كيف يعيد الذكاء الاصطناعي التوليدي تشكيل أساليب العمل وإدارة التغيير

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

انتشر الذكاء الاصطناعي التوليدي في بيئات العمل بوتيرة غير مسبوقة، حتى أصبح جزءًا من أنشطة ثلثي الشركات حول العالم.1ومع ذلك، فإن تأثيره الفعلي ما زال غير واضح المعالم، إذ تختلف تطبيقاته كثيرًا عن مشروعات البرمجيات التقليدية التي اعتادت المؤسسات تنفيذها في السابق. وبينما يدرك الرؤساء التنفيذيون الإمكانات الهائلة التي تحملها هذه التقنية، فإن معظمهم لا يزال يفتقر إلى رؤية واضحة حول كيفية تحويلها إلى قيمة عملية ملموسة تعود بالنفع المباشر على أعمالهم.

يمتلك الذكاء الاصطناعي التوليدي قدرة استثنائية على تغيير أسلوب العمل داخل المؤسسات. فبفضل واجهته القائمة على اللغة الطبيعية، أصبح التعامل معه في غاية السهولة، بينما تمنحه قدراته المتطورة في التحليل والتفكير والتنفيذ دورًا يتجاوز المهام البسيطة ليشمل وظائف أكثر تعقيدًا، مثل قراءة كميات ضخمة من المعلومات، وكتابة البرامج، والإجابة عن الأسئلة. ومع تقدّم هذه النماذج، بدأنا نرى قدرته على أداء مهام عملية ملموسة مثل إعداد الجداول الإلكترونية أو تصفح المواقع نيابة عن المستخدم. والأهم من ذلك أن الموظفين أنفسهم يتبنون هذه الأدوات بوتيرة أسرع بكثير مما يتوقعه قادتهم، إذ تُظهر البيانات أنهم يستخدمونها ثلاثة أضعاف ما يقدّره المديرون.2

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

إن منح الموظفين أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي لا يعني بالضرورة أنهم سيستخدمونها بفعالية، ولا يضمن أن تتحول المؤسسة بشكل جذري. فالقيمة الحقيقية لا تتحقق إلا حين يتبنى القادة نهجًا جديدًا لإدارة التغيير، نهجًا يجعل الموظفين في موقع الفعل لا التلقي، ويحّولهم من مجرد مجرِّبين للتقنية إلى مسرّعين لاعتمادها ونشرها. ولأن التغيير ليس مسارًا خطيًا بسيطًا، يصبح من الضروري إشراك الموظفين كعنصر أساسي: عليهم أن يجربوا، ويشاركوا في تطوير حلول جديدة، ويلتزموا بصقل مهاراتهم باستمرار. ومع ذلك، يدرك القادة أن بعض الأفراد قد يتعثرون في هذا المسار، مما يتطلب توفير الدعم والتوجيه المناسب لهم. ومن هنا، يطرح هذا المقال خمس خطوات عملية تساعد الرؤساء التنفيذيين على توجيه مؤسساتهم بثقة وسط هذه المرحلة المليئة بالتحديات والفرص.

قد يكون التحول الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي التوليدي بوابة لمرحلة جديدة من النمو الهائل، ووسيلة لاستخراج القيمة الحقيقية الكامنة في هذه التقنية. غير أن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلب من الرؤساء التنفيذيين إدارة التغيير الكبير الذي سيشهده الموظفون في طريقة عملهم. فالقادة الأكثر نجاحًا هم من سيعيدون تشكيل مؤسساتهم لتصبح مهيأة بالكامل لعصر الذكاء الاصطناعي، مانحين موظفيهم ما يشبه "قوى خارقة" تمكنهم من التحرر من المهام المملة والمتكررة، والتفرغ لما يضيف قيمة حقيقية للإبداع والإنتاج.

