معادلة جديدة للربحية: الذكاء الاصطناعي يغيّر وجه صناعة إدارة الأصول عالميًا

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

تمُرّ صناعة إدارة الأصول العالمية بمنعطفٍ دقيق، بعد أن فقدت الكثير من العوامل التي دعّمت نموّها لعقود، وعلى رأسها انخفاض أسعار الفائدة، واستقرار معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي. خاصةً وأن هذا التراجع يتزامن مع تحوّلاتٍ هيكلية يشهدها القطاع، أبرزها التحوّل من نماذج الإدارة النشطة، التي تعتمد على مديري الأصول في اتخاذ القرارات، إلى الإدارة السلبية التي تواكب مؤشرات السوق، ومن الأدوات الاستثمارية التقليدية إلى الاستثمارات البديلة، كصناديق التحوّط والاستثمارات الخاصة. لذا، يفرض هذا المشهد المتغيّر على الشركات البحث عن نماذج أكثر استدامةً للحفاظ على أدائها وتنافسيّتها. فعلى الرغم من مرور عقدٍ كامل شهد نموًّا غير مسبوقٍ في الأسواق، أصبحت التكاليف في القطاع أكثر صلابةً وأقلّ قابليةً للتخفيض، في حين اتّسمت الإيرادات بالتقلّب وعدم الاستقرار، مما أدّى إلى تراجع الهوامش الربحية بثلاث نقاطٍ مئوية في أمريكا الشمالية، وخمس نقاطٍ في أوروبا خلال خمس سنواتٍ فقط. وفي الوقت ذاته، ارتفع حجم الإنفاق على التكنولوجيا بشكلٍ لافت، من دون أن يقابله تحسّنٌ ملموس في مستويات الإنتاجية، وهو ما يطرح تساؤلاتٍ جدّيّةً حول مدى كفاءة هذا الإنفاق وأثره الفعلي على أداء الشركات.

وبالتزامن مع ما يشهده قطاع إدارة الأصول من تحديات، يبرز الذكاء الاصطناعي كأحد أبرز عوامل التغيير، حيث بدأ عددٌ متزايدٌ من الشركات في توظيفه لتعزيز الإنتاجية ورفع كفاءة العمليات. وتشير تقديرات ماكنزي إلى أن الاعتماد الواسع على تقنيات الذكاء الاصطناعي – بما في ذلك النماذج التوليدية والجيل الأحدث المعروف بـ"الذكاء التفاعلي" – قد يُسهم في خفض إجمالي التكاليف التشغيلية بنسبةٍ تتراوح بين 25 إلى 40 في المائة لدى متوسّط شركات إدارة الأصول، مما يبرز التأثير التحويلي المحتمل لهذه التقنيات على هيكل التكلفة في القطاع. وتكشف أبحاثنا عن مجموعةٍ من المجالات التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث فيها فرقًا حقيقيًّا، من بينها: تحسين آليات التوزيع والوصول إلى العملاء، وتبسيط خطوات اتخاذ القرارات الاستثمارية، وأتمتة المهام المتعلقة بالامتثال للأنظمة، فضلًا عن تسريع وتيرة تطوير البرمجيات. ورغم أهمية هذه التحسينات، فإنها تُعدّ مجرد بدايةٍ لموجةٍ أولى من مسارٍ تحوّليٍّ أوسع، يُنتظر أن يُعيد رسم ملامح قطاع إدارة الأصول بشكلٍ شامل، مدفوعًا بالتقدّم التكنولوجي المتسارع.

في هذا التقرير، نستعرض نهجًا منظمًا يساعد شركات إدارة الأصول على تحقيق عوائد ملموسة من استثماراتها التكنولوجية. إذ يعتمد هذا النهج على خبراتٍ واقعية واستراتيجياتٍ ناجحةٍ بالفعل، مع التركيز على تحديد الفرص الأعلى تأثيرًا، وبناء الأسس التي تُمكّن الشركات من تحقيق قيمةٍ مستدامة. وتشمل هذه الأسس: إعادة تصميم الوظائف الداخلية، وتطوير مهارات الموظفين، وتحديث أنظمة الحوكمة وتكنولوجيا المعلومات، وتوحيد منصات البيانات، فضلًا عن تطبيق إدارةٍ فعّالة للتغيير تواكب التطوّر المستمر. وقد استند هذا التحليل إلى دراسةٍ شملت شركاتٍ تدير نحو 70 في المائة من إجمالي الأصول المُدارة عالميًا، إلى جانب مقابلاتٍ مع رؤساء تنفيذيين وكبار المسؤولين في عددٍ من شركات إدارة الأصول الرائدة في الولايات المتحدة وأوروبا (يُرجى الاطّلاع على العمود الجانبي:" نبذةٌ حول بحثِنا").

البحث عن العائد المفقود في الاستثمارات التقنية

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

على مدى السنوات العشر الماضية، استفاد قطاع إدارة الأصول من العوامل الداعمة للأسواق، والتي شملت انخفاض أسعار الفائدة، واستقرار نمو الناتج المحلي الإجمالي، وهدوء الأوضاع الجيوسياسية، وهو ما مكّنه من تحقيق أداءٍ قوي وتدفّقاتٍ ماليةٍ إيجابية. غير أن هذه العوامل بدأت تتراجع تدريجيًا منذ عام 2022، مما أدّى إلى تحوّلٍ واضح في مسار القطاع. فبعد سنواتٍ من النمو الاستثنائي وبلوغ مستوياتٍ قياسية في حجم الأصول المُدارة، سجّل القطاع في عام 2022 تراجعًا حادًّا بنسبة 10 في المائة. ورغم تعافي الأسواق جزئيًا في عام 2023، فإن تكاليف التشغيل واصلت ارتفاعها وازدادت صلابتها، حيث أصبحت أكثر صعوبةً في الاحتواء، في حين ظلّت الإيرادات غير مستقرة ويصعب التنبؤ بها.

