانفتاح على العالم": يعود العالم إلى نهج يقوم على التوافق الدولي على غرار ما كان عليه في مرحلة منظمة التجارة العالمية، حيث تسود حرية حركة السلع ورؤوس الأموال والأفراد عبر الحدود، وتزدهر التجارة العالمية مجددًا في ظل نظام يقوم على التعاون والانفتاح المتبادل بين الدول.
    • السيناريو الثاني "الجزر الإقليمية": يتحوّل العالم إلى مجموعة من الجزر الإقليمية المنفصلة، حيث تنكمش العولمة لتفسح المجال أمام تكتلات إقليمية تتعامل فيما بينها ضمن حدود محدودة.
    • السيناريو الثالث "المياه المضطربة": يسير الاقتصاد العالمي في هذا السيناريو على نهج الجزر الإقليمية، لكنه يواجه موجة أشد من القيود والعوائق أمام حركة السلع ورؤوس الأموال والأفراد.

      وبعد أن تُقيِّم الشركة مستوى تعرضها للمخاطر وحجم القيمة المهددة أو المعرّضة للتأثير، يصبح بإمكان قادتها تحديد القضايا التي تستحق الأولوية في التعامل، وكذلك تحديد القدرات التي ينبغي تعزيزها لمواجهة التحديات الجيوسياسية المحتملة.

  • تحديد أصحاب المصلحة الرئيسيين: على فرق الشؤون المؤسسية أن تُحدّد بوضوح الجهات الأكثر تأثيرًا في تحقيق أولويات الشركة. فالساحة لم تَعُد تقتصر على الوزارات والهيئات الحكومية التقليدية، إذ ظهرت كيانات استشارية جديدة وآليات صنع قرار موازية أو حتى أعلى من الأجهزة الرسمية، تتولى صياغة سياسات قد تمس مصالح الشركة بشكل مباشر. كما ينبغي فهم خريطة العلاقات التي يبنيها المنافسون، ومعرفة الجهات أو الشخصيات التي يتواصلون معها لدعم أجنداتهم. إن الإجابة الدقيقة عن هذه الأسئلة تُساعد القادة على وضع خطط مدروسة للتواصل وبناء العلاقات في القضايا ذات الأولوية، بحيث تكون الشركة حاضرة ومؤثرة في النقاشات التي تُرسم فيها السياسات قبل أن تُعلن.
Upgrading corporate affairs for a new geopolitical era

2- تحسين الخطاب المؤسسي وتعزيز العرض الاستراتيجي

بعد أن ترسم الشركة خريطتها وتفهم موقعها في المشهد العالمي، ينبغي على قادة الشؤون المؤسسية صياغة رواية أكثر وضوحًا ودقة حول القضايا ذات الأولوية. ويشمل ذلك تحديد الرسالة الأساسية التي تعبّر عن موقف الشركة، واختيار اللغة التي تُجسّد هذه الرسالة بطريقة مؤثرة وواضحة، إلى جانب وضع تصور لمدى انتشارها وكيفية إيصالها إلى الجمهور. كما يتطلّب الأمر تحديد من سيمثل الشركة ويتحدث باسمها، بحيث يكون الصوت الذي يُعبّر عنها منسجمًا مع رؤيتها وقيمها، وقادرًا على بناء الثقة والتأثير في الأطراف المعنية.