الخطوة الأولى: صياغة رؤية واضحة قائمة على النتائج لا على الأدوات

من المغري أن نرى الذكاء الاصطناعي التوليدي كأنه مجرد أداة إضافية على الموظفين استخدامها، لكن هذه النظرة سطحية ولا تكشف عمق التحول. فالموظفون يدركون أن الأمر أكبر من مجرد أداة، فهو قدرة جديدة تضاعف إمكاناتهم وتحرر طاقتهم، وليس مجرد وسيلة عمل تقليدية. وعندما تعيد المؤسسات بناء نفسها حول هذه التقنية، سيتشكل مشهد عمل مختلف، يعمل فيه الإنسان جنبًا إلى جنب مع وكلاء الذكاء الاصطناعي في انسجام يفتح مجالات لم تكن ممكنة من قبل. صحيح أن هذا المستقبل لم يكتمل بعد، لكن القادة المستشرفين للمستقبل يضعون اليوم خططًا استراتيجية تمثل بوصلة مضيئة توجه مؤسساتهم، لتقودهم نحو النجاح في عالم الغد.

إن الرؤية الاستراتيجية المنشودة يجب أن تكون كالبوصلة: واضحة وبسيطة ليستوعبها الجميع، لكنها في الوقت نفسه جريئة بما يكفي لتلهم الفرق وتشعل حماسهم. ويجب أن تتحلى بالمرونة لتواكب تسارع التكنولوجيا، بحيث تستوعب نماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة وتفعّل إمكاناتها الجديدة في وقت مناسب. كما ينبغي أن ترسم هذه البوصلة ملامح الطريق الذي يتيح للمؤسسة خلق قيمة حقيقية وصناعة ميزة تنافسية، مع تحديد الأثر المتوقع على دورة حياة المواهب من استقطابها وتطويرها وحتى الحفاظ عليها. ولقيادة هذا التحول بنجاح، على القادة أن يثقفوا أنفسهم بعمق، فيتعلموا ما يتيحه الذكاء الاصطناعي التوليدي اليوم، وما قد يحمله الغد من آفاق غير مسبوقة.

لا يمكن أن يتحقق التحول الكبير الذي تفرضه هذه البوصلة الاستراتيجية إلا من خلال عنصرين أساسيين متكاملين: خطة قوية لإدارة التغيير مدعومة بالموارد الكافية، ورؤية جديدة تعيد تصميم سير العمل بكامله من بدايته حتى نهايته. وبينما يواصل الذكاء الاصطناعي التوليدي تطوره بوتيرة سريعة، يصبح على القادة أن يوازنوا بين سرعة هذه التقنية وقدرتهم على تحفيز موظفيهم للانخراط في هذا المستقبل. ولعل البداية الأكثر واقعية تكمن في نشر وكلاء ذكاء اصطناعي يؤدون مهام صغيرة ومنفصلة، ثم التوسع تدريجيًا إلى منظومات متعددة الوكلاء تعمل بتناغم كامل لتحقيق نتائج أعمال متكاملة. وعند هذه المرحلة، يمكن أن تتحول بعض الوحدات إلى ما يُعرف بـ (MVOs)، أي وحدات تنظيمية قابلة للتشغيل بالحد الأدنى، حيث يقوم الذكاء الاصطناعي بمعظم العمل ويقتصر دور البشر على المراجعة والتدقيق. في المقابل، ستبقى هناك أقسام أخرى تعتمد بشكل أكبر على الموظفين، لكن مع تمكينهم بقدرات رقمية متقدمة ترفع إنتاجيتهم وتفتح أمامهم آفاقًا جديدة للإبداع. وهنا يظهر جوهر القيادة الاستراتيجية: أن يمتلك الرؤساء التنفيذيون البصيرة لتحديد أي الأقسام تحتاج إلى بقاء الإنسان في مركزها، وأيها يمكن أن يُعاد تشكيله ليعمل بكفاءة شبه مكتملة عبر الذكاء الاصطناعي.

ومهما كان التوازن بين دور الإنسان ودور الآلة، فإن إدارة هذا التحول تحتاج إلى إدراك حقيقة مهمة: سرعة التغيير داخل المؤسسة لن تكون واحدة في كل الأقسام. فبعض الوحدات ستنطلق بسرعة نحو المستقبل، بينما ستحتاج وحدات أخرى إلى وقت أطول للتأقلم. وهنا تكمن صعوبة الرحلة، إذ إن بناء مؤسسة هجينة يعمل فيها البشر جنبًا إلى جنب مع الذكاء الاصطناعي يتجاوز ما يمكن أن يقدمه أي دليل تقليدي لإدارة التغيير. إنها رحلة جديدة كليًا، تتطلب من القادة رسم مسارات مبتكرة بدلاً من الاكتفاء بالخطط المألوفة.