وقد انعكست هذه التحديات جميعها على هوامش الأرباح التشغيلية، التي سجّلت تراجعًا ملحوظًا بلغ ثلاث نقاطٍ مئوية في أمريكا الشمالية، وخمس نقاطٍ في أوروبا، خلال الفترة الممتدة من 2019 وحتى 2023. فعلى سبيل المثال، تُظهر البيانات أن تكاليف التشغيل لدى شركات إدارة الأصول في أمريكا الشمالية ارتفعت بنسبة 18 في المائة خلال تلك الفترة، في حين لم يتجاوز نمو الإيرادات 15 في المائة. وفي ظل استمرار الضغوط التضخمية، وتقلّب أسعار الفائدة، إلى جانب تزايد الاضطرابات الجيوسياسية، بات من الصعب توقّع الإيرادات بدقة، مما يُحتّم على الشركات أن تُعيد النظر في هيكل تكاليفها، كخطوةٍ أساسيةٍ لاستعادة ربحيتها، وتعزيز قدرتها على التكيّف والنمو في مواجهة تقلبات السوق.

وفي هذا السياق، تستحضر الأوساط الاقتصادية مقولةً شهيرة أطلقها الاقتصادي "روبرت سولو" عام 1987: "بإمكانك رؤية التكنولوجيا في كل مكانٍ ما عدا إحصاءات الإنتاجية". وهي مقولةٌ تنطبق تمامًا على واقع قطاع إدارة الأصول اليوم. فرغم الارتفاع الكبير في الإنفاق التكنولوجي عالميًا، لا تزال العوائد الإنتاجية لهذه الاستثمارات محدودةً وغير ملموسة. فقد أصبحت التكنولوجيا أحد أبرز أسباب ارتفاع التكاليف في القطاع، متجاوزةً في أثرها جميع الوظائف التشغيلية الأخرى من حيث حجم الإنفاق. وتؤكد البيانات أن الاستثمارات التكنولوجية في أمريكا الشمالية وأوروبا سجّلت معدل نموٍ سنويٍّ مركب بلغ 8.9 في المائة خلال السنوات الخمس الماضية (الشكل 1). وبالنظر إلى واقع القطاع الحالي، حيث يتزايد الإنفاق التكنولوجي دون تحسّنٍ موازٍ في الإنتاجية، يطرح قادة الصناعة تساؤلاتٍ جوهرية: كيف يمكن تحقيق قيمةٍ حقيقية وعائدٍ ملموس من هذه الاستثمارات؟ وما الدور المنتظر للذكاء الاصطناعي، خصوصًا الجيل التوليدي منه، في تحويل هذه الاستثمارات من عبءٍ مالي إلى محرّكٍ حقيقي للإنتاجية والنمو؟

لماذا لا تجنِي شركات إدارة الأصول ثمار التكنولوجيا؟

رغم الزخم الكبير الذي يشهده قطاع إدارة الأصول على صعيد الإنفاق التكنولوجي، لا تزال النتائج بعيدةً عن التطلعات. فعلى مستوى القطاع، لم يُظهر مؤشر تكلفة التشغيل كنسبةٍ من الأصول المُدارة – وهو واحدٌ من أهم مقاييس الإنتاجية – أي تحسّنٍ يُذكر خلال السنوات الأخيرة. بل إن المصروفات التشغيلية في الأقسام الأخرى استمرّت عند مستوياتها، بالرغم من الرهانات على دور التكنولوجيا في تحقيق وفوراتٍ تشغيلية وكفاءة أعلى. وتُظهر تحليلات الأداء أن الشركات التي تنفق أكثر على التكنولوجيا لا تتمتع بالضرورة بإنتاجيةٍ أعلى من غيرها، كما يتضح من بعض المؤشرات، مثل "نسبة التكاليف إلى الأصول المُدارة" (الشكل 2)، و"الإيرادات لكل موظفٍ بدوامٍ كامل" (الشكل 3). وبالرغم من وجود تحسنٍ طفيف، إلا أن التحليل الإحصائي يعكس واقعًا مختلفًا؛ فقيمة معامل التحديد (R²) – وهو مقياسٌ إحصائي يُستخدم لتقييم قوة العلاقة بين متغيّرين – لم تتجاوز 1.3 في المائة، مما يدل على أن زيادة الإنفاق التكنولوجي لا يعني بالضرورة تحسين الإنتاجية.

ويعود هذا الخلل إلى الطريقة التي تُدار بها الميزانيات التقنية داخل العديد من الشركات، إذ يُوجَّه الجزء الأكبر من الإنفاق نحو تشغيل الأنظمة القائمة، بدلًا من دعم مسارات التحوّل والتحديث. وتُظهر البيانات أن ما بين 60 إلى 80 في المائة من ميزانيات التكنولوجيا يُخصَّص عادةً لتشغيل الأعمال اليومية، في حين لا تتجاوز الحصة المخصَّصة لمبادرات تطوير الأعمال 20 إلى 40 في المائة. والأهم من ذلك، أن ما يُوجَّه فعليًّا إلى التحوّل الرقمي الشامل لا يتعدى 10 إلى 30 في المائة من هذه النسبة، أي ما يعادل بالكاد 5 إلى 10 في المائة من إجمالي الميزانية المخصّصة للتكنولوجيا. أما بقية المخصّصات، فتُستهلك غالبًا في مبادراتٍ محدودة النطاق، تفتقر إلى القدرة على التوسّع وتحقيق أثرٍ ملموس على مستوى المؤسسة.

ومع ذلك، هناك بعض التجارب الناجحة التي تؤكّد إمكانية قلب المعادلة. فقد تمكّنت إحدى شركات إدارة الأصول، التي تتجاوز قيمة أصولها المُدارة تريليون دولار، من إعادة هيكلة أولوياتها التقنية بشكلٍ جذري خلال فترةٍ لم تتجاوز خمس سنوات. ففي عام 2020، كانت الشركة تُخصّص 80 في المائة من ميزانيتها التكنولوجية لتشغيل الأنظمة القائمة، في ظل تزايد الضغوط على هوامش الأرباح وتراكم ما يُعرف بـ"ديون التكنولوجيا". لكنها بادرت بإطلاق برنامج تحوّلٍ شامل لإعادة ترتيب أولوياتها الرقمية، وتوجيه الجزء الأكبر من استثماراتها نحو مجالات التطوير. وبحلول النصف الأول من عام 2025، أصبحت تُخصِّص 70 في المائة من ميزانيتها التقنية لمبادرات التحديث والتحوّل. وقد تحقّق هذا التحوّل من خلال حزمةٍ من الخطوات الاستراتيجية، من أبرزها: تركيز الجهود على القدرات الجوهرية التي تمتلك فيها الشركة ميزةً تنافسيةً واضحة، والتخلّي عن المبادرات الابتكارية المُكلفة وغير المُجدية، والاعتماد الكامل على الحوسبة السحابية. كما شمل التحوّل تقليص دورات تطوير المنتجات التي كانت تستغرق من 9 إلى 12 شهرًا، إلى دوراتٍ أقصر لا تتجاوز 3 إلى 4 أشهر، إلى جانب إعادة هيكلة فِرق العمل الداخلية لتقليل الاعتماد على المتعاقدين الخارجيين.

