ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com
ملامح المستقبل أصبحت واقعًا نعيشه، لكنها لم تنتشر بعد في كل مكان، فهناك من يسبق الزمن، وهناك من لم يلحق به بعد.
في الوقت الذي يتطور الذكاء الاصطناعي بسرعة مذهلة، يكون من الصعب على الشركات أن تواكب كل الطرق الجديدة التي يمكن أن تغيّر بها هذه التكنولوجيا طريقة العمل. ومع ذلك، لا تزال هناك فجوة واضحة بين ما يمكن للتقنيات أن تقدمه، وبين ما يتم تطبيقه فعليًا داخل أغلب المؤسسات. وحسب استطلاع عالمي أجرته ماكنزي في عام 2024، تبيّن أن 90% من الموظفين يستخدمون الذكاء الاصطناعي التوليدي في أعمالهم، و21% منهم يعتمدون عليه بشكل كبير.1 لكن رغم هذا الإقبال الواضح من الموظفين، لا تزال معظم المؤسسات ببداياتها من حيث تبنّي هذه الأدوات بشكل جدي ورسمي، حيث أكد 13% من المشاركين فقط إن شركتهم بدأت في استخدام الذكاء الاصطناعي مبكرًا.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
لم يكن تردد المؤسسات في اعتماد التقنيات الجديدة أمرًا مفاجئًا أو جديدًا. فعندما بدأ الموظفون المتمرسون في استخدام الأدوات الرقمية في تبني المنصات السحابية بهدف التعاون، والتواصل مع العملاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كانت الشركات لا تزال متحفظة في اعتماد هذه الأدوات ضمن أنظمتها الرسمية. وبعد ذلك، ومع انتشار الهواتف الذكية، ظهر جيل جديد من الموظفين يفضّل إنجاز مهامه من خلال تطبيقات المراسلة وسير العمل المصمم أساسًا للعمل عبر الهاتف. في المقابل، كانت أقسام تقنية المعلومات منشغلة بوضع سياسات لحماية بيانات الأجهزة، بدلًا من مواكبة هذا التغيير السريع في أسلوب العمل. واليوم، يتكرر المشهد نفسه بشكل جديد. فهناك مجموعة من الموظفين الأصغر سنًا بدأوا بالفعل في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي (أدوات مفيدة في كتابة الرسائل، وإنشاء التعليمات البرمجية، وتحليل البيانات) كجزء من روتينهم اليومي. في الوقت ذاته، لا تزال الإدارات العُليا في كثير من المؤسسات مترددة، بسبب انشغالها بمسائل مثل كيفية تنظيم استخدام هذه الأدوات داخل الشركة، والقلق من التكاليف التي قد يتطلبها تطبيقها على نطاق واسع.
إن ما يحدث اليوم مع الذكاء الاصطناعي التوليدي مختلف تمامًا عما حدث مع التقنيات السابقة. فالتغيير هذه المرة أسرع، ويؤثر على نطاق أوسع. ما يُعد اليوم ميزة إضافية للشركات التي بدأت باستخدام هذه الأدوات، سيصبح قريبًا شرطًا أساسيًا للبقاء داخل المنافسة. لذلك، الشركات التي تتحرك بسرعة وتتبنّى هذه التقنيات بذكاء، هي التي ستقود السوق وتفرض قواعد اللعبة الجديدة.
لكن يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن للقادة تسريع وتيرة التعلّم داخل المؤسسة بأكملها، دون التأثير على جودة العمل أو التسبب في حالة من الفوضى؟ وكيف يمكنهم الاستفادة من محاولات الابتكار التي تنشأ بشكل متفرق داخل الفرق أو الأقسام، وتحويلها إلى قيمة حقيقية على مستوى المؤسسة ككل؟ للإجابة على هذه التحديات، نسلّط الضوء في هذا المقال على أربع طرق تفكير وممارسات عملية، يمكن أن تساعد المؤسسات على تحويل التعلّم السريع والابتكار الفردي إلى قوة منظمة تقود التغيير.