الخطوة الثانية: ترسيخ الثقة بالبيانات والحوكمة وخبرة المؤسسة

لا يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن ينجح داخل أي مؤسسة ما لم يُبْنَ أولاً على قاعدة صلبة من الثقة. فإذا شكك الموظفون في نتائج مخرجاته، فلن يثقوا في القرارات التي يقترحها، وبالتالي ستتعطل فرص تعميمه على نطاق واسع. وتشير أبحاثنا إلى أن الشركات التي تُعرف بـ الأداء العالي في الذكاء الاصطناعي التوليدي —وهي التي تحقق ما لا يقل عن 10% من أرباحها قبل الفوائد والضرائب والاستهلاك وتسوية الدين (EBITDA) بفضل استخدام هذه التقنية — أكثر ميلًا من غيرها للاستثمار في الأنشطة التي تعزز الثقة (الشكل 1). أما الشركات التي تعزز الثقة في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية، فهي تكاد تضاعف فرصها في تحقيق نمو في الإيرادات يتجاوز 10% مقارنةً بغيرها.3

Reconfiguring work: Change management in the age of gen AI

إن بناء الثقة داخل أي مؤسسة يبدأ من قدرة القادة على التعامل مع مسألة إتاحة البيانات باعتبارها جزءًا أساسيًا من عملية التغيير. فغالبًا ما تمتلك المؤسسات ما يشبه "سوق المعلومات" الداخلي، حيث تُخزن البيانات وفقًا لسياسات وهرم إداري يحدد من يمكنه الوصول إليها. وهنا تبرز قوة الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يستطيع تحليل البيانات غير المنظمة التي يصعب الاستفادة منها عادة، ليكشف أنماطًا ورؤى جديدة تمنح المؤسسة ميزة تنافسية. ومع ذلك، يبقى التحدي في تدريب هذه النماذج على معالجة البيانات المنظمة وغير المنظمة معًا لإنتاج نتائج دقيقة وموثوقة، وهو أمر ما زال معقدًا. كما أن القواعد والممارسات التي تضمن جودة هذه النتائج ما زالت في طور التطوير، مما يجعل من الضروري أن يعمل القادة من الآن على ترسيخ الثقة في استخدام هذه التكنولوجيا.

وحتى ينجح أي نهج لإدارة التغيير، لا بد أن يضع توقعات واضحة لجميع الموظفين حول كيفية إدارة البيانات واستخدامها. وبالتعاون مع الرئيس التنفيذي، يمكن لكل من رئيس قسم المعلومات ورئيس قسم البيانات أن يجعلوا إتاحة البيانات أولوية قصوى، على أن تُحاط هذه البيانات بإطار متين من الحوكمة الخاصة بالذكاء الاصطناعي. ويتطلب ذلك إنشاء لجنة إشراف على الذكاء الاصطناعي، ووضع سياسات تحدد الاستخدام المسموح به، وصياغة معايير واضحة للامتثال وإدارة المخاطر بالتنسيق مع فرق المخاطر والشؤون القانونية. وإضافة إلى ذلك، ينبغي التأكد من وجود فرق تدقيق بشرية لرصد أي أخطاء أو انحيازات أو تسرب للبيانات.

ومن الجدير بالذكر، أن بناء الثقة في الذكاء الاصطناعي التوليدي يُعد أكثر إلحاحًا في الصناعات الخاضعة لرقابة صارمة، ولا سيما للموظفين الذين يتعاملون مع بيانات العملاء الحساسة.