ورغم هذه النماذج الإيجابية، تظل العقبات قائمةً لدى شريحةٍ واسعة من الشركات. فكثيرٌ منها لا يزال يعتمد على أنظمةٍ تقنيةٍ مجزّأة تخدم فئاتٍ مختلفة من الأصول، ويعمل ضمن بيئات بياناتٍ معزولة، يصعب فيها مشاركة المعلومات بين الوظائف المختلفة، مما يُعرقل التكامل ويُقوّض إمكانية تحقيق قيمةٍ مضافة من البيانات المتنوّعة. كما تفتقر تلك الشركات إلى منصات بياناتٍ شاملة تدعم دورة العمل من البداية إلى النهاية، مما يُعقّد مهمة توحيد البيانات والاستفادة منها بشكلٍ فعّال.

وتزداد التحديات تعقيدًا عندما تستند البنية التحتية لتلك الشركات إلى أنظمةٍ قديمة ومجزّأة، إذ ترفع من تكاليف التشغيل وتبطئ وتيرة التحوّل. والأسوأ من ذلك، أن بعض الشركات تُنهي مشروعات التحديث دون أن تتخلّص فعليًّا من أنظمتها القديمة، مما يؤدي إلى تضخّم عدد التطبيقات، مما يُضعف نتائج التحوّل الرقمي ويحدّ من مكاسب الكفاءة التشغيلية.

إنّ هذا الواقع يُنتِج ما يشبه الحلقة المُفرغة، حيث يُفضّل الكثير من شركات إدارة الأصول الاستمرار في تشغيل الأنظمة القديمة بدلًا من تحديثها، مما يؤدي إلى تراكم ما يُعرف بـ"ديون التكنولوجيا"، ودفع "ضريبة التعقيد" المتمثّلة في الهَدر الزمني والمالي المستمر. وقد ألقى هذا الواقع بظلاله على التوافق الداخلي داخل الشركات، إذ ساهم في اتساع الفجوة في وجهات النظر بين مسؤولي قطاع التكنولوجيا من جهة، والقادة التنفيذيين في الوحدات التشغيلية من جهةٍ أخرى، حول القيمة الفعلية التي تُقدّمها هذه التقنيات الحديثة. وغالبًا ما تعود أسباب هذا التباين إلى الاعتماد على أنظمةٍ لا تلائم طبيعة العمل، إلى جانب عزلة الأدوار وضعف آليات التنسيق فيما بينها، فضلًا عن اختلاف معايير النجاح وأولويات الأداء بين فِرق العمل، مما يُضعف التنسيق ويُقوّض روح المسؤولية المشتركة داخل المؤسسة.

ومع ذلك، تسعى العديد من المؤسسات إلى تحقيق أثرٍ فعليّ لاستثماراتها التقنية، حيث بدأت بعض النماذج المُلهِمة في الظهور بالفعل. ففي قطاع الخدمات المصرفية، تمكّن بنك "DBS" في سنغافورة من تسجيل معدّلات نموٍ سنوية مركبة بلغت 11 في المائة في صافي الأرباح، و8 في المائة في الإيرادات، متفوّقًا بذلك على متوسطات السوق التي بلغت 6 و8 في المائة على التوالي. ويرجع السبب وراء هذا التفوّق إلى اتّباع البنك نهجًا تقنيًا شاملًا يهدف إلى إحداث تحوّلٍ عميق في المجالات التشغيلية، ويمتدّ عبر جميع مراحل العمل، من خلال إعادة ابتكار نموذج التشغيل بالكامل، وتبنّي التقنيات الرقمية بشكلٍ مدروس.

فلم يعُد قادة الشركات الرائدة ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي كأداةٍ تقنيةٍ عادية، بل يعتبرونه فرصةً استراتيجية لإعادة بناء هيكل المؤسسة بالكامل، وإحداث تحوّلاتٍ نوعية في اقتصاداتها. ولعلّ ما يجعل هذا التحوّل ممكنًا هو ما تتمتع به أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة من قدراتٍ على التعلّم الذاتي، والتكيّف، واتخاذ القرارات، بما يُتيح دمج هذه التقنيات الحديثة بسلاسةٍ في العمليات اليومية، وتحقيق قفزاتٍ إنتاجيةٍ حقيقية عبر مختلف وظائف المؤسسة.

الذكاء الاصطناعي يُعيد صياغة معادلة الربحية في قطاع إدارة الأصول

تواجه شركات إدارة الأصول اليوم لحظةً فارقة قد تُعيد صياغة معادلة التكاليف والإيرادات بالكامل، في ظل تسارع وتيرة تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي. فقد أتاح ظهور ما يُعرف بـ" وكلاء الذكاء الاصطناعي" أو "الذكاء الاصطناعي التفاعلي" فرصةً غير مسبوقة لهذه الشركات لتجاوز القيود التقليدية لهياكل التشغيل، وتحقيق مستوياتٍ أعلى من الكفاءة والربحية؛ حيث تُظهر التقديرات أن التوظيف الأمثل للذكاء الاصطناعي قد يُتيح للشركات استعادة هوامشها الربحية، بل وقد يُمكّنها من تحقيق قفزاتٍ تتجاوزها. فعلى سبيل المثال، يمكن لشركةٍ متوسطة الحجم تُدير أصولًا بنحو 500 مليار دولار أن تُحقّق وفوراتٍ تتراوح بين 25 إلى 40 في المائة من إجمالي تكاليفها، عبر إعادة تصميم سير العمل بالكامل، بما يُمكّنه من الاعتماد على حلول الذكاء الاصطناعي. ولتحقيق هذه النتائج، لا بدّ من تبنّي نهجٍ تشغيليٍّ جديد يقوم على دمج الأدوار بسلاسة، من خلال توظيف كلٍ من "الوكلاء الافتراضيين" وتقنيات الأتمتة التقليدية جنبًا إلى جنب مع الأدوار البشرية، ضمن منظومةٍ متكاملة. وهو ما يتطلّب إدارة التغيير بفاعلية، مع التركيز على تهيئة البيئة الداخلية للمؤسسة، وتثقيف الكوادر لضمان التبنّي الحقيقي والمستدام للتقنيات الجديدة.