تعزيز الجهود الناشئة داخل المؤسسة
في كثير من الأحيان، لا يحتاج القادة إلى فرض الابتكار وهم بمناصبهم وحسب، بل إلى ملاحظته ورعايته حين يبدأ بالظهور. في كتاب (البستاني والنجار)، تشير "أليسون غوبنيك" إلى فكرة أساسية في تربية الأطفال، وهي أن الأفضل ألا نوجّههم بقوالب صارمة، بل نوفّر لهم بيئة تسمح لهم بالنمو بطريقتهم الخاصة. وتُشبّه القائد أو الوالد بالبستاني الذي يرعى ما ينبت دون أن يتحكم بشكل النبتة. هذه الفكرة تنطبق تمامًا على بيئات العمل. فالقادة الأكثر فاعلية هم من يتوقفون لحظة ليسألوا: أين بدأت تظهر بوادر التغيير؟ من يستخدم أدوات جديدة بطرق غير متوقعة؟ ومن يحقّق نتائج واعدة دون توجيه مباشر؟ من خلال هذه العقلية، لا يكون دور القائد هو التخطيط الصارم، بل التعرّف على مساحات النمو، ومساندتها حتى تنضج وتؤتي ثمارها.
في حين تميل معظم المؤسسات إلى اتباع أسلوب صارم في إدارة التغيير، فتضع خططًا دقيقة وهي بمنأى عن الجميع وتُحاول التحكّم في كل خطوة من خطوات تطبيق التكنولوجيا الجديدة. هذا ما يُعرف بعقلية "النجّار"؛ حيث يتم تصميم كل شيء مُسبقًا وفق نموذج محدد. لكن في عصر يتغير فيه كل شيء بسرعة، لم يعد هذا الأسلوب مُجديًا. فعندما يحاول القادة تحديد الطريقة المثالية لاستخدام الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسة بأكملها، غالبًا ما ينتهي بهم الأمر إلى بناء حلول لمشكلات قديمة، بدلًا من مواكبة التحديات الجديدة. في بيئة سريعة التغير، قد يُبطئ التمسك بالتخطيط المفرط التقدم بدلًا من أن يقوده.
في إحدى شركات الخدمات المالية في آسيا، لاحظت الإدارة أن بعض الفرق بدأت تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي من تلقاء نفسها لتسهيل تطوير التطبيقات. وبدلًا من إيقاف هذه المبادرة غير الرسمية، قرر المدراء دعمها وتشجيعها. فقاموا بتوفير قاعدة بيانات موحدة تساعد جميع الفرق على العمل بانسجام، وتُسهّل تنفيذ المهام المكرّرة التي كانت تستغرق وقتًا طويلًا، مثل فرز البيانات وتجهيزها. وبفضل هذا التعاون، نجحت الشركة في تقليص مدة تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى النصف، مما يعكس كيف يمكن للأفكار البسيطة أن تُحدث فرقًا كبيرًا حين تحظى بالثقة والدعم.
ونحن بالفعل شهدنا العديد من الأمثلة المشابهة، مثل فرق خدمة العملاء التي بدأت بهدوء في استخدام روبوتات الدردشة المبنية على الذكاء الاصطناعي لصياغة الردود، ما ساعدها في تقليل أوقات الاستجابة بشكل كبير. أما بعض الإدارات أوقفت هذه المبادرات فورًا بدافع القلق من المخاطر الأمنية أو مشاكل الحوكمة. في المقابل، اختارت إدارات أخرى دراسة هذه التجارب، وتحليل أسباب نجاحها، ثم تطويرها ومساعدتها على التوسع داخل المؤسسة. ومن هنا تأتي أهمية ملاحظة ما ينمو فعلًا داخل المؤسسة ورعايته، بدلًا من محاولة فرض خطط جديدة مبنية على تصورات نظرية. إلا أن تبنّي هذه العقلية "عقلية البستاني" يتطلب من القادة أن يخصصوا وقتًا أكبر لمراقبة ما يحدث فعليًا داخل فرقهم، وأن يقللوا من الاعتماد على الخطط الصارمة. فغالبًا ما تأتي الأفكار الأكثر تأثيرًا من أماكن غير متوقعة داخل المؤسسة.
توفير الحوافز لتسريع تبنّي التقنيات الجديدة
من الطبيعي أن يكون من الصعب تغيير العادات في العمل، خاصة عندما يُطلب من الموظفين تعلّم أدوات جديدة. وغالبًا ما تكون الفئة الأكثر مقاومة لهذا التغيير هي المديرون وأصحاب الخبرة في المناصب المتوسطة داخل المؤسسة. فهؤلاء يشكّلون العمود الفقري لثقافة العمل، ولكنهم في الوقت نفسه لا يرون دائمًا فائدة مباشرة من التغيير. فهم مشغولون، ويعتقدون أن الطرق التي يستخدمونها حاليًا تعمل بشكل جيد، ولا يرغبون في إضافة عبء جديد على جدولهم. كما أن تعلّم تقنيات جديدة قد يبدو لهم أمرًا معقدًا أو غير ضروري، خاصة إذا لم يشعروا بأن له تأثيرًا فوريًا على نتائج عملهم.
