إنّ طريقة إدارة المؤسسات لموظفيها تشهد تحولًا جذريًا، في ضوء ما نشهده من تقدمٍ تكنولوجي، وانتشارٍ لأنماط العمل الهجينة، وتنوع الأجيال في بيئات العمل، بالإضافة إلى تصاعد المخاطر الجيوسياسية والاضطرابات العالمية. وأمام هذا الواقع المتغير، أصبح لزامًا على القادة إعادة صياغة استراتيجيات استقطاب وتنمية المواهب، وتعزيز بيئات العمل الجاذبة، لضمان استمرارية النجاح وتعزيز القدرة التنافسية في سوقٍ سريعة التحول.
شهد العام الماضي تسارعًا ملحوظًا في تبنّي الشركات للتقنيات الحديثة وتطويرها والاستثمار فيها، لاسيما في المجالات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي. وقد أدى ذلك إلى تغييراتٍ جوهرية في أساليب إدارة الأفراد، لتتجاوز ما شهده قطاع الموارد البشرية خلال العقد الماضي بأكمله.
لذا، تسعى العديد من المؤسسات إلى تكييف بيئة العمل لتلبية تطلعات الموظفين المتغيرة، وتعزيز إنتاجيتهم، ورفع قدرتهم على التكيف مع التحديات. وحتى تتمكّن المؤسسات من تحقيق ذلك، لجأت لاعتماد نهجٍٍ جديد أكثر تطورًا، متجاوزةً كافة الأساليب التقليدية في إدارة الأفراد والموارد البشرية.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
لكن، ما هي ملامح هذا النهج المستقبليّ؟ من وجهة نظرنا، يتمحور هذا النهج حول قدرة التكنولوجيا على إعادة تشكيل بيئة العمل بالمؤسسات، حيث ستتيح التقنيات الحديثة للشركات مستقبلًا تقديم تجارب عمل مخصصةً لكل موظفٍ، لتعزز التعاون بين الأفراد والأنظمة الرقمية، إلى جانب تمكين المؤسسات من متابعة الأداء بشكلٍ مستمر لتفادي المشكلات قبل وقوعها. علاوةً على ذلك، ستُسهم الأتمتة في تقليل الأعباء الإدارية عن المديرين، مما يمنحهم وقتًا أكبر للتركيز على التفاعل المباشر مع الموظفين، وتقديم التوجيه والدعم اللازم لكل فردٍ على حدة.
ومن أجل رسم ملامح الرؤية المستقبلية لإدارة الأفراد، أجرينا استطلاعًا لآراء أكثر من 100 متخصص في تكنولوجيا الموارد البشرية، إلى جانب قياداتٍ تنفيذيةٍ من كُبرى الشركات، وأكاديميين وخبراء في مجالي التكنولوجيا وإدارة الكفاءات. وأكدت نتائج هذه الحوارات والأبحاث على الدور المحوري الذي تلعبه الإدارة الناجحة للأفراد في تحقيق التميز المؤسسي. وكشفت الاستطلاعات أن المؤسسات التي تحقق التوازن بين تطوير كوادرها البشرية وتعزيز أدائها المالي، تزداد فرص تفوقها المالي بمعدل أربع مرات، كما تصبح أكثر قدرةً على الحفاظ على مكانتها الريادية في المستقبل، بزيادةٍ تبلغ مرة ونصف مقارنةً بالمؤسسات الأخرى.
في هذه المقالة، نسلط الضوء على مفهومٍ جديد لإدارة الأفراد، ونحدد العناصر الأساسية التي تساعد في تطبيقه على أرض الواقع، كما نضع خطواتٍ عملية واضحة يمكن للمنظمات اتباعها لاعتماد نهجٍ أكثر تميزًا في إدارة فرق العمل.
رؤيةٌ جديدة لمستقبل إدارة الأفراد
ستتطلب إدارة الأفراد الفعّالة في السنوات المقبلة، تركيزًا أكبر على تفاعل الموظفين، وتطوير مهاراتهم، بما يسهم في تعزيز رضاهم وزيادة إنتاجيتهم. كما ستعتمد المؤسسات أيضًا على توزيع المهارات، بحيث يتم توظيف الكفاءات في المهام الأكثر أهمية وفقًا لاحتياجات العمل المتغيرة، إلى جانب الاتجاه لتبني أسلوب قيادةٍ يراعي بشكلٍ خاص البعد الإنساني.