على سبيل المثال، قامت شركة "مورجان ستانلي" بالتعاون مع شركة "OpenAI" على تدريب مساعد ذكاء اصطناعي توليدي باستخدام أكثر من 100 ألف تقرير بحثي للبنك. غير أن المؤسسة لم تُقدم على تعميم استخدامه مباشرة، بل انتظرت حتى أثبتت أطر التقييم الصارمة أن إجابات المساعد ترتقي إلى مستوى الجودة المطلوب من مستشاريها. وعندما تم إطلاقه في بيئة محكومة بضوابط واضحة، حقق نجاحًا سريعًا؛ إذ وصل مساعد "مورجان ستانلي" الذكي معدل استخدام 98% بين فرق إدارة الثروات، ليحوّل المعرفة المتراكمة من محتوى محفوظ في التقارير إلى خبرة متاحة للجميع بشكل فوري وسهل.4

تُعد أكثر منصات الذكاء الاصطناعي التوليدي جدارة بالثقة هي تلك التي تُبنى على سياق المؤسسة نفسها، وتكشف بوضوح كيفية الوصول إلى الإجابات والمصادر التي استندت إليها. وعند نشر أي نموذج للذكاء الاصطناعي التوليدي، يجب أن تدعمه المؤسسة بمعرفتها الداخلية، مثل الأبحاث الخاصة، أو سجلات تفاعلات العملاء، أو الخبرات الهندسية المتراكمة على مدار فترة طويلة. كما يمكن تعزيز هذه القاعدة المعرفية بمصادر خارجية متجددة لتوسيع نطاق الفائدة. وعندما يقدم الذكاء الاصطناعي إجابات دقيقة مدعومة بالمعرفة وتتسم بسهولة التتبع، سيشعر الموظفون بالثقة في نتائجه، ويصبحون أكثر استعدادًا لاعتماده ضمن سير عملهم اليومي.

الخطوة الثالثة: صياغة إطار عمل جديد يمهّد لفرق يقودها الذكاء الاصطناعي

لن يؤدي إضافة الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى العمليات الحالية كما هي إلى اعتماد واسع أو تأثير ملموس، لأنه ليس مجرد أداة جديدة مثل برامج المؤسسات التقليدية، بل هو قدرة استراتيجية تفرض أسلوبًا مختلفًا للتفكير والعمل والإبداع. ومن هنا، يصبح من الضروري أن يضع القادة الذكاء الاصطناعي في قلب سير العمل، ليعيدوا تصميم الطريقة التي تُدار بها مؤسساتهم بشكل جذري. ولتحقيق ذلك، ينبغي اعتماد نهج القيادة المشتركة بين فرق الأعمال والتكنولوجيا، بحيث تعمل هذه الفرق معًا في صياغة أسلوب العمل الجديد. ففرق الأعمال تضمن أن التحول يحقق النتائج المرجوة للأداء والمؤشرات، بينما تتولى فرق التكنولوجيا توفير الأسس التقنية الكفيلة بتحويل هذا التغيير إلى واقع فعلي. ومع هذا التعاون، يمكن للمؤسسات أن تطلق العنان لإمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي وتحوّله إلى قوة محركة لنجاحها.

إن إعادة صياغة عملية سير العمل لا تحدث دفعة واحدة، بل تمر بثلاث مراحل تسمح للموظفين بالتأقلم مع أساليب العمل الجديدة. تبدأ المرحلة الأولى باستخدام وكلاء ذكاء اصطناعي منفصلين يساعدون البشر على إنجاز مهام صغيرة ومحددة. ثم تتطور إلى مرحلة ثانية يعمل فيها عدد من الوكلاء معًا لإنجاز عمليات متكاملة من البداية للنهاية تحت إشراف بشري. وفي المرحلة الثالثة، تصل المؤسسات إلى الاعتماد على ما يُعرف بـ (MVOs)، أي وحدات تنظيمية قابلة للتشغيل بالحد الأدنى، حيث تعمل مجموعات من الوكلاء الذكيين بشكل شبه كامل لتحقيق نتائج أعمال متكاملة. ومع ذلك، حتى في هذه المرحلة المتقدمة، لا يختفي دور الإنسان. فهناك دائمًا حاجة إلى عدد محدود من الموظفين لضمان عمل هذه المنظومات بكفاءة وأمان، بينما يُعاد توجيه الغالبية نحو مهام ذات قيمة أعلى تتطلب الإبداع والخبرة. ومن أجل نجاح هذه الرحلة، لا بد أن تبدأ إدارة التغيير ببناء الثقة لدى الموظفين بأن الذكاء الاصطناعي التوليدي أصبح قدرة أساسية لا غنى عنها في وظائفهم.