وعلاوةً على هذه المكاسب الإنتاجية، بدأت بعض شركات إدارة الأصول تجني ثمار استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في وقتٍ مبكر، ليس فقط على صعيد الكفاءة التشغيلية، بل أيضًا في تعزيز الإيرادات وتقليل المخاطر. ومن أبرز هذه الفوائد: تحسين بناء المحافظ الاستثمارية، واستهداف العملاء بدرجةٍ أعلى من الدقة، وهو ما انعكس بشكلٍ إيجابيٍّ على الإيرادات. كما تستخدم بعض الشركات أدوات الذكاء الاصطناعي في الرصد التلقائي للامتثال، وتوثيق المعرفة المؤسسية وتحويلها إلى أصولٍ رقمية قابلةٍ للاستخدام، مما يُقلّل من الخسائر الناتجة عن انتقال الكفاءات أو تغيّرها.

ولم يتوقّف تأثير الذكاء الاصطناعي عند هذا الحد، إذ يرى كبار التنفيذيين في قطاع إدارة الأصول أن الذكاء الاصطناعي يحمل فرصًا للابتكار في مجالاتٍ متعددة، منها: تطوير قنوات توزيع المنتجات الاستثمارية، وتسريع معالجة البيانات، وأتمتة عمليات الامتثال، إلى جانب إحداث تحولٍ على مستوى تطوير البرمجيات. ورغم أن الكثير من الشركات لا تزال في بداية طريق التحوّل، إلا أنّ ما تحقّق حتى الآن يعكس ما تمتلكه هذه التقنيات من قدراتٍ كبيرة، والتي يُتوقَّع أن تُحدث تأثيرًا حقيقيًا في مختلف مراحل عمل شركات إدارة الأصول (الشكل 4).

فعلى مستوى الوظائف التي تتعامل مباشرةً مع العملاء، يشهد قطاع إدارة الأصول تحوّلًا متسارعًا بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي أصبحت تمكّن المؤسسات من تقديم تجارب أكثر تخصيصًا وسلاسة، إلى جانب تحقيق وفوراتٍ تُقدَّر بنحو 9 في المائة على صعيد الكفاءة التشغيلية.1 وقد بدأنا بقياس هذا الأثر من خلال تحديد حالات الاستخدام والمهام الفردية في كل مجالٍ وظيفي، مع قياس الوقت الذي يخصّصه الموظفون الذين يعملون بدوامٍ كامل لكل مهمة. وبناءً على آراء الخبراء وتجارب المؤسسات، تم حساب وفورات الوقت المتوقعة، ثم احتساب الأثر الفعلي المحتمل لكل حالة استخدام بعد تطبيق ما يُعرف بـ "معدّل التحصيل" على الوفورات الكاملة، وذلك لأخذ الخسائر المحتملة في القيمة أو تحديات التنفيذ بعين الاعتبار، ما أتاح الوصول إلى القيمة الواقعية المتوقعة. وفي المرحلة النهائية، تم جمع حالات الاستخدام الخاصة بكل مجالٍ وظيفي لتقدير الأثر المستهدف على نطاقٍ أوسع. وفي هذا السياق، تُسهم المساعدات الافتراضية في تقديم رؤى فورية حول المحافظ الاستثمارية، مما يُمكّن مديري العلاقات من تلبية احتياجات العملاء بمعلوماتٍ دقيقة ولحظية. كما يُسهّل الذكاء الاصطناعي التوليدي عمليات الانضمام للعملاء الجدد عبر تسريع وتيرة إدخال البيانات وضمان دقتها. أما من حيث المحتوى، فتوفر الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي إمكاناتٍ واسعة لإنشاء رسائل تواصل مخصّصة وعلى نطاقٍ كبير، تحافظ على تفاعل العملاء وتُخفّف من الأعباء اليدوية على فِرق العمل.

أمّا في مجال إدارة الاستثمارات، فقد أحدث الذكاء الاصطناعي التوليدي تحوّلًا نوعيًا في كيفية توليد الرؤى ودعم اتخاذ القرار، حيث تُقدَّر مساهمته في تعزيز كفاءة الأداء بنحو 8 في المائة. فقد بات المحللون يعتمدون على مساعدين بحثيين افتراضيين مدعومين بالذكاء الاصطناعي لتحليل كمّياتٍ ضخمةٍ من البيانات المستخرجة من مكالمات الأرباح، والتقارير المالية، والمؤتمرات، مما يُسرّع الوصول إلى رؤى استراتيجية دقيقة، كما يوظّف مديرو المحافظ هذه الأدوات في تحسين استراتيجياتهم الاستثمارية، وتضييق نطاق خياراتهم، وبناء محافظ أكثر كفاءةً وتوازنًا. ويسهم هذا النهج كذلك في تعزيز استخدام نماذج متقدّمة لتقييم المخاطر، وتقارير مؤتمتة عالية الدقة، تُسهِم في تمكين الشركات من اتخاذ قراراتٍ استثمارية أكثر وعيًا تستند إلى بياناتٍ موثوقة وتحليلاتٍ أكثر عمقًا.

وفيما يخصّ الامتثال وإدارة المخاطر، فقد أسهم الذكاء الاصطناعي التوليدي في تبسيط العديد من العمليات التي كانت تعتمد سابقًا على التدخل اليدوي، مع تحقيق تأثيرٍ إيجابي يُقدَّر بنحو 5 في المائة على مستوى الكفاءة. حيث أصبح مسؤولو الامتثال اليوم يستخدمون المساعدين الافتراضيين لفهم المتطلبات التنظيمية المعقدة، والكشف عن الثغرات في الوثائق والملفات التنظيمية. كما تُستخدم أدوات المراقبة الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي لرصد الانحرافات واحتمالات عدم الامتثال، مما يُعزّز من القدرة على الرقابة الاستباقية. ومع هذا التوسّع في أتمتة المهام، من المرجّح أن ينخفض الاعتماد على الأساليب التقليدية في المراجعة والرقابة اليدوية بشكلٍ كبير.