ولكي تنجح المؤسسات في إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي إلى بيئة العمل بشكل فعّال، لا يكفي أن تعتمد على الحوافز المالية فقط. فالدوافع المادية لا تحقق التأثير المطلوب ما لم تقترن بثقافة تعلّم حقيقية وتبادل للمعرفة. فقد كانت المؤسسات التي تميزت في هذا المجال تُقدّر الموظفين الذين يطوّرون مهاراتهم، وينقلون تجاربهم لزملائهم، ويساعدون الآخرين على تخطي صعوبات التعلّم، بدلاً من الاكتفاء بمكافأة من يستخدم الأداة فقط. أما التأثير الأعمق، فيأتي غالبًا من التقدير المعنوي. فعندما يشارك القادة تجاربهم الخاصة مع أدوات الذكاء الاصطناعي، ويُظهرون أنهم ما زالوا في طور التعلّم، فإنهم يُلهمون من حولهم ويقلّلون من رهبة التجربة. هكذا تتحوّل ثقافة التعلّم من مجهود فردي إلى روح جماعية تنمو وتنتشر داخل المؤسسة.
وعلى صعيد آخر، هناك الكثير من المؤسسات الكُبرى، لا يُنظر إلى الابتكار على أنه نشاط جانبي أو مناسبة عابرة، بل يُعامل كجزء أساسي من بيئة العمل اليومية. فعلى سبيل المثال، تنظم بعض الشركات، (مثل ماكنزي)، مسابقات مخصصة للابتكار، يتعاون خلالها الموظفون من خلفيات وأقسام مختلفة لطرح أفكار جديدة. فالفرق التي تصل إلى مراحل متقدمة لا تحصل فقط على التقدير، بل تنال أيضًا موارد إضافية، ودعمًا من الخبراء، وفرصة لعرض أفكارها أمام الإدارة العُليا. لكن المميز فعلًا هو ما تفعله الشركات التي لا تنتظر موسمًا سنويًا لتحفيز الابتكار، بل تزرع فرصه في كل يوم عمل. فبعضها يخصص "أيامًا للابتكار"، تمنح فيها الفرق حرية استكشاف أفكار خارج نطاق المهام المعتادة، حتى وإن لم تكن هذه الأفكار ضمن الخطط الرسمية. والغالب أن هذه المساحات المفتوحة تقود إلى اكتشافات غير متوقعة، تُسهم في إعادة ترتيب الأولويات، وتفتح أمام المؤسسة أبوابًا جديدة للنمو والتطوير.
تهيئة بيئة للتعلم السريع
لذلك، لا تتميّز المؤسسات الناجحة بكثرة تجاربها فحسب، بل بطريقة إدارتها لهذه التجارب. فهي تطبّق مبادئ مستمدة من عالم الاختبارات الدقيقة، مثل اختبار A/B (وهو أسلوب يُستخدم للمقارنة بين خيارين لمعرفة أيهما يحقق نتائج أفضل)، وتوظفها في تطوير الابتكار داخل المؤسسة. وتقوم هذه المنهجية على مجموعة من المبادئ التي تسهّل تقييم الأفكار وتحسينها، منها:
- ابدأ بفكرة واضحة وقابلة للاختبار. بدلًا من الانطلاق بهدف عام مثل "نريد تحسين الإنتاجية باستخدام الذكاء الاصطناعي"، تبدأ الفرق الناجحة بسؤال محدد يمكن قياسه، مثل: "هل يمكن لأداة الذكاء الاصطناعي أن تقلل الوقت الذي نستغرقه في إعداد التقارير الشهرية إلى النصف، مع الحفاظ على نفس مستوى الدقة تقريبًا؟"هذا النوع من التفكير يساعد الفريق على التركيز، ويجعل التجربة أكثر وضوحًا. لكن المشكلة أن كثيرًا من الفرق تنسى خطوة مهمة: وهي التحقق من صحة الافتراضات التي تبني عليها الفكرة. فكم من فكرة بدت جيدة في ظاهرها، لكنها لم تصمد أمام الواقع لأنها قامت على توقعات لم يتم اختبارها بشكل كافٍ.