في البداية، تحدد الشركات عددًا من عمليات سير العمل المتكاملة الذي يمكن أن يُعاد تشكيله بالذكاء الاصطناعي، مثل دورة الشراء والدفع، أو مسار التوظيف حتى التقاعد، أو تحويل الفكرة إلى منتج. بعد ذلك، يتم تحديد النقاط داخل هذه المسارات التي يمكن إدخال وكلاء ذكاء اصطناعي مستقلين فيها، ليقوموا بمساعدة الموظفين في إنجاز مهام محددة دون أن يديروا سير العمل بأكمله. وفي هذه المرحلة، يعمل الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل أقرب إلى الأداة، حيث يستخدمه الموظفون لإتمام مهام جزئية تكمّل عملهم الأساسي.

مع التقدم إلى المرحلة الثانية، تبدأ الشركات في توسيع نطاق استخدام وكلاء الذكاء الاصطناعي، حيث يتم تشكيل مجموعات منهم تعمل بشكل منسّق لإنجاز جميع المهام ضمن سير عمل متكامل من بدايته حتى نهايته. ومع مرور الوقت، تتعلم هذه الوكلاء وتتطور لتصبح أكثر كفاءة في أداء العمليات. ورغم أن الذكاء الاصطناعي هو من ينفذ المهام بالكامل، فإن دور الإنسان يظل محوريًا في الإشراف على عمل هذه المجموعات، وضمان دقة المخرجات وجودتها.

وخلال المرحلة الثالثة، يتم إضافة المزيد من وكلاء الذكاء الاصطناعي لتشكيل منظومة ذكية متكاملة تعمل كوحدة مستقلة أو كــــ (MVO) يمكنها الوصول إلى مستوى عالٍ من الاستقلالية، حيث تنجز سير العمل بأكمله دون أي تدخل بشري مباشر. ورغم أن البشر يواصلون دورهم في الإشراف العام، فإنهم لا يشاركون في تفاصيل تنفيذ العمليات، بل يتحررون للتركيز على مهام أعلى قيمة وأكثر استراتيجية. ورغم أن هذا النموذج الواعد لم يُختبر بعد على نطاق واسع، فإنه يمثل ذروة الرحلة، حيث تتمكن المؤسسة من تحقيق رؤيتها الكبرى أو ما يُعرف بـ البوصلة الاستراتيجية.

خلال المرحلتين الأولى والثانية، يزداد أثر التغيير عندما يكون الموظفون جزءًا مباشرًا من التجربة. فالقادة باستطاعتهم تمكين العاملين من ابتكار وكلاء ذكاء اصطناعي بأنفسهم، ومنحهم مساحة لتقديم الملاحظات حول أفضل الأماكن التي يمكن أن تندمج فيها هذه التقنية داخل أعمالهم. وهنا يبرز دور القيادة الحقيقية، إذ يضع القادة الأقوياء توقعًا واضحًا بأن الجميع شركاء في إنجاح الذكاء الاصطناعي التوليدي، وأن مساهمتهم هي الضمانة الأساسية لمستقبل المؤسسة. كما أن اختيار العمليات الأولى التي تُطبق عليها الأتمتة بحكمة يُشجّع الموظفين على التبني، خصوصًا إذا لمسوا أن هذه التغييرات ستجعل عملهم أسهل وأكثر سلاسة. ومن ثم، يصبح التركيز على المسارات ذات القيمة الواضحة، والقابلية العالية للتنفيذ، والتكلفة المعقولة هو الطريق الأمثل لتعزيز الثقة والمشاركة.