بيئة عملٍ مخصصة لتجربةٍ تُلبي احتياجات الموظفين
لم يعد التخصيص مجرد ميزةٍ إضافية، بل أصبح عنصرًا أساسيًا في الحياة اليومية، إذ يبحث الأفراد عن خدماتٍ مصممةٍ وفق احتياجاتهم، بدءًا من المحتوى الموجه على منصات التواصل الاجتماعي، مرورًا بخطط اللياقة البدنية المصممة بدقة، وصولًا إلى توصيات التسوق والموسيقى. واليوم، يتطلع الموظفون إلى تطبيق هذه الفلسفة داخل بيئات العمل، لتتحول مسيرتهم المهنية إلى تجربةٍ مخصصة، تشمل توجيهًا مهنيًا دقيقًا، وفرصًا تدريبية تتماشى مع تطلعاتهم الشخصية والمهنية.
ولتحقيق ذلك، يتعين على المؤسسات تطوير بيئة العمل لتلبية توقعات الموظفين. في السابق، واجهت المؤسسات الكُبرى التي تعمل في أسواقٍ متعددة، تحدياتٍ تقنيةٍ حالت دون توفير تجارب مهنية مخصصة تأخذ بعين الاعتبار عوامل هامة، مثل اللغة والثقافة وطبيعة الوظيفة والتفضيلات الشخصية. كما شكّلت عملية جمع البيانات وتحليلها من مصادر مختلفة تحديًا إضافيًا، فضلًا عن ارتفاع تكلفة تطبيق هذا المستوى من التخصيص.
إلا أن التطورات التكنولوجية اليوم جعلت الأمر أكثر سهولةً، إذ تتيح الحلول الرقمية للمؤسسات جمع البيانات وتحليلها بدقة، مما يمكنها من تطوير خدماتٍ مخصصة بكفاءةٍ أعلى وتكلفةٍ أقل. فعلى سبيل المثال، قد تتمكن المؤسسات قريبًا من تقديم أنظمة تعويضاتٍ ومزايا مخصصة لكل موظف وفقًا لظروف السوق المحلية، بضغطة زرٍ واحدة. ويُسهم هذا التوجه في تعزيز شعور الموظفين بالتقدير، مما يرفع مستوى التحفيز والإنتاجية.
إلى جانب ذلك، تساعد هذه الحلول المؤسسات في تصميم برامج خاصةٍ بالتطوير المهني، موجهةٌ للقادة والمديرين والموظفين، تراعي مهاراتهم الحالية، والجوانب التي تحتاج إلى تعزيز، مع الأخذ في الاعتبار تطلعاتهم المهنية وأهداف المؤسسة المستقبلية. كما تتيح هذه التقنيات دعم الموظفين في المراحل الحاسمة من مسيرتهم المهنية، وذلك من خلال برامج تأهيلٍ فردية، ودوراتٍ تدريبيةٍ متخصصة، وإرشادٍ مهنيٍ ذكي، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي.
إلى جانب ما سبق من المزايا، يمكن للمؤسسات وإدارات الموارد البشرية أيضًا الاستفادة من أدوات تحليل البيانات المتطورة لقياس أثر هذه المبادرات على تجربة الموظفين وسلوكهم. فمن خلال هذه المؤشرات، يصبح من الممكن بناء بيئة عملٍ تدعم التطوير المستمر وتعزز الكفاءة (يرجى الاطلاع على العمود الجانبي بعنوان "استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير الإرشاد المهني"). كما تُتيح هذه الأدوات المتطورة للمديرين الحصول على معلوماتٍ أكثر دقة، ليصبح من السهل عليهم توجيه فرقهم نحو ما يدعم نموهم المهني. أما على مستوى الأفراد، فقد ينعكس ذلك إيجابيًا على مستوى تفاعلهم ورضاهم وإنتاجيتهم في العمل.
وبفضل التطورات التقنية المتسارعة، تبرز فرصٌ جديدة لجعل تجربة الموظف أكثر توافقًا مع احتياجاته ومتطلباته المهنية. فمن المتوقع أن تصبح أنظمة المساعد الشخصي الرقمي أو التوأم الرقمي أداةً أساسية في إدارة المهام اليومية للموظفين، لما توفر لهم من دعمٍ مباشرٍ على مدار الساعة (يرجى الاطلاع على العمود الجانبي بعنوان "التعرف على المساعدين الشخصيين").