وفي مجال التقنية وتطوير البرمجيات، يُسهم الذكاء الاصطناعي التوليدي في إعادة تشكيل آليات تصميم البرامج وصيانتها، مُحدثًا أثرًا يصل إلى 20 في المائة على مستوى الكفاءة. إذ يعتمد المطورون على أدواتٍ ذكية تساعدهم في كتابة الشيفرات، واكتشاف الأخطاء، وتنفيذ الاختبارات، مما يُسهم في تقليص زمن التطوير وتحسين جودة المنتج النهائي. كما تُسهم الوثائق التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي في تحقيق الاتساق وتعزيز نقل المعرفة بين فِرق العمل. وينطبق الأمر ذاته على إدارة خدمات تقنية المعلومات، حيث أصبحت العديد من المهام تُنفّذ بكفاءةٍ عبر أنظمةٍ ذكية قادرة على التعامل مع الطلبات ومعالجة الأعطال دون الحاجة إلى تدخلٍ بشريٍ مباشر.

باختصار، لا يقتصر أثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي على رفع الكفاءة التشغيلية فحسب، بل يمتد أثرها ليرتقي بمستوى الرؤى التحليلية المُقدّمة، ويُحسّن تجربة العملاء والموظفين على حدٍ سواء، مما يعزّز قدرة شركات إدارة الأصول على التكيّف مع المتغيّرات المستقبلية بثقةٍ واستباقية.

تطوير بيئة مؤسسية داعمة لتعظيم مكاسب الذكاء الاصطناعي

على الرغم من أن تحقيق وفوراتٍ تتراوح بين 8 إلى 9 في المائة لكل حالة استخدامٍ يُعدُّ بدايةً واعدة، فإن الطريق لا تزال طويلةً أمام مديري الأصول ليتمكّنوا من استغلال الإمكانات الحقيقية للذكاء الاصطناعي على الوجه الأمثل. فالمكاسب الحقيقية لا تتحقق من خلال مبادراتٍ متفرقة، بل من خلال إعادة هيكلةٍ شاملة للمجالات التنظيمية وإعادة تصميم سير العمل من جذوره، مع الاستعداد لإدارة التعقيدات المصاحبة لعمليات التغيير. وتشير التجارب التكنولوجية السابقة، مثل تبنّي الحوسبة السحابية والتحليلات المتقدمة، إلى أن التعامل مع التكنولوجيا كوظيفةٍ معزولة غالبًا ما يمنع الشركات من تحقيق المكاسب المرجوّة، خاصةً عندما تُنفّذ الحلول التقنية بشكلٍ منفصل عن السياق الاستراتيجي الأشمل. ومن دون معالجة هذه الثغرات الأساسية، ستظل النتائج محدودة. أما الشركات التي تُسارع إلى بناء الأسس الصحيحة منذ البداية، فستمتلك الأفضلية في السوق، بفضل قدرتها على إعادة استثمار مواردها وتحفيز الابتكار، بينما ينشغل منافسوها بمحاولة تقليص الفجوة.

وبناءً على نتائج أبحاثنا، تم تحديد ستّ أولوياتٍ أساسية تُمكّن شركات إدارة الأصول من تحقيق الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي.

إعادة هيكلة التخصصات المؤسسية لتمكين الذكاء الاصطناعي من تحقيق أقصى أثر

لتحقيق تحوّل فعلي في قطاع إدارة الأصول، لا يكفي الاعتماد على مبادراتٍ محدودة أو تحسيناتٍ جزئية. فالاستفادة الكاملة من إمكانات الذكاء الاصطناعي تتطلّب إعادة تصميمٍ شاملة لمجالات العمل، تستند إلى رؤيةٍ استراتيجية مدعومة بالتقنيات الحديثة، مع توجيه الجهود نحو أهدافٍ واضحة، مثل دخول أسواق جديدة أو إطلاق منتجاتٍ مبتكرة. فعلى سبيل المثال، بدأت إحدى كبرى شركات إدارة الأصول الأمريكية، المصنّفة ضمن أكبر 30 شركة تركز على المستثمرين الأفراد، رحلتها في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال تنفيذ مئات المشاريع الصغيرة. غير أن هذه المحاولات المتفرقة لم تحقق النتائج المنشودة. ومن هنا، قررت الشركة تعديل استراتيجيتها بشكلٍ جذري، فركّزت جهودها على أربعة مجالاتٍ رئيسية، وهي: العمليات، التسويق، التوزيع، وإدارة الاستثمارات. ولضمان تحقيق عائدٍ ملموس، أنشأت الشركة وحدةً مركزية متخصصة في إدارة مبادرات الذكاء الاصطناعي، تتولى الإشراف الكامل على تنفيذ المشاريع وضمان تحقيق العوائد على المدى القصير والمتوسط والبعيد، وذلك تحت الرقابة المباشرة لفريق الإدارة العليا للشركة. وقد اختارت الشركة البدء بقسم التسويق، نظرًا لإمكاناته الكبيرة، مع التركيز بشكلٍ خاص على تبسيط إجراءات تقديم العروض. وقد بدأت بالفعل في جني ثمار هذا التحوّل، فيما تتوقع تحقيق مكاسب إضافية في المستقبل القريب.

إعادة هيكلة الموارد البشرية والعمليات لتعظيم أثر الذكاء الاصطناعي في التحوّل المؤسسي

وكما هي الحال عند إدماج أيّ تقنيةٍ جديدة ضمن منظومة العمل، فإن دمج الذكاء الاصطناعي في أنظمة شركات إدارة الأصول لا يخلو من التحديات، إذ يفرض مراجعةً شاملة لاستراتيجيات العمل، وخصوصًا فيما يتعلّق باختيار الكفاءات البشرية وتصميم الهياكل التنظيمية. ولا يقتصر الأمر على جذب المواهب الجديدة، بل يمتد ليشمل صقل مهارات الموظفين الحاليين وتعزيز قدرتهم على استخدام الأدوات الذكية بفعالية. فبينما يحتاج المهندسون إلى تدريباتٍ متقدّمة لتصميم أنظمةٍ ذكيةٍ مرنة وسهلة الصيانة، ينبغي في الوقت نفسه تمكين أصحاب الأدوار غير التقنية – مثل مديري العلاقات ومديري المحافظ – من استخدام هذه الأدوات في دعم قراراتهم اليومية. ومع ارتفاع تكلفة استقطاب الكفاءات المتخصصة، تتجه العديد من الشركات إلى الاستثمار في تطوير كوادرها الداخلية ورفع مستوى الوعي المؤسسي بتطبيقات الذكاء الاصطناعي. تخلق هذه الخطوات مجتمعةً بيئة عملٍ أكثر مرونةً وتنوعًا، حيث يتم تنظيم فِرق العمل على أساس المهارات بدلًا من الوظائف التقليدية، ويتقلص الارتباط بالموقع الجغرافي – إلا فيما يتعلق بالامتثال للوائح التنظيمية. ومع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي كشريكٍ فاعلٍ في تنفيذ المهام اليومية، بدأت مؤسساتٌ كبرى في استحداث وظائف تنظيمية جديدة، مثل "إدارة الموارد الذكية"، لتحديد المهام، وضبط العلاقات الداخلية، وتنظيم آليات التعاون بين الأنظمة الذكية والعاملين، بما يشبه أدوار الموارد البشرية التقليدية، ليُعيد هذا التوجّه تشكيل دور أقسام تكنولوجيا المعلومات، ويمنح الشركات دفعةً قوية نحو تسريع التحوّل الرقمي.