  • صَغ رسالتك بدقة: يجب أن تكون الرسالة الجوهرية للشركة بسيطة وواضحة، ومصمَّمة بعناية لتناسب كل فئة من أصحاب المصلحة. فعدد من قادة الشؤون المؤسسية الذين تحدثنا إليهم يركّزون اليوم على إبراز مساهمة شركاتهم في خلق فرص العمل والاستثمار في الاقتصادات المحلية، كوسيلة لتوضيح قيمتها الوطنية أمام حكوماتهم. وعندما تتسبب الإجراءات التجارية في تعطّل سلاسل التوريد أو استيراد المواد، يسعى بعض القادة إلى تسليط الضوء على الآثار المترتبة على تلك السياسات أو طلب إعفاءات خاصة تراعي احتياجات شركاتهم الفعلية. فكل كلمة في الرسالة يجب أن تكون محسوبة، لا لتشرح الموقف فحسب، بل لتعزّز صورة الشركة كشريك فاعل ومسؤول في دعم الاقتصاد والمجتمع.
  • قدّم المعرفة قبل المطالب: من أنجح أساليب بناء العلاقات مع أصحاب المصلحة أن تُقدّم الشركة نفسها كمصدر موثوق للمعلومة لا كطرف يسعى فقط لتحقيق مصالحه. وكما ينصح أحد الخبراء في مجال الخدمات المهنية "كن مصدرًا للحقائق أمام الحكومات، ولا تكتفِ بقول: هذا ما نحتاجه منكم، بل قدّم معرفة دقيقة تستند إلى بيانات وتحليل موضوعي" فعلى سبيل المثال، تشارك فرق الشؤون الحكومية في إحدى كبريات شركات الخدمات المالية العالمية تحليلات وسيناريوهات جيوسياسية أعدّتها داخليًا مع المسؤولين الحكوميين، ليس فقط لتوضيح خلفيات السياسات وتأثيراتها المحتملة، بل أيضًا لبناء علاقة ثقة متبادلة قائمة على تبادل المعرفة. فحين تتحول الشركة إلى شريك يقدم الرؤية والخبرة، تُصبح أكثر تأثيرًا في صياغة القرارات وتوجّهات السياسات بدل أن تكون مجرّد متلقٍ لها.
  • دقّق في اختيار كلماتك: في ميدان الشؤون المؤسسية، لا تُقاس فاعلية الرسالة فقط بما تقوله الشركة، بل بكيفية قولها. لأن لكل كلمة وزنها وسياقها، وقد تُحدث فارقًا كبيرًا في طريقة استقبالها. يوضح أحد قادة الشؤون المؤسسية أن إنشاء الحكومة الأمريكية لـ"المجلس الوطني لهيمنة الطاقة" جعل مصطلح "أمن الطاقة" أقل تأثيرًا مما كان عليه في السابق، لأن المفهوم السائد تغيّر. أما في أوروبا، فإن مصطلح "الضغط السياسي" يُنظر إليه بسلبية، لذلك تميل الشركات إلى استخدام تعبيرات أكثر حيادًا مثل "المناصرة" أو "المشاركة الفاعلة". وكما يقول أحد الخبراء: "الفكرة واحدة، لكن طريقة عرضها هي التي تصنع الفرق".
  • اضبط نبرة حضورك المؤسسي: في عالم تتغير فيه السياسات بتغير الحكومات، لا تكون الحكمة دائمًا في رفع الصوت، بل في معرفة متى يجب أن يُسمع، ومتى يُكتفى بالهدوء الذكي. فحين تتبنى الشركة ممارسات لا تحظى بتأييد الحكومة الجديدة، يمكنها ببساطة تخفيف حدة خطابها دون أن تتراجع عن مبادئها، كما عبّر أحد قادة الشؤون المؤسسية في شركة أدوية عالمية بقوله: "نحن لا نبدّل محطة الراديو، بل نُغيّر فقط مستوى الصوت". وفي المقابل، قد تفرض بعض الظروف رفع الصوت لا خفضه. فعندما اختارت إحدى كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية إصدار بيان علني يؤكد التزامها بالسوق الأوروبية رغم التوترات التجارية بين الجانبين، كان ذلك بمثابة رسالة قوة ووضوح. ويعلّق أحد الخبراء قائلاً: "في أوروبا، مجرد كونك شركة أمريكية قد يُعد عبئًا في الوقت الراهن".
  • اجعل قادتك صوت الشركة الحقيقي: في بيئة يغلب عليها الطابع السياسي والاقتصادي المعقّد، لا يكفي أن تكون الرسالة واضحة، بل يجب أن تصدر من الشخص المناسب. فحين يتحدث الرئيس التنفيذي بنفسه، تكتسب الرسالة وزنًا مختلفًا وتأثيرًا أعمق، لأن صوته يجمع بين الرؤية والمسؤولية. ولهذا السبب، أصبح كثير من الرؤساء التنفيذيين اليوم ينخرطون مباشرة في بناء علاقات شخصية مع صناع القرار الحكوميين، ويحرصون على فهم أولوياتهم وإظهار التزام الشركة بدعمها بطريقة متوازنة. وفي ظل المناخ الجيو–اقتصادي الحالي، لم يعد هذا الدور خيارًا تكميليًا، بل أصبح جزءًا من مهام القيادة العليا؛ فالرئيس التنفيذي بات يُنظر إليه كـ دبلوماسي تجاري يمثّل شركته أمام الحكومات والأسواق على حد سواء. وقد عبّر أحد قادة الشؤون المؤسسية في شركة تكنولوجيا عالمية عن ذلك بوضوح قائلاً: "إذا كنت رئيسًا تنفيذيًا لا تحب هذا الدور، فعليك أن تتعلم أن تحبه".