نحو مؤسساتٍ أكثر مرونة
تحتاج المؤسسات لتحقيق أهدافها اليوم إلى تجاوز النماذج التقليدية التي تعتمد على الهياكل الهرمية والمسارات الوظيفية الجامدة. فلا يزال التوظيف في العديد من الشركات يرتكز بشكلٍ أساسي على الخبرات السابقة، بدلًا من التركيز على المهارات الفعلية والإمكانات المستقبلية للموظفين. كما تعتمد العديد من الشركات في أنظمة الترقيات الوظيفية على المسار العمودي، رغم أهمية إتاحة فرص التنقل الوظيفي الداخلي، وهو ما تؤكده دراسات ماكنزي المتخصصة، والتي تشير إلى أن نقص المرونة في هذا الجانب قد يؤدي إلى فقدان المؤسسة لجزءٍ كبيرٍ من قيمتها، إذ أن أكثر من 80 في المائة من تنقلات الموظفين تتم عبر الانتقال إلى شركاتٍ أخرى. بالرغم من التطورات التي تشهدها بيئة العمل، لا تزال المسميات الوظيفية والمسارات المهنية والفئات الوظيفية تحدد المكانة والنفوذ داخل المؤسسات.
فيما تتعامل الإدارات العُليا في العديد من المؤسسات مع الفجوات القيادية بأسلوب ردّ الفعل بدلًا من وضع الخطط الاستباقية لإعداد القادة المستقبليين بشكلٍ منهجي. كما تتأخر بعض الإدارات في معالجة ضعف الأداء القيادي. وفي المقابل، يمكن أن يسهم تقديم الملاحظات البنّاءة والدعم المستمر في تمكين القادة من تطوير مهاراتهم وتعزيز أدائهم المؤسسي.
وفي ظل الاعتماد المتزايد على التقنيات الحديثة، يتوقع أن تصبح إدارة الأفراد أكثر مرونةً واستباقية خلال الفترة المقبلة. فبواسطة تحليل البيانات المتقدمة، ستتمكن المؤسسات من فهم احتياجاتها بشكلٍ أعمق وتحسين عمليات التخطيط للقُوى العاملة بفعالية، مما يتيح لها سرعة التكيف مع المتغيرات الاستراتيجية الطارئة. كما ستساعد هذه التقنيات في إعادة توزيع المهارات المتاحة على المهام الأكثر أهميةً لرفع الكفاءة وزيادة الإنتاجية. بالإضافة إلى ذلك، ستتمكن المؤسسات من اتخاذ قراراتٍ أكثر دقةً بشأن التوظيف، والاستعانة بالكوادر الداخلية أو الخارجية، إلى جانب تطوير مهارات الموظفين وإعادة تأهيلهم لمواكبة متطلبات المستقبل. ومن حسن الحظ أن هذه الإجراءات لن تكون مجرد حلولٍ مؤقتة، بل ستصبح عمليةً مستمرة من التكيف وإعادة الهيكلة والتطوير، مما يمكّن المؤسسات من مواجهة التحديات المستقبلية والتغيرات بشكلٍ فعالٍ ومستدام.
على سبيل المثال، بدأت بعض المؤسسات في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنشاء منصاتٍ رقمية تساعد الموظفين على اكتشاف الفرص الوظيفية داخل مؤسساتهم. وقد تتوسّع بعض هذه المنصات في المستقبل لتتيح للموظفين استكشاف فرص العمل في مؤسساتٍ أخرى (يُرجى الاطّلاع على العمود الجانبي "توسيع قاعدة المواهب"). ويُعد هذا النهج عاملًا حاسمًا في تعزيز التنقُّل الوظيفي، إذ يسمح للمؤسسات بالتكيف السريع مع أي احتياجٍ طارئ لتوظيف أصحاب المهارات. فعندما تحتاج المؤسسات موظفين بمهاراتٍ معينة، يمكنها بسهولة البحث عن موظفين مستقلين أو متخصصين للعمل بعقودٍ مؤقتة لإنجاز مهامٍ محددة. ولكن لكي يحقق هذا النموذج أهدافه، يتعين على إدارات الموارد البشرية تطوير فهمٍ أعمق للاستراتيجيات المؤسسية، وتحديد المهارات المطلوبة بدقة، بما يضمن تحقيق التوازن بين الاحتياجات التشغيلية والتطور المستدام للمؤسسة وموظفيها.
الاهتمام بالبُعد الإنساني
كما قال الاقتصادي " أندرو جيه. سكوت" من كلية لندن للأعمال:" كلما أصبحت الآلات أكثر كفاءةً في أداء وظائفها، أصبح من الضروري أن يركز البشر على تنمية جوانبهم الإنسانية".