عندما تصبح مسارات العمل مدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، فإن الموظفين يحتاجون إلى تدريب رسمي يساعدهم على إتقان هذه الأدوات الجديدة. فالتدريب لا يخفف من قلقهم فحسب، بل يعزز ثقتهم في قدرتهم على إنجاز المهام بطرق مبتكرة. وكلما حصل الموظفون على تدريب كافٍ، زاد استخدامهم لأدوات الذكاء الاصطناعي بشكل متكرر مع تحسن مهاراتهم (الشكل 2). وتؤكد أبحاثنا أن 48% من الموظفين في الولايات المتحدة سيستخدمون هذه الأدوات بمعدل أكبر إذا حصلوا على تدريب رسمي، بينما أشار 45% إلى أنهم سيزيدون استخدامها إذا جرى دمجها في سير عملهم اليومي، ما يجعل من هذين العاملين الحافز الأقوى لاعتماد الذكاء الاصطناعي على نطاق أوسع.5

Reconfiguring work: Change management in the age of gen AI

عندما يُدمج الذكاء الاصطناعي التوليدي في العمل اليومي، يتحول من أداة ثانوية إلى عادة ثابتة، ومن مجرد وسيلة إلى شريك حقيقي. هذا ما نجحت فيه ماكنزي عبر منصتها الداخلية "Lilli"، فقد قدّم القادة مثالًا عمليًا باستخدامها بأنفسهم، واعتادوا أن يسألوا في الاجتماعات: هل استعنت بـ "Lilli"؟ كما أصبح تدريب الموظفين الجُدد على المنصة جزءًا من برامج الانضمام، إلى جانب إدراجها في تدريبات المخاطر الدورية لضمان الاستخدام السليم. المنصة لم تتوقف عند ذلك، بل تطورت باستمرار بخصائص عملية يستخدمها الموظفون يوميًا، مثل إنشاء عروض تقديمية بالقوالب الرسمية للشركة، وبناء جداول بيانات، وصياغة مقترحات أولية للعملاء. ومنذ إطلاقها في يوليو 2023، استخدمها 92% من موظفي ماكنزي حول العالم، فيما يعتمد عليها 74% بشكل منتظم، مما وفر أكثر من 30% من الوقت المخصص لجمع المعلومات وتحليلها. وإلى الآن أجابت "Lilli" عما يقارب 19 مليون طلب. لقد ترسخت المنصة لأنها لم تُطرح كأداة مساعدة، بل كجزء أساسي من طريقة عمل الشركة.

الخطوة الرابعة: بناء هيكل تنظيمي جديد يجمع بين الوحدات الذكية والفرق البشرية المعززة بالذكاء الاصطناعي

مع اعتماد الذكاء الاصطناعي التوليدي في سير العمل، سيكون على الرؤساء التنفيذيين أن يحددوا الشكل الأنسب لكل جزء من المؤسسة. فبعض الوحدات يمكن أن تتحول إلى وحدات تشغيل مستقلة تعمل بدرجة عالية من الأتمتة وبأقل قدر من التدخل البشري، بينما ستبقى وحدات أخرى معتمدة على الفرق البشرية، ولكن مدعومة بأدوات رقمية متقدمة تمنحها قدرات أكبر من أي وقت مضى. وفي كلا المسارين، تصبح مسؤولية القادة واضحة: إعادة تصميم الهياكل التنظيمية بما يتماشى مع هذا التحول، والتواصل بشفافية مع الموظفين لشرح ما تعنيه هذه التغييرات لأدوارهم المستقبلية.

تؤدي الوحدات التشغيلية المستقلة أفضل نتائجها عند التعامل مع الأعمال المتكررة أو المعتمدة على المنطق. على سبيل المثال، في العمليات الإدارية الروتينية مثل معالجة الفواتير، يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يتولى مطابقة الفواتير والموافقة عليها وتسجيلها آليًا، وبأقل قدر من التدخل البشري. ويقتصر دور الموظفين هنا على فريق صغير يتولى معالجة الاستثناءات فقط، مما يضمن السرعة والدقة مع تقليل الجهد البشري.