- صمّم التجارب بهدف التعلّم، لا فقط لتحقيق النجاح: غالبًا ما تركّز المشاريع التجريبية على تحقيق نتائج إيجابية فقط، دون أن تهتم بما يمكن أن نتعلمه من التجربة نفسها. وهذا ما يحدّ من قيمتها. أما الفرق الأكثر وعيًا، فتصمّم تجاربها لتكتشف ما يصلح وما لا يصلح بسرعة، وتوثّق الأخطاء قبل النجاحات. كما تحرص على إشراك أكثر من قسم في التجربة؛ فمثلًا يمكن لفريق البحث والتطوير أن يستفيد من ملاحظات فريق المبيعات في المراحل الأولى من العمل، مما يوفّر نظرة واقعية أقرب للسوق. ولزيادة دقة النتائج، تعتمد هذه الفرق على مجموعات مقارنة "أي فرق يُقاس عليها تأثير التجربة بمقارنتها مع فرق لم تُجرّب التغيير" عندما يكون ذلك ممكنًا، وتقيس مؤشرات مبكرة يمكن من خلالها التنبؤ بالنجاح، بدلًا من الاكتفاء بنتائج نهائية متأخرة. بعض الشركات تبدأ من تصور واضح لما سيكون عليه النجاح، ثم تعود خطوة إلى الوراء لتفهم الافتراضات التي يجب أن تتحقق حتى تصل إليه. على سبيل المثال، نجحت إحدى شركات التكنولوجيا الزراعية في استخدام هذا الأسلوب لتحديد أفضل مسار لإطلاق منتج جديد، ما مكّنها من طرح المنتج في السوق بوقت أقل بنسبة 30%.
- التجارب الصغيرة يمكن أن تحقق نتائج كبيرة: ليس من الضروري أن تبدأ المؤسسات بتطبيق واسع أو تغيير شامل حتى تصل إلى أفكار فعالة. إن أنجح التجارب داخل المؤسسات تمت بمشاركة مجموعة صغيرة من الموظفين—لا تزيد عن خمسة إلى عشرة أشخاص—ولفترة قصيرة تتراوح بين أسبوعين وأربعة أسابيع فقط. الهدف في هذه المرحلة ليس تحقيق نتائج نهائية أو دقة إحصائية، بل تجربة الفكرة بسرعة، وملاحظة ردود الفعل، وتعلّم ما يمكن تطويره.
- سجّل السبب... لا النتيجة فقط: سواء نجحت التجربة أو لم تحقق ما هو متوقّع، يبقى السؤال الأهم هو: لماذا حدث ذلك؟ ففهم السبب أهم بكثير من معرفة النتيجة. إن الفرق التي تهتم بتوثيق ما تعلّمته من كل تجربة—سواء كانت ناجحة أو لا—تبني مع الوقت معرفة مؤسسية قوية. هذه المعرفة تُصبح مرجعًا ثمينًا في المستقبل، وتُسرّع من وتيرة الابتكار، لأنها تقلل تكرار الأخطاء وتُرشد الجهود نحو ما ينجح فعلًا.
عندما أطلقت أمازون خدمة "Prime Video"، لم تلقَ في البداية التفاعل المتوقع من المستخدمين. لم تتجاهل الشركة الأمر، ولم تتسرّع في إنهاء التجربة، بل طرحت السؤال الأهم: ما السبب؟ أظهرت المراجعة أن المستخدمين لم يروا في الخدمة قيمة كافية بمفردها، ومالوا أكثر إلى المنصات التي تقدّم محتوى حصريًا. بدلًا من تحسين الشكل فقط، أعادت أمازون التفكير في جوهر الخدمة؛ فقامت بدمج "Prime Video" ضمن عضوية "Prime" الأشمل، لتصبح جزءًا من عرض متكامل أكثر جذبًا، ثم بدأت في الاستثمار في إنتاج محتوى أصلي. هذا التغيير الاستراتيجي حوّل تجربة متعثّرة إلى عنصر أساسي في نجاح المنصة، وساهم في تعزيز الاشتراكات وبناء علاقة أقوى بين أمازون وعملائها.