وتماشيًا مع هذا التوجّه، قررت إحدى كبرى شركات إدارة الأصول على مستوى العالم إعادة النظر في أولوياتها، بعدما أدركت أن الاستثمار في تدريب الموظفين على البرمجة لم يعد بنفس الأهمية التي كان عليها من قبل، وذلك بفضل قدرات الذكاء الاصطناعي المتطوّرة في كتابة الشيفرات وتحسينها تلقائيًا. وبدلًا من التركيز على البرمجة، وجّهت الشركة جهودها نحو تعزيز الكفاءة الرقمية لدى موظفيها، عبر نشر أدواتٍ ذكية تدعم الإنتاجية اليومية. ومن أبرز هذه المبادرات، إطلاق روبوت دردشة داخلي يستند إلى نموذجٍ لغويٍّ ضخم، يساعد الموظفين في بعض المهام مثل الترجمة، وتلخيص الوثائق، وإعداد المستندات ورسائل البريد الإلكتروني. وتقدّر الشركة أن هذه المبادرة ستؤدي إلى خفض نحو 70 في المائة من الجهد المطلوب لوضع السياسات الاستثمارية، وتوفير ما يصل إلى 100 ألف ساعة عملٍ سنويًا من خلال أتمتة التعامل مع الاستفسارات وتحسين كفاءة سير العمل الداخلي.

وفي تجربةٍ أخرى، اتّجهت إحدى شركات إدارة الأصول الرائدة إلى إعادة ترتيب أولوياتها في التوظيف، فحوّلت تركيزها من مهارات البرمجة إلى هندسة البيانات، وذلك بهدف تهيئة البنية التحتية والبيانات اللازمة لدمج الذكاء الاصطناعي بكفاءةٍ في أنظمتها التشغيلية. ومن ثمّ، لاحظت الشركة أن أكثر الفئات استفادةً من تقنيات الذكاء الاصطناعي هم المطوّرون الأعلى خبرةً والأصغر سنًا على حدٍّ سواء؛ فبينما ينجح كبار المطورين في توظيف خبراتهم العميقة لاستخلاص أقصى فائدةٍ من الأدوات الجديدة، يعتمد المبتدئون على الذكاء الاصطناعي لتعويض النقص في المهارات التقنية لديهم، مما يوفّر لهم انطلاقةً أسرع. كما لم تغفل الشركة أهمية دور القيادات، إذ ترى أن على التنفيذيين أنفسهم التعمّق في فهم تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، حتى يتمكنوا من قيادة التحوّل بثقة، وتحقيق الاستفادة القصوى من الإمكانات التي تتيحها هذه التقنية في نماذج أعمالهم.

دمج الذكاء الاصطناعي في نماذج التشغيل لرفع كفاءة الأداء

ومع توجّه كبرى شركات إدارة الأصول نحو تطوير نماذجها التشغيلية بما يتماشى مع قدرات الذكاء الاصطناعي، بدأت تظهر أساليب جديدة تجمع بين الإدارة المركزية وإتاحة مساحةٍ أكبر للفِرق المختلفة لتجربة الابتكار. ففي حين تتولى فِرق الحوكمة المركزية مسؤولية وضع التوجّهات الاستراتيجية، وضمان التنسيق بين الجوانب التقنية والتشغيلية، تتمتّع الوحدات التنفيذية بحريةٍ أكبر لتجربة أدوات الذكاء الاصطناعي وتطبيقها بسرعةٍ وعلى نطاقٍ واسع. ويأتي هذا التحوّل ليُعيد تشكيل الهياكل الإدارية التقليدية، في ظلّ ما تتيحه أدوات الذكاء الاصطناعي من فرصٍ لدمج الأدوار وتقليص الطبقات الوظيفية، خاصةً في الأقسام التي تتولّى المهام الخلفية والوسطى – أي المهام التشغيلية اليومية، مثل إدارات الشؤون الإدارية، والتحليل المالي، ومتابعة العمليات. وفي هذا السياق، يبرز دور الرؤساء التنفيذيين للمعلومات والتحوّل الرقمي كشركاء رئيسيين إلى جانب قيادات الشركة في تصميم نموذجٍ تشغيليّ أكثر مرونةً وحداثة.

ومن الأمثلة البارزة على هذا النهج ما قامت به واحدةٌ من أكبر عشر شركاتٍ لإدارة الأصول في العالم؛ إذ أطلقت مبادرةً شاملة لإعادة بناء عملياتها من البداية، لتصبح مؤسسةً تعتمد الذكاء الاصطناعي في كافّة أعمالها. كما شكّلت فريقًا مركزيًا من كبار المديرين التنفيذيين، وأنشأت هيكلًا صارمًا للحوكمة، لمتابعة مشروعات الذكاء الاصطناعي من خلال لجنةٍ عليا مسؤولةٍ عن اتخاذ قرارات التمويل المتعلّقة بالاستثمارات التقنية بشكلٍ مرن، بما يضمن توجيه الموارد نحو المشاريع الأكثر تأثيرًا وابتكارًا.