ينطبق هذا المفهوم على الجميع، إلا أنّه يبرز بشكلٍ أكبر على مستوى القادة التنفيذيين. إذ يقع على عاتقهم مسؤولية صياغة بيئة عمل متوازنة تستفيد من التطورات التكنولوجية دون أن تكون خاضعةً لها، وهو ما يستلزم امتلاك رؤيةٍ واضحة حول إمكانات هذه التكنولوجيا الرقمية، مع الحرص على توظيفها بشكلٍ أخلاقيٍ ومسؤولٍ لتعظيم ما تقدمه للمؤسسات والمجتمع من قيمة.
ومع تسارع التطورات التكنولوجية والاعتماد على الأتمتة في إنجاز العديد من المهام، أصبح لدى القادة التنفيذيين الوقت الكافي للتركيز بشكلٍ أكبر على الجوانب الإنسانية في إدارة فرق العمل، وذلك بمدّ جسور التواصل مع الموظفين، وإظهار التفهم لمتطلباتهم، واتخاذ القرارات الحكيمة التي تُلبي احتياجاتهم. إذ لم يعد هذا الدور الإنسانيّ مسؤولية قسم الموارد البشرية فقط، بل أصبح جزءًا أساسيًا من مهام القادة أنفسهم. ومن هذا المنطلق، يقع على عاتق القادة مسؤولية دعم فرق العمل لتمكينهم من مواكبة التغيرات التقنية والاستفادة منها على الوجه الأمثل، فضلًا عن تبديد المخاوف المحتملة لدى الموظفين عند دمج أنظمةٍ وأدواتٍ جديدة في بيئة العمل.
أمّا إدارات الموارد البشرية، فتلعب دورًا محوريًا في تمكين القادة من تحقيق التوازن بين الجانب التكنولوجي والاعتبارات الإنسانية، فهي تزودهم بالأدوات والمعرفة اللازمة لتعزيز قيادتهم بأسلوب أكثر إنسانيةً. كما تضطلع هذه الإدارات بمهمة تقديم استشاراتٍ أخلاقية للإدارة العُليا لضمان الاستخدام المسؤول للتقنيات الرقمية، إلى جانب وضع استراتيجياتٍ متكاملة لتطوير المهارات القيادية وتعزيز جاهزية الموظفين لمواكبة التحولات المستقبلية دون قلق. وعلى المدى البعيد، ستتحول إدارات الموارد البشرية إلى عنصرٍ استراتيجيٍ فاعلٍ في صياغة ملامح المؤسسة، من خلال تقديم رؤى واضحة حول آليات العمل، وآليات تحقيق التوازن بين التطور الرقمي ورفاهية الموظفين، مما يجعلها شريكًا أساسيًا في عملية اتخاذ القرار داخل المؤسسة.
نموذجٌ تشغيلي متطور لإدارة الموارد البشرية
بالنّظر إلى التطورات الحالية في مشهد الأعمال، فمن المتوقع أن تشهد إدارة الموارد البشرية تحولًا كبيرًا يتطلب تبني أساليب عملٍ جديدة لتطوير الأداء المؤسسي في ظل المسؤوليات المتزايدة. فمن المُرجّح أن تتغير طبيعة العديد من المهام الوظيفية، بما في ذلك قادة الموارد البشرية، ليصبحوا أحد عناصر القيادة الأساسية الثلاث ضمن فريقٍ قيادي مُتكامل يعمل على تحديد توجهات المؤسسة ورسم استراتيجيتها. كما يُنتظر أن يشهد النموذج التشغيلي لإدارة الموارد البشرية تطورًا ملحوظًا، وهو ما يستلزم اعتماد حلولٍ تقنيةٍ متقدمة لمواكبة التحديات المتزايدة وإدارتها بجودةٍ أعلى من ذي قبل.
تأسيس قيادةٍ إستراتيجية ثلاثية
من المتوقع أن تتحوّل مهام إدارة الموارد البشرية في المستقبل لتصبح أكثر تخصصًا وتركيزًا على وضع الخطط الاستراتيجية التي تدعم الأهداف المؤسسات. وتشير الدراسات إلى أن حوالي 20 في المائة فقط من المهام ذات البعد الاستراتيجي ستظل ضمن نطاق مسؤوليات الموارد البشرية، بينما ستتم أتمتة ما يقرب من ثلثي المهام التقليدية الحالية، الأمر الذي سيُعيد تشكيل طبيعة العمل في هذا المجال (الشكل 1).
وفي ظل الإمكانات الكبيرة التي تتيحها الأتمتة، ستتمكن إدارة الموارد البشرية من تركيز جهودها على الأنشطة التي تسهم في تحسين أداء المؤسسة، كتطوير الهياكل التنظيمية، وتعزيز بيئة العمل، ودعم القادة والمديرين وتمكينهم من أداء أدوارهم بكفاءة. كما ستصبح أكثر قدرةً على التكيف مع التحديات المتجددة، بما يضمن مرونة الأداء المؤسسي في بيئةٍ تتسم بالتغير المستمر.