الحفاظ على أعلى معايير التقدير والإشادة
وخلال سعي القادة لتشجيع الابتكار، يقع البعض في فخ الإشادة المفرطة بكل تجربة، مهما كانت نتائجها. وعندما يحصل كل مشروع على نفس القدر من الثناء، وتُضخَّم التقارير لطلب ميزانيات أكبر، تختفي الأفكار الحقيقية التي تستحق الاهتمام وسط الضجيج. أما المؤسسات الأكثر وعيًا، فهي تفرّق بوضوح بين التجارب المثيرة للاهتمام (التي تستحق التجربة)، وبين الابتكارات القوية (التي تستحق أن تتوسع ويتم دعمها بشكل كبير). كما أنها لا تكافئ النجاح فقط، بل تُقدّر أيضًا من يعترف بإخفاقه بصدق، لأنهم يدركون أن التعلّم من الخطأ لا يقل أهمية عن الاحتفال بالإنجاز.
إن التمييز في الثناء لا يعني التقليل من الجهود أو كبت روح المبادرة، بل يعني أن يكون التقدير موجّهًا وهادفًا. فحين يُقدَّم الثناء بشكل انتقائي ومبني على مبررات واضحة، يصبح أكثر تأثيرًا ومصداقية. وعندما يشرح القادة بوضوح لماذا تُعدّ فكرة ما إنجازًا حقيقيًا أو نقلة نوعية، فإنهم لا يكتفون بتقدير العمل، بل يرسمون أمام الفريق ملامح التميّز الحقيقي، ويوضحون ما الذي يجب السعي إليه وتكراره. بهذه الطريقة، يتحوّل الثناء من مجاملة عابرة إلى أداة فعّالة لتعزيز الأداء وتوجيه الجهود نحو ما يصنع فرقًا فعليًا.
ومن الجدير بالذكر أنه بإمكان المؤسسات أن تعزز ثقافة الابتكار لديها ببساطة من خلال تغيير الطريقة التي تتحدث بها عن المشاريع التجريبية. فبدلًا من السؤال التقليدي: "كيف يسير مشروع الذكاء الاصطناعي؟"، يمكن طرح سؤال أعمق: "ما الذي اكتشفتموه وكان مفاجئًا؟" وبدلًا من الاكتفاء بالاحتفاء باستخدام أداة ذكاء اصطناعي، يصبح التركيز على ما قدمته هذه التجربة من أفكار جديدة لتحسين أساليب العمل. هذا التحوّل البسيط في الحوار يضع التعلم في قلب التجربة، ويعزز الابتكار الحقيقي داخل المؤسسة.
في واحدة من المجموعات القابضة الكُبرى، اتّبع الرئيس التنفيذي نهجًا عمليًا لترسيخ ثقافة الابتكار وتحقيق الأثر. بدلاً من ترك المشاريع التجريبية تدور في دائرة الأفكار، دعا 100 من قادة الأعمال في المجموعة إلى تبنّي مشاريع قائمة على الذكاء الاصطناعي، على أن يلتزم كل منهم بتحقيق هدف محدد، سواء في زيادة الإيرادات أو خفض التكاليف أو رفع مستويات رضا العملاء. الأهم من ذلك، أن هذه الأهداف لم تكن مجرد وعود نظرية، بل طُلِب تضمينها فعليًا في موازنات السنة التالية أو التي تليها، لترسيخ الجدية وربط الابتكار بنتائج واضحة قابلة للقياس.
ولا تكتفي المؤسسات التي تتقن تطبيق هذه المبادئ بتبني التقنيات الجديدة بسرعة، بل تبني على ذلك ميزة تنافسية تتضاعف مع مرور الوقت. فكل تجربة ناجحة تعزز ثقة الفريق بقدرته على الابتكار، وكل فشل موثّق بدقة يوفّر على الآخرين تكرار الأخطاء نفسها. ومع كل قائد يتبنّى عقلية "البستاني"، تتوسع المساحة المتاحة لنمو أفكار جديدة، ليصبح الابتكار جزءًا طبيعيًا من نسيج العمل اليومي.
وأخيرًا، إن العالم يتغير لحظة بلحظة، لذلك لا يكفي أن تواكب المؤسسات التطورات، بل يجب أن تملك القدرة على التكيّف السريع وإعادة التشكيل. فالمؤسسات التي تتبنّى ثقافة التعلّم المستمر هي التي تسبق غيرها بخطوة؛ إذ ترصد بوادر الابتكار في مراحله الأولى، وتمنحه الدعم الذي يحتاجه لينمو، ثم تبني عليه بذكاء لتوسيع نطاق أثره.