ولإنجاح الوحدات المستقلة، يجب على الشركات الاستثمار في بنية قوية لتشغيل الذكاء الاصطناعي ومراقبته، بالتوازي مع إعادة صياغة استراتيجيات استقطاب المواهب. فالفِرق المسؤولة عن إدارة هذه الوحدات تحتاج إلى خبرات متقدمة في تشغيل الأنظمة وتحليل البيانات ومعالجة الاستثناءات، مما يفتح المجال أمام أدوار جديدة مثل مسؤول تحسين سير العمل بالذكاء الاصطناعي ومدير منتجات الأتمتة. وفي الوقت نفسه، يتطلب الأمر إعادة تأهيل الموظفين الذين كانت مهامهم ضمن هذه العمليات ليتجهوا إلى مجالات تضيف قيمة أكبر للمؤسسة. ولا يعني ذلك أن كل وحدة يجب أن تتحول إلى وحدة ذكية، بل على الرؤساء التنفيذيين اختيار المجالات التي يمكن أن تحقق مدخرات كبيرة في التكلفة وتحسن السرعة والدقة.

ومن ناحية أخرى، ليست كل الوظائف مرشحة للتحول إلى وحدات مستقلة بالكامل أو وحدة ذكية، فهناك مجالات يجب أن تتوقف عند المرحلة الثانية، حيث يعمل الإنسان مدعومًا بالذكاء الاصطناعي. في هذه الحالات، تمنح التقنية الموظفين قدرات غير مسبوقة تعزز إنتاجيتهم، لكن اللمسة البشرية تظل ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها. ويظهر ذلك بوضوح في المبيعات، حيث يساعد الذكاء الاصطناعي في تحليل بيانات العملاء وتقديم توصيات فورية للتسويق الشخصي أو فرص البيع الإضافي، مما يمكّن الموظف الواحد من إدارة عدد أكبر من العملاء وتحقيق نتائج أعلى. وكذلك في خدمة العملاء، حيث تتيح التقنية حل المشكلات بسرعة ودقة أكبر. ومع ذلك، فإن استبعاد العنصر البشري من هذه الأدوار قد يضعف تجربة العميل ويضر بصورة العلامة التجارية.

الخطوة الخامسة: إطلاق طاقات الموظفين ليتحولوا إلى قادة للتعلم والتغيير

لن يكتب النجاح لأي عملية لإعادة تصميم سير العمل بالذكاء الاصطناعي التوليدي ما لم يشارك جميع الموظفين في الرحلة. وتؤكد دراسات ماكنزي حول التحولات التقنية الكبرى أن إشراك العاملين هو العامل الحاسم في رفع فرص النجاح. فغالبًا لا يتجاوز عدد المشاركين مباشرة في جهود التحول 2% فقط من الموظفين، وهو رقم محدود للغاية. لكن المؤسسات التي توسّع المشاركة إلى 7% أو أكثر تضاعف احتمالات تحقيق عوائد إيجابية للمساهمين. أما أفضل النتائج فتظهر عندما يصل معدل المشاركة إلى ما بين 21% إلى 30% من إجمالي القوى العامل، حيث يتحول التغيير إلى ثقافة راسخة داخل الشركة.6

إن إشراك الموظفين كسفراء للذكاء الاصطناعي التوليدي أمر أساسي لنجاح أي تحول، خاصة وأن الاستخدامات الحقيقية لهذه التقنية ما زالت تتكشف يومًا بعد يوم. فبينما يمكن للجميع أن يتعلموا معًا، هناك موظفون يتمتعون بقدرة أكبر على استيعاب التقنية بسرعة، ويمكن أن يصبحوا قادة فعليين لنشرها داخل المؤسسة. هؤلاء يجب على الإدارة أن تحددهم مبكرًا وتوفر لهم الدعم اللازم ليكونوا قدوة لبقية الفريق ولإحداث تغيير ثقافي. وتُظهر الأبحاث أن المديرين من جيل الألفية هم الأكثر حماسة واعتمادًا لهذه التقنيات؛ إذ أبدى 62% من الموظفين في الفئة العمرية 35 إلى 44 عامًا مستوى عالٍ من الخبرة مع الذكاء الاصطناعي، مقابل 50% من الجيل زد (18إلى 24 عامًا)، و22% فقط من جيل الطفرة السكانية ممن تجاوزوا 65 عامًا.7

على الرؤساء التنفيذيين أن يشجعوا الموظفين الأكثر خبرة في استخدام الذكاء الاصطناعي لكي يساعدوا زملائهم ويتبادلوا الممارسات التي أثبتت نجاحها. والأهم من ذلك أن يظهر القادة أنفسهم في الصفوف الأمامية، مستخدمين هذه الأدوات في عملهم اليومي بوضوح وشفافية. هذا الأسلوب يجعل التغيير ينتشر طبيعيًا داخل المؤسسة، ليس فقط كقرار من الإدارة العُليا ولا كمبادرة فردية من الموظفين، بل كثقافة عملية يشارك فيها الجميع.