في المقابل، سيقلّ الطلب على الوظائف التي تتطلب مهاراتٍ متوسطة أو محدودة، بينما ستزداد الحاجة إلى مختصّين في تحليل البيانات والأنظمة الإدارية، إضافةً إلى خبراء في مجالاتٍ مثل تطوير بيئة العمل، والتدريب، والقيادة، وتحسين الأداء المؤسسي. ولمواكبة هذا التحوّل، يتحتم على إدارة الموارد البشرية تغيير طبيعة العمل لتصبح أكثر ترابطًا ومرونة، وذلك بالاعتماد على الخبرات المتخصصة والتقنيات الحديثة، مع التركيز بشكلٍ أكبر على المشروعات والاستراتيجيات التي تعزز من قيمة المؤسسة.
يساعد هذا النهج في تطوير إدارة الموارد البشرية وتحولها من مجرد مستهلكٍ للموارد لقيام بدورٍ فعال يُحقق قيمةً مضافة للمؤسسة، من خلال قيادةٍ ثلاثيةٍ متكاملة لفريقٍ يضم مدربين، وخبراء متخصصين في مختلف المجالات، بالإضافة إلى مختصّين في الحلول الرقمية، تكون مهمتهم الأساسية تطوير أساليب جديدة لتنفيذ المهام الإدارية بطريقةٍ أكثر تميُّزًا وابتكارًا.
- خبراء تخطيط القوى العاملة: يلعب خبراء تخطيط القوى العاملة دورًا محوريًا في دعم القيادات التنفيذية. فهؤلاء الخبراء يعملون كمستشارين متمرسين لتحسين الأداء المؤسسي عبر ترجمة الأهداف الاستراتيجية إلى خططٍ عملية تتعلق بالموظفين والهيكل التنظيمي. ويعتمد نهجهم على تحليل ما لديهم من بيانات، مما يتيح لهم تقديم رؤى دقيقة تسهم في رسم سياسات الموارد البشرية. ومع توسُّع نطاق دورهم ليشمل استشراف الاتجاهات المستقبلية للصناعة وتطوير استراتيجيات الأعمال، بات من الضروري امتلاكهم مهارات التحليل النقدي والقدرة على تقديم الحلول العملية التي تساعد في اتخاذ قراراتٍ دقيقة تدعم استدامة النمو المؤسسي.
- علماء الموارد البشرية: انتقل علماء الموارد البشرية من العمل في أقسامٍ متخصصة داخل المؤسسات إلى التأثير المباشر في القرارات الاستراتيجية. فبعد أن كان تركيزهم مُنصبًّا على تطوير أفضل الممارسات في مجالاتٍ مثل التعلم والتطوير وإدارة المواهب، باتوا اليوم جزءًا لا يتجزأ من عملية اتخاذ القرار، يعتمدون في ذلك على تحليل البيانات لصياغة استراتيجياتٍ فعالة تعزز الأداء الوظيفي والمؤسسي. ويتم توجيه هؤلاء الخبراء للعمل على الأولويات القصوى، بما في ذلك تصميم برامج التدريب وتنمية المهارات القيادية، إلى جانب تنفيذ المبادرات التي تعزز بيئة العمل وترتقي بتجربة الموظفين، مما يدعم تحقيق الأهداف المؤسسية ويرتقي بالأداء العام.
- خبراء تقنيات إدارة الموارد البشرية: هم مجموعةٌ من الخبراء الذين يتمتعون بمهاراتٍ تقنيةٍ عالية تؤهلهم لدعم المؤسسات في تعزيز فعالية أنظمتها الرقمية، وهو ما يجعلهم يشكلون نسبةً كبيرة من فرق الموارد البشرية الحديثة، وذلك مقارنةً بما هو مُتّبعٌ حاليًا في إدارات الموارد البشرية التقليدية، إذ لا يزال الاعتماد على الخبرات التقنية محدودًا. ويضم هذا الفريق علماء البيانات، الذين يعملون على تحليل البيانات لاستخلاص رؤى تدعم عملية صنع القرار، وخبراء البنية التحتية، الذين يطورون الأنظمة التقنية لضمان كفاءتها وتوافقها مع احتياجات المؤسسة، فضلًا عن مسؤولي إدارة المورّدين، الذين يتولون إدارة العلاقات مع مزوّدي الحلول التكنولوجية، مثل الأنظمة التقنية، والبرمجيات والحلول السحابية. ويُعد هؤلاء الخبراء المحرك الرئيسي لمنظومة تحليل البيانات داخل المؤسسة، حيث يعملون على تصميم وتطوير الأنظمة الرقمية التي تدعم إدارة الأفراد والهيكل التنظيمي. كما تتجاوز طبيعة عملهم نموذج العمل التقليدي، إذ يعملون معًا ضمن فرقٍ محلية أو منصاتٍ افتراضية.
