يشهد العالم زخمًا متزايدًا لتحقيق الحياد المناخي، حيث نجح مؤتمر الأطراف للمناخ "كوب 26" الذي أقيم في عام 2021 بمدينة "جلاسكو"، وهو خامس اجتماع يُعقد بعد اتفاقية باريس للمناخ في عام 2015، بتشجيع الدول على وضع خطط عمل وطنية أكثر فعالية لمعالجة مسألة التغير المناخي، والتعهد بالحد من انبعاثات غاز الميثان، بالإضافة إلى عقد اتفاقية للحد تدريجيًا من الدعم المالي المخصص للفحم والوقود الأحفوري. وعلى الرغم من الاضطرابات الجيوسياسية مؤخرًا، تتزايد تعهدات المؤسسات والشركات بتحقيق الحياد المناخي، حيث يتم العمل حالياً على تحويل الميزانيات المخصصة للاستثمارات العالمية نحو الاستثمارات المستدامة.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
ولقي إجماع الدول المتقدمة والشركات الرائدة وغيرها من المؤسسات حول أساليب التحول السريع والشامل اللازمة لتحقيق الحياد المناخي في بعض المجالات تطورًا واضحًا، مثل اعتماد السيارات الكهربائية، وكهربة وسائل التدفئة في المباني، وإنتاج الصلب منخفض الكربون، وتوليد الكهرباء عديمة الكربون. وتتوافر العديد من الحلول التقنية الأخرى لمساعدة الدول على النجاح في مسارها نحو تحقيق الحياد المناخي. ويُعد رسم خارطة الطريق الصحيحة من الركائز الرئيسية لصنّاع السياسات ومؤسسات القطاع العام وقادة القطاع الخاص الذين يسعون لوضع استراتيجيات خفض الانبعاثات في شركاتهم.
وعمدت العديد من المؤسسات إلى إجراء عملية مُمنهجة متطورة للأنظمة باستخدام دراسات موسّعة لقياس مسارات تكاليف التقنيات المتقدمة في المستقبل، وذلك من أجل وضع مسارات شاملة تهدف إلى الحد من التكاليف الإجمالية، وفي الوقت ذاته، زيادة المزايا والفوائد بشكلٍ عام. ونشرت ماكنزي، على سبيل المثال، أفضل المسارات من حيث التكلفة لإزالة الكربون في الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى مثل اليابان وجمهورية التشيك. وقد طرح مركز "أندلينجر" للطاقة والبيئة في جامعة برينستون خطة التحول إلى الحياد المناخي في الولايات المتحدة العام الماضي، كما أطلق معهد الموارد العالمية خطةً مماثلةً لهونغ كونغ في عام 2020. وتشكل مساعي الوكالة الدولية للطاقة لتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050 خريطة طريق يسير عليها قطاع الطاقة العالمي للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناجمة عن توليد الطاقة بحلول منتصف العقد الجاري.
وتساهم هذه التحليلات في إثراء خطط الحكومات والمؤسسات الساعية إلى رسم ملامح مسار التحول نحو الحياد المناخي وتنفيذه. ورغم أن هذه المسارات تشكل نقاط انطلاق مهمة، إلا أنها عرضة لمجموعة من التغيرات الجذرية على مستوى المنظومة تحول دون تحقيقها في الوقت المحدد (الشكل 1)، بالإضافة إلى دور تركيزها على تحسين تكاليف التحول إلى الحياد المناخي في إتاحة المجال لوجود هامش صغير للخطأ. ونقدم فيما يلي بعض التصورات لصنّاع السياسات والقرارات الساعين إلى الحد من مخاطر الفشل، وزيادة فرص تحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ.
ضعف المسارات الحالية لتحقيق الحياد المناخي
يسفر تسارع نفاد الميزانية المتبقية للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى أقل من 1.5 درجة مئوية، عن نتائج سلبية تشمل حالات تأخير طويلة في تحقيق الحياد المناخي أو منعطفات قاسية تعيق نجاحه. وقد تكون المسارات المتفق عليها ضعيفةً أكثر مما يتخيل الكثيرون رغم كونها ممكنةً من الناحية التقنية ومجدية من حيث التكاليف، حيث تُعد مرهونةً بتطبيق مجموعة من الشروط الهامة ومربوطة بتحقيق العديد من التغيرات الطموحة والسريعة على مستوى المنظومة. وفي المقابل، تُعتبر بعض الخطط فعالة من ناحية التكاليف لدرجة أن الخطأ فيها يكاد يكون معدومًا.
