ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
وإذا كان التركيز الفردي هو ما يمنح لحظة التفاعل معناها الحقيقي، فإن تقرير ماكنزي الأخير يذهب أبعد من ذلك ليكشف حقيقة بالغة الأهمية: ليس كل انتباهٍ يُعدّ متساويًا. فخلف الأرقام المتقاربة، تتباين مستويات التركيز وتختلف قيمته الفعلية بين مستخدم وآخر ومشهد وآخر. وقد شكّل هذا الاكتشاف محور نقاش مستفيض في إحدى حلقات "بودكاست ماكنزي"، حيث تناول الشريك الإداري "كابير أهوجا"، إلى جانب مديرة التحرير "روبرتا فوسارو"، ما بات يُعرف بـ "معادلة الانتباه"؛ وهي إطار تحليلي يتيح لجهات الإعلام فهْمًا أدقّ لكيفية تعظيم العائد من استثماراتها في المحتوى. ويشير "أهوجا" في هذا السياق إلى أنّ جوهر المسألة لا يرتبط بعدد المشاهدات بقدر ما يرتبط بنمط التركيز وجودته، فالقيمة لا تُقاس بكمّ العيون الموجَّهة نحو الشاشة، بل بمدى يقظة تلك العيون وقدرتها على التفاعل بوعي مع ما يُقدَّم لها.
ويأتي هذا النقاش ضمن سلسلة من الحوارات التي يقدّمها "بودكاست ماكنزي"، البرنامج الذي تتشارك في استضافته كلٌّ من لوسيا راهيلي وروبرتا فوسارو، ليشكّل منصة تجمع بين التحليل المعمّق والرؤى التي تعكس خبرة ماكنزي في قراءة تحولات مختلف الصناعات والقطاعات ومسارات تطورها.
مستجدّات ما ينشره موقع ماكنزي"McKinsey.com"
لوسيا راهيلي: قبل أن ننتقل إلى ما سيطرحه "كابير"، دعونا نتوقف عند أحدث المواد المنشورة على موقع ماكنزي. فقد صدر مؤخرًا تقرير يستعرض كيف يمكن للاستثمار الأجنبي المباشر، بصيغته المتحوّلة اليوم، أن يسهم في رسم ملامح مستقبل الصناعة والتجارة، ويفتح آفاقًا جديدة لفهم التحولات العميقة التي تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي.
روبرتا فوسارو: وإلى جانب هذا التقرير، يتضمن الموقع أيضًا مقالًا لافتًا بعنوان "روّاد الاستراتيجية"، يستعرض الأساليب التي تعتمدها الشركات المتقدمة في وضع خططها وتحريك فرقها نحو التنفيذ الفعلي. ويبيّن المقال، من خلال قراءة معمّقة لتجارب تلك الشركات، أن قوة الاستراتيجية لا تتجلى في صياغتها فحسب، بل في قدرتها على توجيه المنظمة بكاملها، ويؤكد المقال أن أهمية الاستراتيجية تتضاعف في الفترات التي يشوبها عدم الاستقرار، إذ تصبح الاستراتيجية بمثابة البوصلة التي تحافظ على تماسك القرار ووضوح الاتجاه.
وبعد استعراض أبرز المواد المنشورة على موقع ماكنزي، ينتقل الحوار الآن إلى الشريك الإداري في ماكنزي، "كابير أهوجا"، ليقدّم رؤيته حول مفهوم "معادلة الانتباه" والدلالات الأعمق لهذا التحول في فهم تفاعل المستهلك.
مَن يصغي حقًا في زمن تشتّت الانتباه وعالم مزدحم بالمحتوى؟
روبرتا فوسارو: منذ أن بدأت الشركات رحلتها في الأسواق، والشركات تسعى إلى انتزاع انتباه المستهلك ودفعه إلى اتخاذ خطوة ما أو شراء منتج بعينه. غير أنّ هذه المهمة باتت اليوم أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. فعندما أنظر إلى أطفالي، أجدهم يقومون بأكثر من نشاط في اللحظة نفسها: يلعبون لعبة إلكترونية، ويتابعون برنامجًا تلفزيونيًا على الشاشة، وفي الوقت ذاته يتبادلون الرسائل مع أصدقائهم. وهذا المشهد يثير سؤالًا جوهريًا: ما الذي يحدث فعلًا لانتباه المستهلك في هذا العصر؟ وكيف أصبح الانتباه موزّعًا على هذا النحو بين وسائط لا تنتهي؟ وما الذي جعل جذب هذا الانتباه مهمة أعقد من أي وقت مضى؟
كابير أهوجا: من الطريف أنّني حين أفكر في مسألة الانتباه، أجد نفسي أتجه مباشرة إلى المثال نفسه: أطفالي. لكن الحقيقة أنّنا لسنا أفضل حالًا منهم؛ فنحن أيضًا نقفز بين الشاشات والمهام بالطريقة ذاتها، وكأن تشتّت الانتباه أصبح سلوكًا عامًا يشمل مختلف الأجيال.
روبرتا فوسارو: صحيح، هذا الواقع.
كابير أهوجا:الحقيقة أنّ الجميع بات يعيش حالة من الانتباه المجزّأ. والمثير في هذا التحوّل أنّنا، رغم تشتّت تركيزنا، نمنح الوسائط نصيبًا أكبر من وقتنا مقارنة بأي وقت مضى. فالمستخدم الأمريكي العادي، على سبيل المثال، يقضي ما بين 12 و13 ساعة يوميًا في التعامل مع وسائل الإعلام المختلفة.1 والسؤال هنا: من أين يأتي كل هذا الوقت؟ جزء منه يعود إلى تمدّد الفترة التي نقضيها مع المحتوى نفسه، وجزء آخر يرتبط بفكرة استخدام جهازين في آن واحد، وهو ما يضاعف زمن التعرّض للمحتوى دون أن يزيد من قوة الانتباه بالضرورة
وفي الواقع، شهدنا خلال فترة الجائحة قفزة لافتة في معدلات الوعي والتركيز الذهني؛ فقد ارتفع حجم الوقت الذي نمضيه مع المحتوى بشكل حاد، والمفارقة أنّ هذا الارتفاع لم يتراجع بعد انتهاء الجائحة. فبينما يواصل الزمن المخصّص للوسائط صعوده، يتسارع في المقابل حجم المحتوى المطروح في العالم بوتيرة أكبر. ويعود جانب كبير من هذا التضخم إلى المحتوى الذي ينتجه المستخدمون أنفسهم، والذي أصبح يشكّل كتلة هائلة تضيف آلاف الساعات من المواد الجديدة كل يوم. وهكذا نجد أنفسنا أمام معادلة غير متوازنة، بحيث تأخذنا إلى مزيد من ساعات الوعي والتركيز الذهني، لكن مقابلها تدفّق أكبر بكثير من المحتوى الذي ينافس على تلك الساعات.