التحكّم في خارطة طريق تكنولوجيةٍ مخصَّصة.. يضمن للمؤسسات تفوقًا تنافسيًا مستدامًا

تسعى شركات إدارة الأصول الكبرى إلى تحويل دور التكنولوجيا من مجرد أداةٍ مساندة إلى عنصرٍ أساسي يساهم في زيادة الإنتاجية وتحقيق التميز التنافسي. ولتحقيق هذا الهدف، تحرص هذه الشركات على امتلاك خارطة طريقٍ تقنية خاصةٍ بها، بحيث لا تعتمد كليًا على شراء الخدمات التكنولوجية من شركاتٍ أخرى، بل تظل مُتحكّمةً في خطتها التقنية، حتى تضمن سرعة التنفيذ، وجودة الحلول، والوصول إلى تقنياتٍ متميزة لا يملكها منافسوها .ومن أبرز الاتجاهات الجديدة في هذا السياق، تبنّي ما يُعرف بـ"وصفات الذكاء الاصطناعي" الجاهزة، وهي حلولٌ قابلة للتكرار تُستخدم لتبسيط العمليات وتخفيف مخاطر الدمج ونشر الذكاء الاصطناعي بشكلٍ أوسع عبر البنية التحتية التقنية، وهو ما يُسهم في تبسيط التنفيذ وخفض التكاليف وبناء قدراتٍ فريدة يصعب على المنافسين تقليدها.

ومن هنا، برزت فكرة "وصفات الذكاء الاصطناعي" – وهي نماذجٌ وحلولٌ جاهزة قابلة للتكرار – تهدف إلى تسهيل العمل، وتوحيد الخطوات، وتقليل التعقيد. فعلى سبيل المثال، أقدمت إحدى شركات إدارة الأصول العالمية، التي تُقدّم خدماتٍ متنوعة تشمل الأسواق العامة والخاصة والقطاعات المؤسسية والفردية، على تشجيع موظفيها على تجربة أدوات الذكاء الاصطناعي المتاحة، ثم قامت بتحليل أنماط استخدامهم، ورصد الفرص الواعدة، لتحويلها إلى خطواتٍ واضحة وممنهجة يتم دمجها في الأعمال اليومية، مما وفّر لها وقتًا وجهدًا، واستثماراتٍ أكثر ذكاء.

بينما لاحظت شركةٌ أخرى، مصنّفةٌ ضمن أكبر 30 شركةً خاصة في هذا المجال، أنها تعتمد بشكلٍ كبير على شراء الخدمات التكنولوجية من شركاتٍ أخرى لتلبية احتياجاتها التقنية. لكنها ترى أن الحلول المتاحة ليست الأفضل دائمًا؛ لذلك اختارت أن تطوّر أدواتها داخليًا باستخدام بياناتها الخاصة، مع الاستعانة بالحلول الخارجية فقط في الجوانب الثانوية. هذا التوازن يمنحها قدرةً أكبر على التحكّم في مستقبلها التقني، ويحافظ على خصوصية بياناتها وتفوّقها في السوق.

اعتماد منهجية واضحة لإدارة البيانات يُعظّم عوائد الذكاء الاصطناعي

مع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والبيانات اللامركزية، تجد شركات إدارة الأصول نفسها أمام تحدٍّ كبير يتمثل في كيفية دمج هذه الأدوات ضمن أنظمتها التقنية. ولمواجهة هذا التحدي، أصبح من الضروري تطوير ممارسات حوكمة البيانات، من خلال بناء منصاتٍ موحّدة، واعتماد سياساتٍ فعّالة لإدارة البيانات غير المُهيكلة – أي تلك التي لا تتّبع تنسيقًا ثابتًا –، وضمان الامتثال للمعايير التنظيمية، والتعامل بحذرٍ مع البيانات الشخصية، خاصةً عند استخدام نماذج مغلقة المصدر. وتلعب الرسوم البيانية المعرفية دورًا هامًّا في عرض وتمثيل العلاقات بين الكيانات المختلفة بطريقةٍ مرئية ومنطقية، مما يجعل البيانات أكثر وضوحًا وسهولة في الاستخدام، ويمهّد الطريق أمام تطبيقاتٍ متقدّمة في مجالات الأتمتة، والتحليلات، وتجربة العملاء الشخصية.2

وفي هذا السياق، شدّد رئيس قسم التكنولوجيا في واحدةٍ من أكبر شركات إدارة الأصول على أهمية وجود استراتيجيةٍ واضحة للبيانات، وحوكمةٍ قوية كشرطٍ أساسي لتوسيع قدرات الذكاء الاصطناعي. وأوضح أن التطور السريع في هذا المجال تجاوز أنظمة الحوسبة السحابية القديمة وأساليب إدارة البيانات التقليدية، وهو ما يتطلّب ضخ استثماراتٍ جديدة ضمن ميزانيات التحديث المؤسسي، خصوصًا في مجال البيانات. فيما أكّد أن القيمة الحقيقية للذكاء الاصطناعي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الاستخدام الذكي للبيانات، سواء كانت مُهيكلة أو غير مُهيكلة، بشرط أن تكون مدعّمةً بالسياق المناسب الذي يمكّن النماذج الذكية من تقديم نتائج دقيقة وفعالة على مستوى المؤسسة بكامل قطاعاتها.

الذكاءُ الاصطناعيّ وحده لا يصنع الفرق.. تهيئةُ البيئةِ البشرية والإدارةُ الواعية مفتاحُ النجاح

إنّ امتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي لا يكفي وحده لتحقيق نتائج ملموسة؛ بل يتطلّب الأمر تغييراتٍ تدريجية في ثقافة العمل وسلوك الموظفين، إلى جانب دعمٍ منظَّم واستراتيجياتٍ مدروسة لإدارة التغيير. فإتقان مهارات التفاعل مع الذكاء الاصطناعي – كإعداد التعليمات الدقيقة والتعامل الفعّال مع النماذج الذكية – يحتاج إلى وقتٍ وتجربة، إذ غالبًا ما تكون النتائج الأولية محدودةً، لكنها تتحسّن مع الممارسة وتراكم الخبرة. ويُعدّ موظفو الصفوف الأمامية الحلقة الأهم فيما يُعرف بـ "المرحلة الأخيرة من تحقيق القيمة"، حيث ينبغي إشراكهم بفاعليةٍ في تحديد احتياجاتهم، وإعادة تصميم الإجراءات اليومية بما يضمن دمج الذكاء الاصطناعي بسلاسةٍ في سير العمل.