إعادة هيكلة نموذج إدارة الأفراد
تشير دراساتنا إلى أن أكثر من 75 في المائة من إدارات الموارد البشرية لا تزال تعتمد إلى حدٍ كبير على النموذج التقليدي الذي وضعه "ديفيد أولريش"، والذي قسّم فيه إدارة الموارد البشرية إلى ثلاثة أقسامٍ رئيسية: فرقٌ متخصصةٌ في دعم الإدارات المختلفة، ومراكز الخدمات المشتركة، ومراكز التميُّز المتخصصة المعنيّة بتطوير المهارات، وإدارة التعويضات والمزايا.1
بينما يحمل المستقبل رؤيةً مختلفة، تتبنى فيها إدارات الموارد البشرية نموذج عملٍ أكثر ديناميكيةً، يقوم على تشكيل فرقٍ متخصصة وفقًا لأولويات العمل بدلًا من الالتزام بالهياكل التقليدية الثابتة. وسيتم تخصيص الخبراء بناءً على الاحتياجات الأكثر أهمية، مما يضمن تحقيق أقصى استفادةٍ من مهاراتهم في دعم الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة. وبدلًا من مراكز التميز التقليدية التي تعمل بشكلٍ مستمر في مجالاتٍ محددة، ستظهر فِرق عملٍ افتراضية تضم متخصصين من مختلف الأقسام، يعملون معًا على مشاريع محددة لتحسين الأداء المؤسسي. وبعد الانتهاء من المهمة وتحقيق الأهداف المطلوبة، يتم تفكيك هذه الفرق وإعادة توزيع أعضائها على المشاريع الأكثر تأثيرًا في نجاح المؤسسة، عملًا بمبدأ "توزيع الكفاءات بحسب القيمة".
فيما ستعتمد مراكز الخدمات المشتركة على أتمتة المهام الإدارية بشكلٍ أكبر. فمن المتوقع أن يتم توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وأتمتة العمليات الروبوتية لإنجاز المهام الإدارية، مما يزيد من دقة العمليات التشغيلية. كما سيتم الاستعانة بمساعدين رقميين لتقديم الخدمات، مما يتيح للموارد البشرية التركيز على الأدوار الأكثر استراتيجيةً، والتي تتمثل في تحليل بيانات الموظفين، والإشراف على الأنظمة التكنولوجية، وتقديم رؤى تسهم في توجيه الموارد نحو المجالات الأعلى قيمةً وتأثيرًا على نمو الأعمال.
ومع هذا التحول، ستصبح الحاجة إلى إعادة تقييم المعايير التقليدية لإدارات الموارد البشرية أمرًا ضروريًا، خاصةً مع تزايد دور الأتمتة في إدارة شؤون الموظفين. ومن المُرجّح أن تُسهم هذه التغييرات في زيادة نسبة موظفي الموارد البشرية عن النسبة المعتادة، والتي تكشف عن وجود موظفٍ واحدٍ للموارد البشرية لكل 80 موظفًا تقريبًا. وبالتوازي، ستعمل إدارات الموارد البشرية المستقبلية على تعزيز تواجد الكوادر المتميزة، لا سيما في مجال التكنولوجيا الحديثة.
التكنولوجيا بوابة حل المشكلات والعبور نحو المستقبل
تعتمد أساليب عمل الموارد البشرية واستراتيجيات تطوير إدارة الأفراد على التقدم التكنولوجي بشكلٍ كبير. وبالرغم من التحولات الكبيرة التي يشهدها هذا المجال بفضل زيادة الاعتماد على الحلول الرقمية والاستثمار فيها، إلا أن الطريق لا تزال طويلة أمام إدارات الموارد البشرية ومؤسساتها. فقد بات من الضروري أن تعمل هذه الإدارات باستمرار على تحسين قدراتها لمواكبة التطور التكنولوجي، فإتقان المهارات التكنولوجية لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورةً حتمية لضمان استمرارية الأداء الفعّال.