روبرتا فوسارو: عندما أتخيّل ما يمكن أن ينجزه المرء لو امتلك 12 إلى 13 ساعة إضافية في يومه، يبدو الأمر مذهلًا بالفعل. لكن إذا عدنا إلى ما ذكرته قبل قليل، يبرز سؤال مهم أمام الشركات: ما دلالة هذا الارتفاع الهائل في ساعات الوعي الإعلامي للمستهلك؟ وكيف يمكن للمؤسسات أن تخترق هذا الضجيج، وتجذب الجمهور وسط هذا التدفق اللامحدود من المحتوى، ثم الأهم من ذلك، كيف تحوّل هذا الوعي والتركيز الذهني إلى قيمة تجارية فعلية؟
وبحسب التقديرات الحديثة، يقضي الفرد العادي ما بين 12 و13 ساعة يوميًا في التفاعل مع وسائل الإعلام بمختلف أشكالها.
كابير أهوجا: من ناحية الوصول، بات الأمر أسهل من أي وقت مضى؛ فالقنوات الرقمية تتيح للشركات الوصول إلى جمهورها دون عناء يُذكر. لكنّ التحدي الحقيقي لا يكمن في العثور على الجمهور، بل في فهم سلوكه أثناء هذا الوصول. فنحن نعيش اليوم في زمن الاستخدام المتزامن لعدة شاشات، أو ما يُعرف بـ "الشاشة المزدوجة"، أي أن الفرد يتابع محتوى على جهاز ما كالتلفاز مثلاً، وفي الوقت ذاته يستخدم هاتفه المحمول للتصفح أو المحادثة. وهذه الظاهرة شائعة بدرجة لافتة؛ إذ يستخدم نحو 90% من أبناء الجيل زد شاشتين في اللحظة نفسها، ولا تختلف النسبة كثيرًا لدى الفئات العمرية الأخرى. وهنا يصبح السؤال العملي بالنسبة للشركات: ليس "هل أستطيع الوصول إلى المستهلك؟" فهذا أصبح مضمونًا، بل السؤال الحقيقي هو "ما مدى فعالية هذا الوصول في بيئة يتوزّع فيها وعي المستهلك وتركيزه الذهني على أكثر من شاشة؟" وهل تُستثمر هذه اللحظة بطريقة تمنح العلامة التجارية حضورًا فعليًا أم أنها تمرّ دون أثر يُذكر؟
روبرتا فوسارو: وإذا أخذنا هذا الواقع في الاعتبار، يبرز سؤال آخر لا يقل أهمية: هل توجد قنوات إعلامية تحقق تأثيرًا أقوى في جذب الجمهور مقارنة بغيرها؟ وهل يميل الناس إلى تمضية أغلب وقتهم في قناة واحدة على حساب الأخرى؟ أودّ أن نستعرض الفروق بين هذه القنوات، وكيف يخلق كل منها نمطًا مختلفًا من التفاعل وطريقة خاصة لحضور المحتوى في ذهن الجمهور.
كابير أهوجا: بالفعل، هناك فروق واضحة بين القنوات الإعلامية نفسها، بل وحتى داخل القناة الواحدة تختلف أنماط الوعي والتركيز الذهني بشكل كبير. ولتفهّم هذه الفروق بدقة، أجرينا دراسة واسعة شملت آلاف المستخدمين حول العالم، بهدف رصد سلوكياتهم في كيفية توجيه وعيهم وتوزيع تركيزهم أثناء استهلاكهم للمحتوى.
وإذا نظرنا إلى المشهد الإعلامي من حولنا، نجد أن مقاطع الفيديو على منصّات التواصل أصبحت الحاضر الأكبر في يوم الناس العادي. فهي تأخذ حيز كبير وسريع، لكنها في الحقيقة ليست نمطًا واحدًا ولا تمنح التجربة ذاتها للجميع. فالفيديو الذي يشاهده الشخص على "تيك توك" أو "يوتيوب" يختلف تمامًا عن تجربته على منصّات أخرى، والسبب يعود إلى الطريقة التي تقترح بها هذه المنصّات المحتوى للمستخدم. فخوارزميات التوصية فيها - بكل ما فيها من ذكاء وتحليل - تجعل المشاهد يشعر بأن المحتوى "مخصص له"، ولهذا تحقق هاتان المنصّتان معدلات أعلى من رضا المستخدمين مقارنة بغيرهما من منصّات الفيديو الاجتماعي.
والمفارقة أنّ هذا الانتشار الواسع لمحتوى الفيديو على منصّات التواصل لا يعني بالضرورة أنّه نشاط اجتماعي كما يوحي اسمه؛ بل على العكس تمامًا، فهو من أكثر الأنشطة التي يعيشها الفرد وحيدًا. فحوالي 80 في المئة من مستخدمي فيديوهات التواصل يشاهدون هذا المحتوى بمفردهم، دون مشاركة أحد. وهذه إحدى النتائج التي لفتت انتباهنا في الدراسة. وهناك أيضًا ملاحظات أخرى مثيرة للاهتمام سنأتي إليها لاحقًا.