ويفرض الواقع احتمالية عدم تحقق بعض الافتراضات والشروط، مثل التطورات المفترضة لتكنولوجيا الهيدروجين من ناحية التكلفة والجاهزية، ومعدل تجديد قطع غيار نظام التدفئة المنزلية، والتغيرات الكبيرة في قوانين ترخيص استخدام الأراضي وحيازة السيارات؛ والتي تساهم جميعها بعدم نجاح عمليات الحد من الانبعاثات (الشكل 2). وما تزال أمامنا خطوات طويلة للوصول إلى المسار الصحيح للحياد المناخي بسبب الترابط الوثيق بين التغيرات اللازم إجراؤها لتحقيقه، بالإضافة إلى حالات التأخير التي قد تسفر عن عواقب متتابعة. فعلى سبيل المثال، يؤدي تباطؤ وتيرة إطلاق خطوط جديدة لنقل الكهرباء إلى عرقلة نشر طاقة الرياح والطاقة الشمسية، ما ينجم عنه تأخير تنفيذ الاستثمارات في مراكز توريد الهيدروجين الأخضر، والتي تُعد من الجوانب الضرورية لتحقيق الحياد المناخي في مختلف القطاعات مثل الصلب والطيران.
التحول إلى النظام المرن لإدارة المخاطر وفق ثلاث خطوات
نظرًا لضرورة تحقيق الحياد المناخي على الصعيد الاجتماعي وإمكانية إخفاق بعض المسارات المخصصة لذلك، يمكن للجهات المعنية في القطاعين العام والخاص اعتماد منهجية مرنة لإدارة المخاطر بهدف صياغة تدابير الحياد المناخي وتنفيذها. ولا يمكن لصنّاع القرار التباطؤ في جهود إزالة الكربون بسبب المؤشرات الواضحة التي تؤكد تفاقم خطر التغير المناخي. ولكن لا يجب أن يتعارض تسريع الجهود مع التأني في تحديد نقاط الإخفاق المحتملة في المسارات التي تم اختيارها والحد من المخاطر ووضع خطط احتياطية مناسبة، وهو ما يندرج ضمن قائمة الاعتبارات الهامة المساهمة في وضع مسارات الدول، والمناطق، والشركات، والمؤسسات لتحقيق الحياد المناخي.
ويمكن لصناع القرار والسياسات أخذ ثلاثة إجراءات لتعزيز مسارات الحياد المناخي التي يقودونها (الشكل 3).
1. إعادة تصميم المسار الرئيسي مع أخذ عوامل الخطورة الأساسية بعين الاعتبار
تركز العديد من المسارات على مسألة تحسين التكاليف أكثر من المرونة، حيث شهدنا تعطل سلاسل التوريد الضعيفة جرّاء جائحة كوفيد-19، مما يعني إمكانية حدوث تعطل كارثي لمسارات تحقيق الحياد المناخي التي يتم التركيز فيها على الكفاءة من حيث التكلفة؛ وبالتالي، يتحتم على صناع القرار بناء قاعدة للدعم الاحتياطي أو خطط لتصحيح الأخطاء في خططهم بغض النظر عن التكاليف. ويتعين عليهم بشكلٍ رئيسي النظر في حالات انعدام اليقين الناجمة عن عمليات التحسين، وتعديلها لمواجهة المخاطر المحتملة.
ويمكن أيضًا تخصيص أقساط تأمين من المخاطر لعوامل التحسين ذات نسبة المخاطر المرتفعة، مثل التقنيات في مراحل التصميم الأولى أو الإجراءات التي تنطوي على أوجه معقدة للتنسيق بين الجهات المعنية. وقد يكون من الأفضل في هذه الحالة اتخاذ مسار للحياد المناخي يعتمد أحيانًا على تكنولوجيا متطورة أو حل يحتاج مشاركة عدد أقل من الجهات، حتى لو كان هذا المسار أعلى تكلفة. ويمكن، على سبيل المثال، أن تفضّل إحدى الجهات التدفئة بالمقاومة، التي تُعد تقنية مثبتة الفعالية، بدلًا من تقنية ضخ الهواء الساخن التي ما تزال قيد التطوير، بهدف خفض انبعاثات الكربون الناجمة عن تدفئة المباني.
كما يساهم منح بعض عوامل التحسين عالية المخاطر أطرًا زمنيةً أوسع في إتاحة المجال لحالات التأخير بدون التأثير على نجاح الهدف العام المتمثل في خفض الانبعاثات، فمثلًا تستلزم المسارات الرئيسية لتحقيق الحياد المناخي في قطاع الطيران اليوم، تطوير محركات طائرات فعالة تعمل بالهيدروجين وفق إطار زمني ضيق غير مسبوق في هذا المجال. وقد يتيح وجود مسار معدّل مزيدًا من الوقت لتطور هذه التقنية المبتكرة، بالإضافة إلى زيادة الاعتماد على الوقود الحيوي أو تغير السلوكيات للحد من السفر الجوي.