ولتتمكن المؤسسات من تلبية احتياجات المستقبل، لا بد لها من بناء قاعدة بياناتٍ موحدة، لتضم كافة المعلومات حول الموظفين ومسارات العمل المختلفة، وتكون بمثابة العقل الذي يربط أجزاء المنظومة ببعضها، بدلًا من الاعتماد على أنظمةٍ متفرقةٍ ومكلفة في الوقت ذاته. وفي هذا السياق، يتعين على المؤسسات تطوير بنيةٍ تكنولوجيةٍ متكاملة ومُبسّطة تعتمد على الحلول الحديثة كالحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي (الشكل 2).
يعزز تبسيط البنية التكنولوجية كفاءة العمليات الإدارية ويحدّ من تعقيدات الإدارة التقليدية، فهو يتيح الوصول الفوري إلى بيانات الموظفين ومؤشرات الأداء المؤسسي (يُرجى الاطّلاع على العمود الجانبي "بناء مركزٍ مُوحّد للبيانات"). كما يسهم في تحسين تجربة الموظفين، من خلال توفير منصةٍ موحدة تمكّنهم من تنفيذ مختلف العمليات الإدارية بسهولة، مثل التوظيف والتدريب والتطوير المهني، دون الحاجة إلى التنقل بين المنصات المختلفة، مما يضمن انسيابية الأداء ودقة العمليات التشغيلية.
على أعتاب عصرٍ جديد
تتجه إدارة الموارد البشرية نحو دورٍ أكثر استراتيجيةً وتكاملًا، بفضل بمرونتها وقدرتها على التعاون الفعّال، واعتمادها على البيانات في اتخاذ القرارات. ويمكن تحقيق ذلك بدمج المهارات البشرية مع التقنيات المتطورة، للحصول على نتائج إيجابية تدعم نمو الأعمال وتعزز استدامتها (الشكل 3).
واستنادًا لأبحاثنا، فإن عددًا محدودًا فقط من الشركات، لا يتجاوز 5 في المائة، نجحت في دمج التقنيات الحديثة ضمن أنظمتها لإدارة الموارد البشري، بينما لا تزال أغلبية المؤسسات في مراحل التخطيط والإعداد، حيث تعمل هذه المؤسسات على وضع استراتيجياتها المستقبلية، وتحديد أسُس دمج التكنولوجيا الحديثة في إدارتها لشؤون الموظفين، إلى جانب دراسة الضوابط والمعايير اللازمة لضمان استخدام هذه الأدوات بشكلٍ مسؤول يحترم الخصوصية ويحقق الأهداف المرجوة. ولتسريع هذا التحول، يمكن للمؤسسات اتباع الخطوات العملية الآتية وفقًا لمستوى نضجها الرقمي (الشكل 4).
- بالنسبة للمؤسسات الاستراتيجية التي تخطو أولى خطواتها في رحلة التحوُّل الرقمي، فعليها البدء بتحديد رؤيةٍ واضحة ترسم ملامح التطوير، مع ضرورة تقديم المبررات القوية لإقناع أصحاب القرار بجدوى الاستثمار في تطوير إدارة الموارد البشرية عبر تبنّي التقنيات الحديثة في العديد من الأمور (مثل تحليل بيانات الموظفين). ويمكن لهذه المؤسسات البدء بتجارب محدودة، مثل إطلاق مشروعاتٍ تجريبيةٍ صغيرة لاختبار فعالية الأدوات الرقمية الجديدة، والاعتماد على نتائج تلك التجارب لتحديد المهارات والإمكانات التي تحتاجها المؤسسة للمضي قدمًا في عملية التحول الرقمي، مما يساعدها على اتخاذ قراراتٍ مدروسة بشأن استثماراتها المستقبلية.
- أما بالنسبة للمؤسسات التي تسعى للتوسُّع وتحقيق أقصى استفادة من التطورات التكنولوجية، فيتحتّم عليها مواصلة العمل على تحسين مهارات موظفيها وتطوير أنظمتها بشكلٍ مستمر. ويمكنها تحقيق ذلك من خلال العديد من الوسائل، كاختبار الحلول الرقمية الجديدة، وقياس فعاليتها، وتوسيع نطاق استخدامها بناءً على نتائج هذه الاختبارات. كما يتطلب الأمر مراجعة دور إدارة الموارد البشرية بشكلٍ منتظم، وتعزيز تعاونها مع الإدارات المختلفة، إلى جانب إنشاء بنيةٍ تحتيةٍ قوية قائمة على البيانات والتقنيات الحديثة لدعم العمليات المؤسسية بشكلٍ أكبر.