ومن بين الملاحظات التي كشفتها الدراسة أيضًا، أنّ ألعاب الفيديو بمختلف أنواعها تولّد مستويات عالية جدًا من الوعي والتركيز الذهني لدى اللاعبين، ربما أعلى من أي نوع آخر من المحتوى. ومع ذلك، ورغم هذا الحضور الذهني القوي، لا يبدو أن هذا التركيز يُستثمر تجاريًا بالشكل الذي يعكس قيمته الحقيقية، ما يشير إلى فجوة كبيرة بين قوة التفاعل في هذا القطاع وبين قدرته على تحقيق عائد فعلي.
علاوة على ذلك، من الملاحظات اللافتة التي رصدتها الدراسة أيضًا، أنّ منصّات البثّ المدفوع ما تزال تحافظ على مستوى عالٍ من ولاء المستخدمين، كما تواصل نموّها بشكل مستقر. فالمشاهدون يقضون وقتًا طويلًا في البحث عمّا سيشاهدونه، وهذا أمر طبيعي في بيئة واسعة الخيارات. لكن المفارقة تظهر بعد لحظة الاختيار؛ إذ يتضح أنّ البثّ المدفوع هو من أكثر القنوات التي ينشغل فيها المشاهد بأكثر من نشاط في الوقت نفسه. فقرابة 90 في المئة من المستخدمين يمسكون بهواتفهم مرة واحدة على الأقل - وغالبًا مرات عدة - أثناء مشاهدتهم للمحتوى عبر هذه المنصّات، ما يعني أنّ الحضور الذهني يتوزع بين الشاشة الأساسية وشاشة الهاتف بشكل مستمر.
كيف نقيس لحظة وعي المستهلك ومستوى تركيزه الذهني؟
روبرتا فوسارو: ما تحدثت عنه حتى الآن يجعل الصورة أكثر وضوحًا، ولهذا أودّ أن ننتقل إلى مصطلح تكرر كثيرًا في النقاش، "معادلة الوعي والتركيز الذهني"، ما المقصود بهذه المعادلة تحديدًا؟ وكيف تعرّفونها من منظوركم في ماكنزي؟
كابير أهوجا: عندما بدأنا العمل على هذه المعادلة، جمعنا بيانات من أنحاء العالم كافة، ومن كل مصدر يمكن الاعتماد عليه. أجرينا دراساتنا الميدانية الخاصة، ثم دمجنا نتائجها مع ما توفر من قواعد بيانات وتحليلات خارجية لنخرج بصورة شاملة عن سلوك المستهلك. وكان السؤال الذي نحاول الإجابة عنه بسيطًا ظاهريًا لكنه جوهري: لماذا تساوي لحظة الوعي والتركيز الذهني قيمة معينة؟ وما الذي يجعلها ترتفع أو تنخفض؟ والمفاجأة أنّ الوعي ليس مفهومًا غامضًا أو عصيًا على التفسير؛ بل يمكن بالفعل تحليل قيمته وفهم العوامل التي تحدد وزنه وتأثيره.
تُظهر البيانات أن ألعاب الفيديو تستحوذ على مستويات عالية من الوعي والتركيز الذهني لدى المستخدمين، ومع ذلك لا يُستثمر هذا التركيز تجاريًا بالشكل الكافي.
ويمكن تبسيط هذه المعادلة بالاعتماد على عنصرين أساسيين. الأول هو "CQ"، أو المعامل التجاري، الذي يجمع بين قيمة المستهلك نفسها ومدى تطوّر المنصّة في توصيل هذه القيمة وتحويلها إلى مردود فعلي. أما العنصر الثاني فهو "AQ"، أو معامل الوعي والتركيز الذهني، ويقيس مستوى الحضور الذهني الذي يخصّصه الفرد أثناء استهلاك المحتوى، إضافة إلى النيّة أو الغاية التي يلجأ من أجلها إلى الوسيلة الإعلامية.
وباجتماع هذين العنصرين معًا تتشكّل ما نُطلق عليه "معادلة الوعي والتركيز الذهني".
أمّا على الجانب التجاري من المعادلة، فالقيمة ترتبط بالتركيبة الديموغرافية للوعي الذي تحصل عليه: مَن هم الأشخاص الذين يشاهدون؟ وما مستوى دخلهم؟ وكيف تبدو أنماط إنفاقهم؟ ثم يأتي عامل آخر لا يقل أهمية، وهو مدى جودة المنصّة أو "الفخّ التسويقي" الذي طوّرته لجذب المستخدمين والاحتفاظ بهم؛ أي مدى قوة النظام الذي يجعل المستهلك يعود إليك مرة بعد أخرى بدل أن يذهب إلى منافس آخر.
ولنتأمل الأمر قليلًا. فمحتوى مقاطع الفيديو على منصّات التواصل يشكّل مثالًا واضحًا على "الفخّ التسويقي" الفعّال؛ إذ يكفي أن ينقر المستخدم على مقطع ما ليجد نفسه مباشرة أمام لحظة شراء جاهزة، وفي الغالب يكون قد خزّن بيانات الدفع سلفًا، ما يجعل الانتقال من المشاهدة إلى الشراء سلوكًا سريعًا وطبيعيًا. وعندما نقارن ذلك بتجربة مختلفة تمامًا مثل شراء الكتب، نلاحظ فرقًا كبيرًا في المعادلة التجارية. فبمجرد شراء الكتاب، يدخل القارئ في عالمه الخاص، منغمسًا في القراءة بتركيز ذهني عالٍ، لكنه في هذه اللحظة بعيد تمامًا عن أي فرصة لتفعيل عمليات شراء جديدة. إنها لحظة وعي عميقة، لكنها ليست بيئة مثالية لخلق عائد تجاري إضافي.