ولتحقيق هذا الهدف، يتعيَّن على المؤسسات تطبيق مجموعةٍ شاملة من محاور إدارة التغيير التي تستهدف تعديل العقليات والسلوكيات، وترسيخ ثقافة الابتكار، بما يُسرِّع من اندماج الذكاء الاصطناعي ضمن بيئة العمل. ومن أبرز هذه المحاور:

  • توفير القدوة من خلال تبنّي القيادات العليا لسلوكياتٍ داعمة للتغيير في مختلف مستويات المؤسسة
  • تعزيز فهم الموظفين ووعيهم بأهمية التحوّل من خلال رسائل واضحة ومتّسقة
  • تأهيل الكوادر عبر برامج تدريبية ترفع من جاهزيتهم وكفاءتهم للتعامل مع التحوّلات الجديدة
  • دعم التفاعل الإيجابي مع التغيير، من خلال استخدام أدوات تحفيزٍ رسمية (مثل الجوائز والحوافز)

ولتنفيذ هذا النهج الفعّال، يتطلّب الأمر وجود فريق عملٍ مخصصٍ – يتراوح عدده من 10 إلى 20 فردًا وفقًا لحجم المؤسسة – ليتولى قيادة هذه الجهود بالتنسيق الوثيق مع مديري الوحدات والإدارات المختلفة، لضمان تكامل التنفيذ على مستوى المؤسسة بأكملها.

فمن دون تبنّي مثل هذه المبادرات، ستجد المؤسسات صعوبةً في تحقيق العوائد المرجوّة من استثماراتها التكنولوجية. لذا، من الضروري الاستثمار في تدريب الموظفين، وتقديم حوافز تشجّعهم على إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي ضمن مهامهم اليومية وعمليات اتخاذ القرار. على الرغم من اتجاه العديد من شركات إدارة الأصول بالفعل إلى بناء قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي وتثقيف كوادرها، فإن هذه الجهود لا تزال تواجه مجموعةً من التحديات الشائعة، ومن بينها، الاعتماد على تجاربٍ أولية متفرقة بدلًا من إعادة تصميم العمليات من الصفر، وتنفيذ مشاريع الذكاء الاصطناعي دون وجود آلياتٍ واضحة لقياس النتائج، ضعف التنسيق بين الفِرق التقنية والإدارات التشغيلية، فضلًا عن عدم التركيز بشكلٍ كافٍ على الوصول إلى استخدامٍ حقيقي وفعّالٍ للأدوات الجديدة. وكما أظهرت التجارب، فإن الاستفادة الحقيقية من أتمتة دورة تطوير البرمجيات باستخدام الذكاء الاصطناعي لا تتحقّق إلا بعد حدوث تغييراتٍ سلوكيةٍ مستدامة تتجاوز موجة الحماس الأولى؛ إذ لا يظهر الأثر الحقيقي لاستخدام الأدوات الذكية – والذي يتراوح عادةً بين 15 إلى 30 في المائة من كفاءة الأداء – إلا بعد مرور فترةٍ تتراوح بين ستة إلى تسعة أشهرٍ من التطبيق الفعلي.

فعلى سبيل المثال، توقّعت إحدى أكبر شركات إدارة الأصول في العالم أن تمرّ بمرحلة تحوّلٍ صعبة نسبيًا، نظرًا لحجم العمل الأساسي الذي يجب إنجازه قبل جني ثمار التحوّل، والذي يشمل الاستثمارات التأسيسية اللازمة لتدريب الموظفين، وتعزيز ثقافة التعلّم، وإدارة التغيير داخل المؤسسة. ولتسريع وتيرة التقدّم، ركّزت الشركة على تسهيل استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي من خلال توفير بيئاتٍ تجريبيةٍ مرنة تتيح للموظفين تجربة الأدوات بأمان، إلى جانب إنشاء منصةٍ داخلية لتبادل البيانات تساعدهم في اختبار الحلول وتحسينها. كما تبنّت الشركة سياسةً ذكية ومرنة في تطبيق الذكاء الاصطناعي، فلم تفرض سياسةً واحدةً على الجميع، بل دعّمت كل قسمٍ حسب احتياجه الحقيقي؛ فالأقسام التي تمتلك خططًا تقنيةً واضحة احتاجت إلى إرشادٍ محدود، في حين تركّزت الجهود الأكبر على الأقسام التي لا تزال في بداية رحلتها الرقمية.


لم يعد التحوّل نحو الذكاء الاصطناعي في قطاع إدارة الأصول مجرّد خيار، بل بات ضرورةً لا يمكن الاستغناء عنها. فدمج هذه التقنية بذكاءٍ داخل المؤسسة يتيح لها مواجهة التحديات المالية المتصاعدة، ويمنحها القدرة على تحقيق قيمةٍ فعلية من استثماراتها التقنية. كما يُمثّل الذكاء الاصطناعي فرصةً حقيقية لإعادة تعريف كيفية استخدام التكنولوجيا، عبر تبنّي أساليب عملٍ جديدة، وبناء قدراتٍ تُمكّن المؤسسات من تحقيق أقصى استفادة من هذه الأدوات. غير أن الوصول إلى هذه النتائج يتطلّب تحوّلًا جذريًا في طريقة التعامل مع مثل هذه التقنيات الحديثة.

ومن هنا تبرز أهمية الركائز الست التي تناولتها هذه المقالة، والتي لا يمكن إغفال أيٍّ منها دون التأثير في البناء بأكمله. فوجود إدارةٍ مركزيةٍ تُشرف على التنفيذ وتنسّق الجهود، يُتيح للمؤسسات الانتقال من مرحلة التجريب المحدود إلى تحقيق نتائج ملموسة قابلةٍ للقياس، تُسهم في تطوير تجربة العملاء وتعزيز الأداء. ومن المؤكد أن المؤسسات التي تُحسن استغلال اللحظة الراهنة وتتخذ خطواتٍ مدروسة نحو تبنّي الذكاء الاصطناعي، ستكون الأوفر حظًا في تصدُّر مشهد القطاع خلال المرحلة المقبلة. أما تلك التي تتباطأ في اتخاذ القرار، فقد تواجه صعوباتٍ متزايدة يصعب تداركها لاحقًا. فالتحوّل الحقيقي لا يبدأ من امتلاك الأدوات فحسب، بل من إعادة صياغة طريقة التفكير، واستغلال قدرات الذكاء الاصطناعي لصياغة مستقبلٍ أكثر مرونةً واستدامة.

Explore a career with us