ويشكل بحث ماكنزي حول المتطلبات التسع لتحقيق مسارات الحياد المناخي، قاعدة انطلاق مفيدة للجهات المعنية الساعية إلى تحديد الشروط الأساسية الداعمة لبعض خطط الحياد المناخي بصورة ضمنية أو صريحة.
2. وضع الخطط الاحتياطية
يسعى خبراء التخطيط، بمجرد وضع خطة مدروسة للتعامل مع المخاطر، إلى تحديد عوامل الخطورة الأخرى المعيقة للتحول، والنقاط التي يؤدي تبديل الخطط بعد تجاوزها إلى تعريض مسار الحياد المناخي للفشل. كما يمكنهم بعد ذلك تطوير مسارات محتملة أو خطط دعم وتنفيذها عند فشل أحد العناصر الهامة ضمن المسار، إذ قد ترغب إحدى الدول، على سبيل المثال، في الاستثمار بالبنية التحتية للموانئ والاستفادة من اتفاقيات الشراكات الرامية إلى استيراد كميات كبيرة من الهيدروجين لتعويض النقص الحاصل في إنجاز مصادر توليد الطاقة المتجددة.
ولن تتجه الدول، التي تتمتع بمناخ بارد وتعتمد على مسارات تدفئة المباني بالطاقة الكهربائية بالكامل، نحو الاستثمار في الخيارات البديلة لتدفئة المباني مثل احتراق الهيدروجين. وفي حال عدم تحقيق تقنية ضخ الهواء الساخن المخصصة للمناخ البارد لمستوى التطور المطلوب أو عدم قدرتها على الوصول إلى الطاقة القصوى خلال موجات الصقيع، فلن تتمكن هذه الدول على الأرجح من تطوير بنية تحتية لتوزيع الهيدروجين، والذي قد يستغرق عشرة أعوام أو أكثر. وقد يكون من الأكثر أمانًا الاستثمار في مصدر احتياطي للهيدروجين حتى الوصول إلى مرحلة تطوير هذا الخيار بشكلٍ سريع في حال فشل خيار التدفئة بالكهرباء. وتُعد زيادة الاستثمارات في الخطط الاحتياطية بمثابة تأمين في حال إخفاق المسار الرئيسي.
3. مراقبة التقدم والتكيف باستمرار
تُعد إدارة مخاطر مسارات تحقيق الحياد المناخي تحديًا مستمرًا، مما يستلزم إضفاء الصبغة المؤسسية على مسألة التكيف فيما يتعلق بمراقبة التحول وإمكانات إدارته، بهدف رصد الإنجازات الحالية والمستقبلية والتدخل فيه عند اللزوم بمنتهى السرعة والكفاءة. كما يتطلب الأمر إجراء تدقيق منتظم لصلاحية الافتراضات المهمة مثل تكاليف التكنولوجيا والتطورات التي تشهدها.
ويختلف التصميم الدقيق لوظيفة إدارة المخاطر بين مؤسسة وأخرى، ولكنه يضمّ على الأرجح عناصر مبتكرة تركز على قطاعات معينة وتتم إدارته من بعض الوزارات، بالإضافة إلى مجموعة من الجهات المركزية التي تتولى الإشراف الشامل على كامل عملية التحول وأوجه الترابط الكثيرة فيها. ومن الضروري أيضًا أن تتمتع إدارة المخاطر، أيًا كان تصميمها، بالاستقلال الكافي الذي يتيح لها توفير معلومات شفافة حول مدى التقدم والمخاوف التي تحيط بالمسارات المعرضة للمخاطر، بصرف النظر عن التأثيرات التي قد تطال المنهجيات المعتمدة أو العوامل السياسية أو الوظائف.
وتعترف العديد من الدول على مستوى العالم بضرورة اتخاذ إجراء حاسم وشامل لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ. واتسمت المسارات القديمة بالقوة التي تخولها لتخطي حالة انعدام اليقين أو القصور في المراحل الأولية، لوضع خطط واضحة تهدف إلى بلوغ أهداف الحياد المناخي. ويتوجب ضمان وضع هذه الخطط وفق آلية تمكّنها من تحديد نقاط الفشل المحتملة وإدارتها، مما يفتح مجالًا أفضل لتحقيق النتائج المرجوّة من تلك الخطط، وبلوغ الحياد المناخي وتجنب العواقب الكارثية التي قد تنتج عنه.