وعندما جمعنا العوامل المختلفة داخل المعادلة، برزت نتيجة لافتة: فقرابة 33 في المئة من أسباب نجاح المحتوى في تحقيق عائد تجاري لا تعود أصلًا إلى العناصر التجارية التقليدية، مثل نوعية الجمهور أو قوة المنصّة. هذا الجزء الكبير من التباين تفسّره ببساطة جودة الوعي والتركيز الذهني الذي يقدّمه المستهلك أثناء استهلاك المحتوى. بعبارة أخرى، لا يكفي أن تجد الجمهور المناسب أو المنصة المناسبة؛ فالقيمة الحقيقية تُخلق حين يحضر المستهلك ذهنيًا ويمنح المحتوى انتباهًا واعيًا يتجاوز المشاهدة العابرة.
كيف يتحوّل وعي المستهلك إلى قيمة فعلية؟
روبرتا فوسارو: بعد أن فهمنا مكوّنات هذه المعادلة، يهمّني أن ننتقل إلى جانبها التطبيقي. كيف يمكن للشركات أن تستخدم هذا الإطار لتوجيه رسائلها بدقّة نحو فئة محددة من العملاء؟ وكيف يساعدها فهم الوعي والتركيز الذهني على استهداف الجماهير الأكثر قابلية للتفاعل وتحويل هذا التفاعل إلى قيمة حقيقية؟
كابير أهوجا: هناك بالفعل طرق متعددة يمكن للشركات من خلالها توظيف هذه المعادلة. وأولى هذه الخطوات هي فهم ما يجري داخل كل قناة من القنوات الإعلامية التي تتعامل معها. فإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية المسوّق، نجد أنه يبدأ عادة بتقييم ثلاثة عناصر أساسية: حجم الجمهور الذي يمكن الوصول إليه، والكلفة اللازمة لتحقيق هذا الوصول، ثم السمات الديموغرافية لذلك الجمهور "من هم، وما مستويات دخولهم، وما الذي يميز أنماطهم الاستهلاكية". ومن خلال هذه الصورة المبدئية، يصبح من الممكن تحديد أين تتكوّن أهم لحظات الوعي والتركيز الذهني، وبالتالي أي القنوات التي تتيح فرص أكبر لتحقيق قيمة فعلية من هذه اللحظات.
ومن الخطوات المهمة التي يمكن للشركات القيام بها أن تبحث عن الفجوات بين ما تحققه من عائد تجاري وفق المعامل التجاري "CQ"، وبين مستوى الوعي والتركيز الذهني الذي تحصده وفق معامل الوعي "AQ". ففي بعض الحالات، نجد قنوات إعلامية تملك حضورًا قويًا لدى الجمهور، لكنها لا تُستثمر تجاريًا بالشكل الذي يعكس هذا الحضور. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك البثّ المدفوع وألعاب الهاتف المحمول؛ فكلاهما يحقق مستويات عالية من التفاعل، ومع ذلك يبقى العائد التجاري أقل مما يمكن أن يكون عليه. وفي حالة البث عبر التلفاز المتصل بالإنترنت، على سبيل المثال، يمكن للشركات تعزيز القيمة التجارية عبر الإعلانات الموجّهة بدقة أكبر، لاسيما مع اتخاذ الإعلانات دورًا متناميًا في نماذج عمل منصّات البثّ. وهنا تتضح الفكرة: حين نعرف أين يتشكل الوعي، يمكننا تطوير طرق أكثر فاعلية لتحويله إلى قيمة حقيقية.
وفي الحقيقة، إن طريقة استثمار هذه القنوات تتغيّر بطبيعة الحال بحسب قدرتها على جذب انتباه المشاهد. فإذا كانت القناة قادرة على خلق حضور ذهني عالٍ لدى الجمهور، فهذا يفتح أمامك مساحة مختلفة تمامًا للتواصل؛ يمكنك أن تقدّم رسائل أعمق، وتبني علاقة أقوى مع المستخدم، لأن ذهنه حاضر ومستعد للتفاعل. أما في القنوات التي يكون فيها الوعي أقل أو أكثر تشتيتًا، فلا تكون الرسائل المعقّدة أو الطويلة فعّالة؛ بل تحتاج إلى محتوى سريع، مباشر، ورسائل تُلتقط في لحظة عابرة. بمعنى آخر، مستوى الوعي يحدد طبيعة الرسالة، وطريقة تقديمها، واللحظة المناسبة لظهورها.
كما يقدّم قطاع ألعاب الهاتف المحمول نموذجًا لافتًا فيما يتعلق بالفجوة بين الوعي التجاري والعائد الفعلي. فبرغم أنّ الألعاب تولّد مستويات عالية من الوعي والتركيز الذهني لدى المستخدمين، ما يزال استثمار هذا الحضور محدودًا. وعند التدقيق في نمط الإعلانات داخل الألعاب، نلاحظ أن معظمها ينتمي إلى الشرائح الأقل قيمة في السوق، مثل المساحات المتبقية أو الإعلانات التي تقطع اللعب فجأة وتفرض على المستخدم مشاهدة محتوى دعائي قبل متابعة اللعبة. هذه التجربة شائعة، لكنها لا تستثمر الحضور الذهني القوي الذي تخلقه اللعبة، ولا تحوّله إلى قيمة تجارية حقيقية.
وليس بالأمر الخفي عن الجميع، يعيش المستخدم داخل ألعاب الهاتف تجربة يعرفها الجميع تقريبًا: ينتظر ظهور علامة الإغلاق الصغيرة "X" حتى يتخلص من الإعلان ويعود إلى اللعب، ثم يكتشف أن العلامة ليست حقيقية، أو أنّ موضعها مضلل قليلًا، فينتهي به الأمر إلى فتح إعلان آخر دون قصد. ورغم أنّ هذه المنصّات تحقق مستويات عالية من جذب الجمهور بطريقة مخادعة، وتخلق تفاعلًا قويًا مع المستخدم، يبقى السؤال قائمًا: لماذا تبدو جودة الإعلانات فيها متواضعة إلى هذا الحد، مقارنة بقوة اللحظات التي تجذب انتباه رواد الألعاب؟
يبدو أن هذين المثالين يفتحان المجال أمام أساليب مختلفة يمكن للمعلنين تبنّيها لتحسين القيمة التجارية في هذه القنوات. ومع تطوّر طبيعة المحتوى نفسه، تبرز فرص جديدة لدمج الإعلانات بطرق أكثر ذكاءً وسلاسة، بما يغيّر تجربة المستخدم دون أن يقطع تفاعله أو يشتّت وعيه. فمن المتوقع أن يعيد هذا التطوّر صياغة العلاقة بين المحتوى والإعلان، ويخلق نماذج أكثر انسجامًا مع مستوى الجذب العالي الذي توفّره هذه المنصّات.