3- عزّز فاعلية تواصلك المؤسسي

يشدّد قادة الشؤون المؤسسية على أهمية التواصل المبكر مع أصحاب المصلحة الأساسيين قبل أن تنشأ الحاجة إلى دعمهم. فالعلاقات القوية تُبنى بالاستباق، لا عند الأزمات. لكنهم في الوقت نفسه يحذّرون من أن هذا الانخراط المكثّف، رغم ضرورته، قد لا يدوم طويلًا، لأن أولويات الحكومات تتغير باستمرار، مما يجعل النفوذ المكتسب مؤقتًا. وكما يوضح البروفيسور كاريثك رمانا: "قيمتك تُقاس بآخر إنجاز حققته مع الحكومة" لذلك، فإن تحسين أسلوب التواصل لا يقتصر على توسيع شبكة العلاقات، بل يعتمد على إدارتها بذكاء واستمرارية، بحيث تحافظ الشركة على حضورها وتأثيرها مهما تغيّرت الظروف. ويتطلّب هذا النهج تنفيذ مجموعة من الخطوات العملية التي تساعد في ترسيخ صورة الشركة كشريك موثوق وفاعل في بيئتها المؤسسية، ومن أبرز هذه الخطوات ما يلي:

  • حدّد المستوى الحكومي الأنسب للتواصل: ليس دائمًا أصحاب المناصب العليا هم الأكثر تأثيرًا أو فائدة في بناء العلاقات. ففي كثير من الأحيان، يكون التواصل مع المسؤولين التنفيذيين أو الأعضاء في اللجان المختصة داخل الجهات التنظيمية أكثر جدوى من محاولة الوصول إلى أعلى المستويات الإدارية. وبالطريقة نفسها، قد يحقق بناء علاقات قوية مع المسؤولين المحليين في الولايات أو المقاطعات نتائج أسرع وأكثر واقعية من التواصل مع القيادات العليا في الحكومة المركزية. ويمكن أيضًا توسيع أثر التواصل عبر الهيئات الصناعية والجمعيات الحكومية والسفراء الأجانب والشركاء في المشاريع المشتركة، إذ تسهم هذه الأطراف في فتح قنوات إضافية لتبادل المعرفة وتعزيز النفوذ. ومع ذلك، يُنبّه قادة الشؤون المؤسسية إلى أن هذه الجهات الوسيطة لا يمكن أن تحلّ محل الحضور المباشر، مؤكدين المقولة الشهيرة "لا بديل عن أن تشرح موقفك بنفسك". فالصوت المباشر يبقى دائمًا أكثر صدقًا وإقناعًا.