- أما المؤسسات صاحبة الرؤية، والتي حققت تقدمًا ملحوظًا في تبني الحلول الرقمية في إدارة الموارد البشرية لديها، فيتعيّن عليها الانتقال إلى نموذجٍ يعتمد بشكلٍ كامل على التكنولوجيا المتقدمة. وهو ما يتطلب إعادة النظر في أساليب إدارة الموارد البشرية على نطاق المؤسسة ككل، حتى يتم توظيف البيانات لدعم الإدارة العليا في اتخاذ القرارات الدقيقة المتعلقة بتخصيص الموارد البشرية، وتوجيهها نحو المجالات التي تحقق أعلى قيمة للمؤسسة..
بغض النظر عن مستوى التحوُّل الرقمي، يجب على المؤسسات والقادة تبنّي نهجًا استراتيجيًا يضمن لها تحقيق أقصى استفادة من هذا التحوُّل. ولضمان النجاح، هناك مجموعةٌ من الركائز الأساسية التي ينبغي للمؤسسات التركيز عليها:
- تحديد رؤيةٍ واضحة للمستقبل. على المؤسسات أن تدرك القيمة الفعلية للتحوُّل الرقمي في إدارة الأفراد، وأن تحدد أهدافها بوضوح، سواءً على المدى القريب أو البعيد، مع التركيز على تحقيق نتائج ملموسة تساهم في تعزيز الأداء المؤسسي.
- تشكيل فريقٍ متخصص لتطوير إدارة الأفراد. يتطلب التحوُّل الناجح إنشاء فريقٍ مركزي يضم ممثلين من إدارة الموارد البشرية، والمالية، وتقنية المعلومات، وقطاعات الأعمال، لضمان التناغم بين خطط إدارة الأفراد والأهداف المؤسسية، وتعزيز التعاون بين مختلف الإدارات.
- إعادة توزيع الأدوار بين الإدارة والموظفين. ينبغي على المؤسسات إعادة توزيع المهام بين القادة التنفيذيين ومسؤولي الموارد البشرية، مع التحديث الرقمي لعملياتها المعتادة، لتبسيط الإجراءات الإدارية وتعزيز التواصل بين الأقسام. كما يمكن للمؤسسات الاستفادة من الخبرات الخارجية وبناء بيئة عملٍ أكثر تكاملًا وانفتاحًا.
- التجربة والتطوير والتوسُّع في الحلول الفعالة. فعلى المؤسسات أن تختار أولوياتها بعناية عند تجربة أفكارٍ جديدة، لتضمن تحقيق الفائدة للموظفين والمديرين والأعمال على حدٍ سواء. ويُفضّل أن تبدأ هذه المؤسسات رحلتها بتنفيذ مشروعاتٍ صغيرة، ثم المضي قُدُمًا، مع تقييم التجربة بشكلٍ مستمر وإجراء التعديلات عليها إذا لزم الأمر.
- الاستثمار في التكنولوجيا وإدارة التغيير. لا يقتصر التحول الرقمي على تبنّي الأدوات الحديثة فحسب، بل يتطلب أيضًا تهيئة فرق العمل للتعامل معها منذ البداية، من خلال تطوير مهارات القادة ومسؤولي الموارد البشرية، وترسيخ ثقافةٍ تنظيميةٍ مرنة قادرة على التكيف مع المستجدات.
- مواصلة التقدم. لتحقيق نجاحٍ مستدام، يجب على المؤسسات قياس النتائج بشكلٍ دوري، والاحتفاء بما تم من إنجازاتٍ، مع التركيز على تنمية قدراتها لضمان الاستمرارية والتطور.
تواجه المؤسسات اليوم مُنعطفًا حاسمًا في أسلوب إدارة الأفراد، إذ لم تعد إدارات الموارد البشرية مجرد جهةٍ تنفيذية، بل أصبحت محركًا استراتيجيًا يقود المؤسسة نحو مستقبل يعتمد على المرونة، والابتكار، والتحول الرقمي في بيئات العمل المتقلّبة. وخلال السنوات المقبلة، ستتجه المؤسسات لتبنّي نموذجًا إداريًا أكثر مرونة، يضع العنصر البشري في صميم اهتمامه، ويعتمد على التكنولوجيا في تعزيز الأداء. إن هذا التحول لا يسهم فقط في رفع كفاءة العمل، بل يعزز أيضًا من شعور الموظفين بالانتماء ويزيد من إنتاجيتهم. وبغض النظر عن المرحلة التي وصلت إليها المؤسسة في رحلة تطورها الرقمي، يبقى الأهم هو اغتنام الفرص المتاحة، وتسخير الإمكانات الحديثة لتحقيق قيمةً حقيقية ومستدامة للأعمال.