روبرتا فوسارو: إذا كانت هذه القنوات تحمل كل هذا القدر من الفرص غير المستغلة، يبرز سؤال عملي ومباشر: ما الاستراتيجيات التي يمكن للشركات اعتمادها لتغيير هذا الواقع؟ وهل توجد بيانات أو أدوات تحليلية قادرة على توجيه صنّاع الإعلام نحو قرارات أكثر فاعلية في كيفية استثمار لحظات الوعي والتركيز الذهني للمستهلكين؟
كابير أهوجا: بالتأكيد صحيح. لكن قبل أن نصل إلى مرحلة التحليلات والأدوات التقنية، يجب أن يبدأ المسوّق بسؤال أساسي جدًا: ما المشكلة التي أريد حلّها؟ لأن أحد التحديات المحورية هو مدى انسجام المحتوى مع الحالة الذهنية التي يكون عليها المستهلك لحظة المشاهدة؛ أي قدرة المنصّة على تقديم ما يتوافق مع مستوى وعيه وتركيزه الذهني في تلك اللحظة. وانطلاقًا من هذا المفهوم، قمنا بتطبيق "معادلة الوعي والتركيز الذهني" على مختلف منصّات البثّ، ثم حلّلنا النتائج بشكل معمّق. وتبيّن أن منصّتين فقط تُظهران قيمة عالية للمستخدم على المدى الطويل، أي أن المستخدم يبقى وفيًا ويستمر في المشاهدة لفترات طويلة. أمّا المنصّات الأخرى، فكانت نتائجها أقرب إلى المستوى المتوسط؛ إذ يقدّم المستخدم فيها قدرًا معقولًا من الوعي والتركيز الذهني، لكنه ليس كافيًا ليعطي مؤشّرًا قويًا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق قيمة تجارية واضحة.
إن منصّات البثّ لا تعتمد على المحتوى وحده لكي تحافظ على وعي المشاهد وتركيزه الذهني. فالتجربة الكاملة التي تقدّمها هي ما يصنع هذا التأثير. ولنشرح بالتفصيل مايحدث للمستخدم عند مشاهدته لأي مسلسل، إذ تقوم المنصة بطرح اقتراح لمشاهدة الحلقة التالية فوراً، ولا تترك له المجال أو الفرصة ليختار بشكل عشوائي. لذلك يجب أن نعرف بأن كل خطوة صغيرة من طريقة الاقتراح إلى سرعة الوصول للمحتوى، تجعل المستخدم يشعر بأن هناك دائمًا ما ينتظره، وما يدفعه للبقاء وقتًا أطول. وبهذه الطريقة، يصبح الأمر أكبر من مجرد "مشاهدة محتوى". إنه تجربة متكاملة مصمّمة لترافق المشاهد من بداية الحلقة إلى نهايتها، ثم تدفعه بلطف إلى التالي… وهكذا تحافظ المنصّة على حضوره الذهني وتضمن عودته المتكررة.
وعندما طبقنا تحليل الوعي والتركيز الذهني على منصّات البثّ، برزت منصّتان فقط استطاعتا تحقيق أعلى مستويات التركيز. الأولى كانت نتفلكس، التي تُجيد خلق تجربة مشاهدة تدفع المستخدم إلى الاستمرار؛ فهي تتقن اقتراح المحتوى المناسب وتدير وتيرة المشاهدة بطريقة تبقي المشاهد حاضرًا ذهنيًا. أما المنصّة الثانية فتميّزت لسبب مختلف تمامًا، وهو ما نسميه "الوظيفة المراد إنجازها"؛ أي الغاية الأساسية التي يلجأ إليها المشاهد عند فتح المنصّة. وهنا ظهر تفوق "Disney+"، لأنها تجمع بين عالم ديزني الغني بالمحتوى الموجّه للأطفال وبين محتوى "ESPN" الرياضي. هذا التنوع يخاطب جمهورين يمتلكان دوافع واضحة للمشاهدة: الأطفال الذين يجدون عالمًا كاملًا من القصص، ومحبو الرياضة الذين يبحثون عن متابعة دائمة ومستمرة. وبفضل هذا الوضوح في الحاجة التي يلبيها المحتوى، نجحت المنصّة في خلق تركيز ذهني عالٍ لدى كل فئة.
وما يثير الاهتمام حقًا في تحليلنا هو إدراك مدى قوة العلاقة بين قيمة العميل ومقدار ارتباطه بالمنصّة وبين ما نسمّيه معامل الوعي والتركيز الذهني. فحين يكون المستخدم حاضرًا ذهنيًا ومندمجًا أثناء المشاهدة، ترتفع تلقائيًا قيمته بالنسبة للمنصّة، ويزداد تفاعله معها. وبمعنى آخر، كلما كان وعي المشاهد أعمق، أصبحت المنصّة قادرة على بناء علاقة أقوى معه.