  • اختر القنوات المناسبة للتواصل: ينبغي على القادة أن يدرسوا بعناية القنوات والمنصات الإعلامية التي يمكن من خلالها إيصال رسائلهم إلى الجمهور المستهدف بأكبر قدر من الفاعلية، سواء كانت وسائل إعلام تقليدية أو منصات تواصل اجتماعي. فاختيار القناة المناسبة لا يقل أهمية عن مضمون الرسالة نفسها. كما يمكن أن يشكل المشاركة في المنتديات الاقتصادية والجيوسياسية أو رعايتها - خصوصًا تلك التي تحظى باهتمام أصحاب المصلحة الرئيسيين - الإقليمية المهمة لأهداف الشركة الاستراتيجية.
  • وازن مستوى ظهورك المؤسسي: على قادة الأعمال أن يفكروا جيدًا في مدى حضور شركاتهم داخل العواصم الكبرى وطبيعة علاقاتهم مع الأطراف المؤثرة. فكما أشار الكاتب والفيلسوف آيزايا برلين في مقاله الشهير "القنفذ والثعلب"، تتعامل بعض الشركات مع البيئة المتغيرة بمرونة تشبه الثعلب، تتحرك بخفة وتتكيف مع الظروف، بينما تفضّل شركات أخرى نهج القنفذ الذي يقلل من الظهور حفاظًا على التركيز وتجنّب المخاطر. فعلى سبيل المثال، قررت إحدى كبرى شركات الاستثمار تقليص حجم فريق الشؤون الحكومية في واشنطن العاصمة بعد انسحابها من أسواق حساسة جيوسياسيًا، وهو ما خفّف من مستوى المخاطر التنظيمية التي تواجهها في الولايات المتحدة.
  • تبادَل الخبرة مع الآخرين: تواجه جميع الشركات التحديات نفسها وإن اختلفت صورها من قطاع إلى آخر. وكما يقول أحد قادة الشؤون المؤسسية في شركة تعدين: "تعلّم من نظرائك، حتى من قطاعات مختلفة، وشاركهم ما ينجح وما لا ينجح". فمشاركة الخبرات بين القادة تفتح آفاقًا جديدة للتعلّم، وتساعد الشركات على تطوير أساليب أكثر فاعلية في التعامل مع التعقيدات الجيوسياسية.

4- أعد هيكلة البنية التنظيمية لفرق الشؤون المؤسسية

لطالما كانت وظيفة الشؤون المؤسسية بعيدة عن تفاصيل العمل اليومي، إذ اعتادت أن تتعامل مباشرة مع الرئيس التنفيذي في القضايا الاستراتيجية الكبرى. غير أن هذا النموذج لم يعُد كافيًا في عالم اليوم، كما يؤكد عدد من قادة الشؤون المؤسسية، حيث تتطلب التحديات المتسارعة مزيدًا من الاندماج بين هذه الوظيفة وبقية أجزاء المؤسسة. ومن هذا المنطلق، يوصي القادة بإعادة تهيئة الهيكل التنظيمي لوظيفة الشؤون المؤسسية بعدة طرق تضمن مرونتها وقدرتها على مواكبة التحولات الجيوسياسية والاقتصادية المستمرة على النحو التالي:

  • دمج وظيفة الشؤون المؤسسية في صميم العمل: تسعى الشركات الرائدة اليوم إلى دمج فرق الشؤون المؤسسية داخل وحدات الأعمال الأساسية بدل أن تبقى بعيدة عن العمليات اليومية. فالثقة بين هذه الفرق وقادة الأعمال لا تُبنى بالكلام، بل حين يرون بشكل واضح كيف يساهم عمل الشؤون المؤسسية في استمرارية الشركة ونموها. كما توضح رئيسة الشؤون المؤسسية في إحدى شركات الأدوية قائلة: "يجب أن تُظهر لقادة الأعمال أن وجودك ليس شكليًا، بل جزء من رخصة الشركة لمزاولة نشاطها". وقد غيّر هذا النهج طبيعة الدور تمامًا، فبدلًا من الاكتفاء بإعداد تقارير استراتيجية عن ثقة الحكومات والمرضى في العلاجات الجديدة، أصبحت فرق الشؤون المؤسسية اليوم تعمل مباشرة مع الإدارات التجارية لضمان وصول اللقاحات إلى الأسواق، وتحقيق قبول مجتمعي واسع لها، وضمان تغطيتها ضمن برامج التأمين الصحي. وتضيف المسؤولة نفسها: "الضغوط اليوم كبيرة للغاية، ولم يعُد لدينا ترف القيام بما هو اختياري، بل بما هو ضروري وحتمي".
  • وضع مقاييس أداء واضحة ومحددة: لطالما اعتمدت فرق الشؤون المؤسسية على مؤشرات أداء عامة ومرنة، مثل عدد اللقاءات التي تُعقد أو حجم الوصول إلى أصحاب المصلحة. غير أن هذا النهج لم يعد كافيًا لقياس التأثير الحقيقي. ولهذا، يرى الخبير روبرت يونغر أن على هذه الفرق ربط مؤشرات أدائها بالنتائج الفعلية للأعمال من خلال دمج نشاطها اليومي مع الإدارات التشغيلية والوظيفية الرئيسة في الشركة. ويقول: "عندما تدعم فرق الشؤون المؤسسية الأهداف الجوهرية للإدارات الأساسية، فإنها تُثبت أهميتها وتأثيرها داخل المؤسسة، وتُعمّق في الوقت نفسه فهم القيادات التنفيذية للقيمة الاستراتيجية التي تقدمها هذه الوظيفة ودورها الحيوي". كما يمكن أن تسهم القصص الواقعية عن الأثر الملموس في إبراز قيمة هذا الدور، فهي تُظهر كيف تحوّل الجهود اليومية إلى نتائج عملية تُعزز الأداء المؤسسي وتدعم أهداف الشركة على المدى الطويل.
  • أطلق حملات موجهة للقضايا ذات الأولوية القصوى: يؤكد الخبراء على أهمية توحيد الجهود وتركيزها حول القضايا الأكثر أهمية للشركة بدلًا من التعامل معها بشكل متفرق عبر الإدارات المختلفة. فكما يقول أحد قادة الشؤون المؤسسية: "لا تفصل بين التواصل المؤسسي، والمسؤولية الاجتماعية، والعلاقات الحكومية، بل اجمعها في منظومة واحدة تُدار من مركز موحد يعمل على مدار الساعة". فإدارة هذه الجوانب مجتمعة تُمكّن الشركة من توحيد رسائلها ومواقفها عالميًا، وضمان استجابة سريعة ومنسقة لأي تطور سياسي أو إعلامي، مما يعزز من تأثيرها وقدرتها على حماية سمعتها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية في مختلف الأسواق.

5- استثمر في بناء قدرات جديدة

لم يعُد التواصل مع صُنّاع القرار كافيًا لاكتشاف ما يلوح في الأفق من تغيّرات. فحتى تتمكّن فرق الشؤون المؤسسية من الاستعداد مبكرًا لأي تطور، أصبحت بحاجة إلى رؤية شاملة تجمع بين الفهم السياسي والاقتصادي والتشغيلي، تُظهر كيف يمكن للتحولات الجيوسياسية أن تنعكس على أعمال الشركة في كل سوق تعمل فيه. وإلى جانب ذلك، لا بد من الاعتماد على تحليلات دقيقة للخطابات العامة واتجاهات الرأي، بهدف التفرقة بين ما هو مؤشّر حقيقي على تغيّر قادم، وما هو مجرد ضجيج عابر على النحو التالي:

  • طوّر خبراتك في فهم الجغرافيا السياسية: بالنسبة لبعض الشركات، مثل تلك العاملة في قطاعات الدفاع أو البنية التحتية الحيوية، يُعد التعامل مع الجغرافيا السياسية جزءًا أساسيًا من طبيعة العمل. فمديرو الفروع في هذه القطاعات يقضون أكثر من نصف وقتهم في التواصل مع الحكومات، بينما يعمل موظفو المبيعات على جمع معلومات ميدانية من العملاء تساعد الشركة على التعامل بمرونة مع القوانين المحلية. أما معظم الشركات الأخرى، فما زالت تعتمد على شركات استشارات جيوسياسية للحصول على التوجيه والتحليل. غير أن الخبير روبرت يونغر يرى أن هذا النهج لن يكون كافيًا على المدى الطويل، إذ يقول: "على القيادات التنفيذية أن تفكر فيمن يمكن أن يشغل منصب رئيس شؤون الجغرافيا السياسية في المستقبل.". فالوحدات التابعة للشؤون المؤسسية تمتلك المقومات التي تؤهلها لإدارة القضايا الجيوسياسية، لكنها تفتقر إلى الموارد البشرية الكافية للتعامل مع حجم القضايا المتزايد. ومن بين الحلول المقترحة إنشاء وحدات متخصصة في إدارة المخاطر الجيوسياسية، تكون مهمتها جمع الرؤى والتحليلات من الفرق الداخلية والمكاتب المحلية والمستشارين والخبراء، لتشكيل صورة متكاملة تساعد الشركة على اتخاذ قرارات مدروسة في بيئة دولية متقلبة.
  • استفد من إمكانات الذكاء الاصطناعي: تتجه الشركات الرائدة اليوم إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في إعادة ابتكار آليات عمل الشؤون المؤسسية، عبر ما يُعرف ب"منارات الذكاء الاصطناعي" التي تجمع بين الذكاء التحليلي والتوليدي والذاتي. فعلى سبيل المثال، يمكن لوكيل ذكي يعمل بالذكاء الاصطناعي أن يدير دورة كاملة لحملة تواصل مؤسسي، بدءًا من تحديد المتطلبات، مرورًا بإنشاء المحتوى واختبار الرسائل، وصولًا إلى تتبع التأثير وقياس النتائج. كما يمكن للفرق استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي لإعداد موجزات تحليلية دقيقة تجمع بين المعلومات الخارجية حول أصحاب المصلحة والمعطيات الداخلية الخاصة بمواقف السياسات العامة. ويزداد هذا التحوّل انتشارًا يومًا بعد آخر، حتى أن سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، توقّع أن 95 في المئة من المهام التي يعتمد فيها المسوقون اليوم على الوكالات والمخططين والمحترفين المبدعين، ستُدار قريبًا بسهولة وبشكل فوري تقريبًا، وبتكلفة شبه معدومة، عبر الذكاء الاصطناعي.8 ومع ذلك، يُحذر الخبير روبرت يونغر من الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى أن البيانات المولّدة آليًا قد تصبح مع الوقت متاحة للجميع، وبالتالي أقل تميّزًا. ويضيف أن على الفرق المؤسسية أن تكمل التحليل الآلي بمعرفة بشرية مباشرة، نابعة من التجربة والحدس والعلاقات الواقعية، لأن الفهم الإنساني لما يجري على الأرض سيبقى دائمًا العنصر الذي لا يمكن للآلة أن تعوّضه.

ربما لا نستطيع أن نرى بوضوح ما ينتظرنا في البعيد، لكن ما نراه أمامنا يكفي لندرك كم من العمل ينتظرنا.

آلان تورينغ، من مقاله "الآلات الحاسوبية والذكاء"، أكتوبر 1950

يمكن أن تشكّل كلمات عالم التشفير البريطاني الشهير آلان تورينغ مصدر إلهام لقادة الشؤون المؤسسية الذين يسعون إلى فكّ شيفرة التواصل الفعّال مع أصحاب المصلحة. ففي عالم مترابط أكثر من أي وقت مضى، لكنه في الوقت نفسه ميدان تتصاعد فيه المنافسة الجيوسياسية، تتعرض قدرات هذه الفرق لاختبارات غير مسبوقة. ومع ذلك، تُظهر أبحاثنا أن القادة الذين يطمحون إلى خلق زخم استراتيجي حقيقي لمؤسساتهم لا يمكنهم الوقوف مكانهم؛ فالفِرق الناجحة اليوم ترسم خريطتها الخاصة بوعي، وتصقل روايتها المؤسسية، وتطوّر أساليب تواصلها على كل المستويات من الرئيس التنفيذي فما دونه، وتعيد هيكلة تنظيمها الداخلي، وتستثمر في بناء قدرات جديدة.

Explore a career with us