شهدت ماكنزي إنشاء فريق مختص لتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي وضمان مشاركة الجميع فيه. بدأ العمل بتقسيم الموظفين إلى فئات مختلفة وفقًا لأنماط الاستخدام، ثم إعداد تدريبات مخصصة لكل فئة. شملت المبادرات إنشاء أندية "Lilli" للمستخدمين الأكثر خبرة لتبادل الخبرات والمقترحات، وتنظيم تدريبات فردية لكبار القادة، بالإضافة إلى تزويد المنصة بخصائص ذاتية الإرشاد تمكّن كل موظف من معرفة أفضل الطرق لاستخدامها.

عند بدء العمل بالوكلاء المعتمدين على الذكاء الاصطناعي التوليدي، فتحت ماكنزي المجال أمام جميع الموظفين لتصميم وكلائهم بأنفسهم. هذا النهج سرعان ما أدى إلى مشاركة أوسع، فتحول الاستخدام إلى حركة متنامية داخل المؤسسة. فرغم تطوير نحو 150 وكيلاً على مستوى مركزي، تمكن الموظفون عبر نموذج التطوير اللامركزي المزوّد بضوابط دقيقة لإدارة المخاطر من ابتكار ما يقارب 17,000 وكيل إضافي حتى الآن. وتوفّر منصة "Lilli" إرشادات عملية تساعد كل موظف على بناء وكيله خطوة بخطوة، مع إعداد تعليمات مخصصة تناسب احتياجاته. وبذلك يصبح الموظفون طرفًا مباشرًا في إعادة تشكيل سير أعمالهم. واللافت أن هذا النموذج يختلف عن أسلوب إطلاق البرمجيات المؤسسية التقليدية، إذ يتيح التوسع السريع دون أن يضيف أعباء تقنية أو تعقيدات إضافية على فرق التكنولوجيا.

اتخذت شركة "سينغتل" مسارًا مختلفًا في إدخال الذكاء الاصطناعي التوليدي، حيث وضعت تنمية المهارات في صدارة أولوياتها. ففي أكتوبر 2024، أطلقت الشركة بالتعاون مع جامعة "نانيانغ" التكنولوجية والجامعة الوطنية في سنغافورة برنامج أكاديمية تسريع الذكاء الاصطناعي، لتدريب أكثر من عشرة آلاف موظف في مختلف التخصصات على توظيف البيانات والذكاء الاصطناعي التوليدي بفعالية داخل أعمالهم اليومية.8


على الرؤساء التنفيذيين أن يضعوا منذ الآن خططًا لإعادة تشكيل مؤسساتهم بالكامل، بحيث يعمل الإنسان والذكاء الاصطناعي جنبًا إلى جنب لتحقيق إنجازات غير مسبوقة. صحيح أن هذا التحول العميق يحتاج إلى وقت وجهد، لكن القادة الذين يرسمون رؤية واضحة للمستقبل ويثبتون وجهة مؤسساتهم نحوها، هم من سيقودون التغيير ويضمنون مكانتهم في الغد.

لا يكتمل أي تحول بالذكاء الاصطناعي التوليدي ما لم يُشرك القادة موظفيهم في الرحلة. فإدارة التغيير هنا لا تعني فرض أدوات جديدة، بل خلق ثقافة عمل تشجع على التجربة والمشاركة، وتجعل كل موظف طرفًا فاعلًا في تشكيل المستقبل. وعندما يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كقدرة تعزز إمكانيات الإنسان لا كخطر يهدده، يصبح الاستثمار فيه أكثر قيمة وأثرًا. أما التحول الحقيقي فيتحقق عندما يغدو الذكاء الاصطناعي شريكًا غير مرئي، لكنه أساسي ولا يمكن الاستغناء عنه في الحياة اليومية للمؤسسة.

Explore a career with us