روبرتا فوسارو: وبعد أن استعرضنا علاقة التركيز الذهني بمنصّات البثّ، أودّ أن نعود إلى عالم ألعاب الفيديو. هذا القطاع يتمتع بمستويات عالية من الوعي والتركيز الذهني، ومع ذلك لا تزال فرصه التجارية أقل مما يمكن أن تكون عليه. والسؤال المطروح هنا: كيف يمكن للشركات أن تستند إلى "معادلة الوعي والتركيز الذهني" لاستثمار هذه الفرص وبناء قيمة أكبر داخل سوق قطاع الألعاب؟
كابير أهوجا: عندما تحدثتُ سابقًا عن ألعاب الهاتف المحمول، أشرتُ إلى أنها قطاع يتوسع بسرعة لافتة. ومع ذلك، لا يُنظر إليه باعتباره مساحة إعلانية ذات قيمة عالية. فالجزء الأكبر من الإعلانات التي تظهر داخل الألعاب موجّه فقط لدفع المستخدمين إلى تحميل ألعاب أخرى، وليس لتعزيز حضور العلامات التجارية الكبرى. ولهذا السبب بقيت صناعة الألعاب بعيدة عن الإعلانات المخصصة لبناء صورة العلامة التجارية وترسيخها في ذهن الجمهور. وبرأيي، هذا إهدار لفرصة كبيرة لم تُستغل بعد، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار قوة الجذب والوعي والتركيز الذهني الذي تولّده الألعاب لدى مستخدميها.
وأود التنويه أن صورة الوعي والتركيز الذهني تختلف عندما ننتقل من ألعاب الهاتف إلى ألعاب الحاسوب وأجهزة الكونسول. فهذا النوع من الألعاب يجمع بين أمرين مهمين: مستوى عالٍ جدًا من الحضور الذهني، وفترات لعب طويلة ومتواصلة. وفي كثير من الأحيان، يمتزج اللعب الفردي بتجربة جماعية حقيقية، خصوصًا في الألعاب التي تُلعب مباشرة عبر الإنترنت، حيث يعيش اللاعب لحظة واحدة مع ملايين غيره في الوقت نفسه. لكن المثير في الأمر أن الأرقام لا تعكس هذه التجربة بشكل كامل. فـمعامل الوعي والتركيز الذهني "AQ" يشير إلى أن قيمة هذا القطاع يجب أن تكون أعلى بكثير، بينما يُظهر المعامل التجاري "CQ" عكس ذلك؛ أي أن القيمة التجارية تبدو أقل مما يوحي به مستوى الجذب والحضور والتركيز. ومع ذلك، نجد أن هذا القطاع يحقق عائدًا جيدًا بالفعل. والسبب بسيط، لأن المستخدم يبدأ بشراء اللعبة بسعر مرتفع نسبيًا يصل إلى 60 دولاراً، ثم تفتح له التجربة أبوابًا إضافية للعائدات، مثل المشتريات الصغيرة داخل اللعبة والمحتوى الإضافي والاشتراكات. وهكذا، تتحوّل ساعات التركيز الذهني الطويلة إلى منظومة ربحية متكاملة، تجعل هذا النوع من الألعاب واحدًا من أعلى الوسائط من حيث العائد المالي لكل ساعة لعب.
ورغم قوة ألعاب الحاسوب والكونسول من حيث التركيز الذهني وطول جلسات اللعب، فإنها ليست بيئة تعتمد على الإعلانات كمصدر أساسي للعائد. ويعود ذلك لعدة أسباب، أولها طبيعة الوسيط نفسه؛ فالمستخدم لا يتوقع أن يُوقَف اللعب فجأة من أجل مشاهدة إعلان، على عكس ما يحدث في المنصّات الأخرى. ولهذا ظلّت فكرة "الإعلان داخل اللعبة" بعيدة عن التجربة التقليدية للاعبين. لكن مع تطور هذا القطاع، بدأت تظهر محاولات مختلفة لدمج الإعلانات بصورة تنسجم مع بيئة اللعبة نفسها، بحيث يراها اللاعب كعنصر طبيعي داخل العالم الافتراضي، وليس كقاطع يوقف التجربة. فعلى سب المثال، بعض الألعاب بدأت تعرض لوحات أو عناصر داخلية تبدو جزءًا من المشهد، في محاولة لاختبار نموذج إعلاني لا يؤذي التجربة ولا يشتّت المستخدم. ومع أن هذه المحاولات تشير إلى بدايات نموذج إعلاني جديد داخل الألعاب، فإن نجاحه يتطلب منظومة متكاملة تتعاون فيها الأطراف كافة؛ بدءًا بالعلامات التجارية التي ينبغي أن تكون مستعدة للاستثمار، مرورًا بقدرة المسوّقين على تحديد الميزانيات المناسبة وطرق قياس أثر الإعلان، ووصولًا إلى الوكالات التي يجب أن تمتلك الخبرة في هذا النوع من الإعلانات والمطورين القادرين على دمجها داخل اللعبة. وفي النهاية، لا يكتمل هذا النموذج إلا عندما يقدم الإعلان نفسه بطريقة طبيعية تنسجم مع عالم اللعبة، بحيث يتقبله اللاعب باعتباره جزءًا من التجربة وليس عنصرًا دخيلًا يفسد إيقاعها.
كل هذه التحديات تظهر أن قطاع الألعاب يواجه عقبات متجذّرة في بنيته، تجعل إدخال الإعلانات مسألة معقدة وليست مباشرة. ومع ذلك، فإن النظام الحالي يعتمد بدرجة كبيرة على المدفوعات المباشرة من اللاعبين، والتي تصل في كثير من الأحيان إلى مبالغ مرتفعة. وعلى الرغم من هذا العائد المالي، تُظهر معادلة الوعي والتركيز الذهني أن القطاع ما يزال أقل استثمارًا مما ينبغي؛ فمستوى الحضور الذهني المرتفع الذي يقدّمه اللاعب لا ينعكس بقيمة تجارية متناسبة، حتى وإن بدا القطاع مكلفًا عند تقييمه وفق المعامل التجاري وحده. ولهذا نتوقع أن يشهد هذا المجال تطورات لافتة في المستقبل القريب، مع ظهور نماذج جديدة تحاول سد هذه الفجوة بين الوعي والعائد.
أثر الذكاء الاصطناعي التوليدي
روبرتا فوسارو: في ضوء كل هذا التحوّل الذي نشهده في عالم المحتوى والتجارب الرقمية، يبرز سؤال أساسي حول موقع التقنيات الجديدة في هذا المشهد. كيف تنظرون اليوم إلى استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، وإلى الدور الذي بات يلعبه في طريقة إنتاج المحتوى وفهم سلوك المستهلك؟
كابير أهوجا: ينفتح أمامنا اليوم مشهد جديد تمامًا مع الذكاء الاصطناعي التوليدي. فمن جهة، سيقود هذا النوع من التقنيات إلى طفرة هائلة في حجم المحتوى المنتج، إذ سيصبح إنشاء النصوص والصور والفيديوهات أسرع وأسهل بكثير من أي وقت مضى. ومن جهة أخرى، سيعمل الذكاء الاصطناعي على خفض تكاليف الإنتاج التي بلغت مستويات مرتفعة خلال السنوات الأخيرة، ليعيد تشكيل معادلة الصناعة كاملة ويجعل الوصول إلى المحتوى أسهل وأقل تكلفة.
ومع توسّع قدرات الذكاء الاصطناعي، نرى شريحة واسعة من المستهلكين أصبحت مستعدة لاستهلاك أي نوع من المحتوى طالما أنه متاح وسهل الوصول، وهو ما يرفع الطلب على كل ما يُنشر. وفي المقابل، ارتفعت تكلفة جذب وعي المستهلك وتركيزه الذهني، إذ باتت المنافسة على جذب انتباهه أصعب من أي وقت مضى. ومع ذلك، هناك جانب آخر قد يساعد في إعادة التوازن لهذه المعادلة، وهو أن الذكاء الاصطناعي قادر على خفض تكاليف الإنتاج نفسها، بل وتمكين المسوّقين من الوصول إلى الجمهور المناسب بدقة أكبر وبجهد أقل. ومع تزايد حجم المحتوى وصعوبة لفت انتباه الجمهور، يبرز عامل قد يغيّر شكل الصناعة تدريجيًا، وهو قدرة الذكاء الاصطناعي على خفض تكاليف الإنتاج وتسهيل الوصول إلى الفئات الأكثر اهتمامًا بالمحتوى. هذا التحوّل يمكن أن يخفف الضغط الكبير الذي تتحمله الشركات في صناعة الأعمال الاحترافية، ويخلق نوعًا من التوازن بين ما يُصرف على إنتاج المحتوى وما يُصرف على تسويقه. ومع كل ذلك، يبقى نجاح هذا المشهد مرهونًا بوجود الإنسان الذي يوجّه الذكاء الاصطناعي ويوظّفه بروح إبداعية تمنح العمل قيمة ومعنى، فلا يتحوّل المحتوى إلى مادة مكررة أو بلا روح.
ومن الطريف أنني حين أعود إلى بداياتي أتذكر أن تخصصي الجامعي كان في مجال الذكاء الاصطناعي، وقد مرّ على ذلك الآن خمسة وعشرون عامًا، ما يجعلني أرى التطور الحالي وكأنه امتداد طويل لمسار بدأ قبل عقود.
روبرتا فوسارو: رائع، هذا مثير للاهتمام حقًا.
كابير أهوجا: ما زلت أحتفظ بالورقة التي تحمل تخصّصي الجامعي في علوم الحاسوب مع تركيز على الذكاء الاصطناعي، وكلما وقعت في يدي أتذكر بداياتي في هذا المجال. كانت دراسة الذكاء الاصطناعي آنذاك تجربة مختلفة تمامًا عما نعرفه اليوم، إذ كانت تعتمد بشكل كامل تقريبًا على النظريات الرياضية المعقّدة. كنا نقضي ساعات طويلة في حل معادلات لا تنتهي من دون أن تتوفر لنا الأدوات أو المنصّات التي تسمح بتحويل هذه النظريات إلى تطبيقات عملية، الأمر الذي جعل الدراسة مرهقة وثقيلة في كثير من الأحيان. ومع ذلك، حاولنا قدر الإمكان أن نمنح تلك النظريات حياة حقيقية، وكان مشروعي في السنة الأخيرة خير مثال على ذلك. فقد عملت على تطوير كاميرا تستطيع التعرف على البطاقات الموضوعة على طاولة لعب البوكر، وهي محاولة بسيطة مقارنة بما يقدّمه الذكاء الاصطناعي اليوم، لكنها كانت بالنسبة لي نافذتي الأولى إلى عالم التطبيقات العملية. وعندما أنظر الآن إلى التقدّم الهائل الذي وصل إليه هذا المجال، أشعر بأن المسافة بين تلك التجربة الأولى والواقع الحالي تمتدّ ربع قرن كامل من التحوّل المستمر.
روبرتا فوسارو: هذا مذهل فعلًا.
كابير أهوجا: عندما أقارن بين ما كنا نحاول إنجازه قبل خمسة وعشرين عامًا وما يمكن فعله اليوم، أدرك مدى التحول الذي قاده الذكاء الاصطناعي. فالمهمة التي استغرقت منا ثلاثة أشهر في مشروع التخرج يمكن لأحد النماذج اللغوية الحالية إنجازها خلال دقائق قليلة، وهذا وحده يوضح حجم النقلة التي شهدها هذا المجال. ومع ذلك، ما يلفت انتباهنا في التحليل ليس فقط تقدم الأدوات، بل التغيّرات التي نراها في سلوك المشاهدة. فقد تبيّن أن المحتوى الذي يصنعه المستخدمون على منصّات التواصل الاجتماعية قادر على خلق مستوى من الوعي والتركيز الذهني يفوق ما تحققه الأعمال الاحترافية، وهي نتيجة كانت مفاجئة لنا لأنها تعكس تحوّلًا حقيقيًا في طريقة تفاعل الجمهور مع المحتوى.
روبرتا فوسارو: هل يعود سبب قوة تأثير هذا المحتوى إلى أنه يبدو قريبًا منّا ومن طريقة تفكيرنا، فنشعر أنه يعبّر عنا أكثر مما تفعل الأعمال الاحترافية؟
كابير أهوجا: برأيي، هناك أسباب بسيطة تجعل محتوى المستخدمين يجذب المشاهدين بقوة. يبدأ الأمر من طريقة انتشار هذا النوع من المحتوى، إذ تصل كل مادة إلى مجموعة صغيرة تهتم بالموضوع نفسه، فيشعر أفرادها أن ما يشاهدونه قريب من اهتماماتهم تمامًا، وهذا يدفعهم للمتابعة لفترات أطول. وأرى مثالًا واضحًا أمامي في البيت، فابني الأكبر يقضي ساعات طويلة يشاهد مقاطع كرة السلة على يوتيوب، لأنه يجد دائمًا فيديوهات جديدة تناسب ما يبحث عنه. وهذا يحدث لأن الخوارزميات والذكاء الاصطناعي يساعدان على إنتاج واقتراح المزيد من هذا النوع من المحتوى، مما يجعل المشاهد يجد شيئًا جديدًا باستمرار فيستمر في المشاهدة.
ومن الطبيعي أن نرى خلال الفترة المقبلة زيادة في المحتوى الذي يعتمد على جذب انتبهاه المستخدم، لأن الذكاء الاصطناعي أصبح قادرًا على إنتاج أعمال دقيقة وموجّهة سواء كانت قصيرة أو طويلة. وقد لاحظت هذا التوجه بوضوح عندما التقيت عددًا من مطوري الألعاب خلال أحد المؤتمرات، إذ أخبروني بأنهم غيّروا أسلوب عملهم بالكامل. فقد انتقلوا من بيئات التطوير التقليدية إلى إنشاء تجارب جديدة فوق منصّات مثل فورتنايت وروبلوكس، وبدأوا يعتمدون على أدوات الذكاء الاصطناعي في كل خطوة من عملية الإنتاج. وكان هدفهم من هذا التحول هو ابتكار محتوى يحقق مستويات أعلى من التفاعل ويجذب اللاعبين لفترات أطول ويمنح الجمهور شعورًا أقوى بالارتباط بما يقدمونه.
ما الذي ينبغي على الشركات أن تمنحه الأولوية؟
روبرتا فوسارو: ما النهج الذي يمكن أن تعتمد عليه الشركات العاملة في الإعلان وصناعة المحتوى لتوجّه جهودها في الاتجاه الصحيح؟ وكيف تستطيع تحديد المجالات التي تستحق أن تبدأ منها، ثم استثمار وعي الجمهور وتركيزه بما يحقق أفضل أثر؟
كابير أهوجا: عندما ينظر المعلنون إلى هذا المشهد، عليهم أن يفكروا في كيفية مواءمة الرسالة التي يريدون إيصالها مع طبيعة كل منصة، وأن يضعوا مستوى الوعي والتركيز لدى الجمهور في قلب عملية التخطيط. فإذا كنت أسعى إلى ترسيخ صورة العلامة أو إيصال فكرة معينة، فمن المهم أن أتساءل عن الطريقة الأنسب لعرض الرسالة داخل لعبة على الهاتف، وكيف ستختلف إذا قدمتها خلال فعالية مباشرة، أو عبر جهاز تلفاز متصل بالإنترنت. فكل قناة لها إيقاعها وطريقتها الخاصة في استقبال المحتوى، وما ينجح في واحدة قد لا يحقق التأثير نفسه في أخرى.
قد يفرط الناس في مشاهدة المقاطع بشكل عام من دون أن يكلفهم ذلك أي شيء للانفاق عليه، ولكن إذ جذب انتباههم شيء ما، سيدفعهم هذا الأمر بالطبع إلى شراءه.
ومن ناحية أخرى، قد يقدّم المعلن رسالة واحدة، لكنها تظهر بطرق مختلفة حسب المنصة التي ستُنشر عليها والجمهور الذي سيتلقاها. ولهذا يصبح من الضروري أن يفهم المعلن كيف يتابع هذا الجمهور المحتوى، وما الذي يجذب انتباهه، وما الذي يمكن أن يترك أثرًا لديه. وعندما تُبنى الرسالة على هذا الفهم، يظهر أمام المعلنين مجال واسع لاستثمار هذه الفرصة وتحقيق نتائج أقوى.
وبالنسبة لصنّاع المحتوى، فهناك مجموعة واسعة من القرارات التي يجب اتخاذها، بدءًا من الموافقة على المشاريع الجديدة وصولًا إلى اختيار المحتوى الذي سيجري الاستحواذ عليه وتحديد أسلوب التوصيات داخل المنصة. ومع كل هذه الخيارات، يصبح من الضروري طرح أسئلة تساعدهم على فهم جمهورهم بصورة أدق، مثل كيفية الحفاظ على ارتفاع مستوى التركيز لدى المشاهدين، وما إذا كان هذا التركيز يتزايد أو يتراجع مع مرور الوقت، وعلى أي نوع من المحتوى يحدث ذلك، وبأي تجربة مشاهدة يرتفع أو ينخفض. إن الإجابة عن هذه الأسئلة تمنح صنّاع المحتوى وضوحًا أكبر حول ما يجب إنتاجه وكيفية تقديمه بالطريقة التي تحقق أفضل تفاعل.
ويجب معرفة أن الاستهلاك الكبير للمحتوى لا يعني بالضرورة إنفاقًا كبيرًا، بينما جذب وعي المشاهد وتركيزه الذهني هما العامل الحقيقي الذي يقود إلى الإنفاق. فكثيرًا ما نسمع سؤالًا من نوع، "من هم المستهلكون الأكثر أهمية؟" وغالبًا ما يُفترض أن الأشخاص الذين يقضون أطول وقت على المنصة هم الأكثر قيمة، فيتركز التحليل حول المدة الزمنية ليس إلا. لكن هذه ليست الطريقة الأدق لمعرفة من ينفق أكثر أو من يحقق أعلى قيمة للمنصة، فالعامل الحاسم هو مستوى التركيز الذي يقدّمه المستخدم أثناء استهلاك المحتوى.