تواجه مراكز الدعم العالمية 1تحديًا مستمرًا ومثيرًا للقلق، يتمثل في كيفية الحفاظ على الموظفين الموهوبين، والعمل على خفض معدلات انسحابهم أو تركهم للمؤسسات التي يعملون بها. وقد أعرب المسؤولون التنفيذيون في مراكز القدرات العالمية عن قلقهم جراء ارتفاع معدلات ترك القوى العاملة لوظائفهم والمعروف بمصطلح "الاستنزاف الوظيفي". وقد ترتب على ارتفاع معدلات انسحاب الموظفين، والمصحوب بالتقلبات المستمرة في سوق العمل تداعيات واسعة النطاق، ألقت بظلالها على كافة جوانب مراكز القدرات، حيث كان لها تأثيراتها السلبية على ثقافة الشركات واستقرارها، كما ساهمت في زيادة تكاليف التوظيف، وأدت إلى إهدار الوقت والجهد في تدريب الموظفين الجدد، مما أسفر عن تراجع معدلات الإنتاجية وجودة العمل بشكل عام.
وقد تتراجع بعض الضغوطات المتعلقة بالاحتفاظ بالموظفين في ظل الوضع الاقتصادي الراهن، إلا أن القضايا الأساسية ذات الصلة بذلك التحدي لا تزال قائمة. وفي هذا السياق، تُعد المرحلة الراهنة بمثابة فرصةٍ ذهبيةٍ للشركات التي تتطلع الى المستقبل في محاولتها لعلاج تلك القضايا بشكلٍ فعّال.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
يدرك معظم قادة الأعمال أهمية الاحتفاظ بالموظفين. إلا أن المعضلة الحقيقية تكمن في فهمهم المحدود للاحتياجات الفعلية للموظفين، فعادةً ما يلجؤون إلى الحلول السريعة بدلاً من معالجة القضايا الأساسية. ويؤدي هذا النهج إلى الاعتماد على مجموعة من الأدوات التقليدية المتعارف عليها مثل زيادة التعويضات والمزايا، أو توفير بيئة عمل مرنة تسمح بالعمل من المنزل. ومع ذلك، من المتوقع أن تسفر تلك الإجراءات عن تأثير محدود ومؤقت في معدلات الإبقاء على الموظفين.
ولكن هناك نهج آخر أفضل يمكن اتباعه لحل هذه المشكلة. فقد توصلت دراستنا البحثية إلى أن الطريقة الأمثل لمعالجة مشكلة انسحاب الموظفين هي تحسين تجربة الموظفين بشكل كامل2، مما يعزز ولاءهم، وبالتالي يزيد من المرونة والاستمرارية3. وهنا يتعين على المدراء التنفيذيين أن يولوا اهتمامًا بالغًا بتجربة الموظف وأن يتعاملوا معها بحرصٍ شديد، تمامًا مثل التعامل مع تجربة العملاء، وذلك من خلال اعتماد نهج علمي متخصص يستهدف تعزيز تلك التجربة بكافة جوانبها.
وتكشف دراساتنا البحثية أن التركيز على أسلوب التعويضات المادية والمزايا التقليدية لم يعد كافيًا، حيث أصبحت هذه العوامل تمثل الحد الأدنى في تطلعات الموظفين. وبات أصحاب المواهب المتميزة يبحثون دائمًا عن المزايا الإضافية والتي تتمثل في الثقافة الداعمة والإيجابية، فضلًا عن المرونة في بيئة العمل. وباتباع خمسة إجراءات محددة يمكن للشركات الاحتفاظ بموظفيها، وكذلك زيادة معدلات إنتاجهم.
خمسة إجراءات لتعزيز تجربة الموظف
وقد قمنا بإجراء دراسة بحثية متعمقة، حول أفضل الممارسات المتعلقة بتجارب الموظفين في مختلف المؤسسات حول العالم4، وذلك بهدف معرفة تطلعات ورغبات الموظفين. وقد كشفت نتائج الدراسات عن خمسة إجراءات محورية يمكن للمدراء التنفيذيين اتباعها لخلق بيئة عمل داعمة لموظفيهم.
1. استخدام نماذج العمل المعتمدة على أنماط الشخصيات وأبرز المحاور الفارقة في المسيرة المهنية
حددت دراستنا البحثية تسعة محاور تتعلق بالمسيرة المهنية للموظفين. كما كشفت نتائج الدراسة عن أهم ستة محاور ذات تأثير مباشر على قرارات الموظفين، سواء من حيث الانضمام أو البقاء بالشركة كما هم موضح في (الشكل 1). وسلطت الدراسة الضوء أيضًا على الأهمية الكبرى لأربعة محاور أو مسارات رئيسية هي: تغيير الأدوار، والتقييم المنتظم والتوجيه، ومراجعة الأداء، وأخيرًا التدريب وتطوير المهارات، حيث أكدت أن سوء الإدارة فيما يتعلق بهذه المحاور الأربعة تحديدًا له تداعيات سلبية على مستوى رضا الموظفين، وخاصة النساء منهم.
وبتحليل تلك المُعطيات، فإن الاعتماد على نهج واحد لتحقيق الأهداف المنشودة فيما يتعلق بتجربة الموظف لن يؤتي ثماره، حيث يتعين على الشركات دراسة الأنماط المختلفة لشخصيات الموظفين، ومن ثُمَّ، العمل على تصميم حلول مخصصة لهم وفقًا لمعايير محددة تتناسب مع متطلباتهم، لضمان تحقيق النتائج المرجوة. فعلى سبيل المثال، قام أحد البنوك التابع لمراكز القدرات العالمية، بتحديد محور "الدعم في الأحداث الاستثنائية" وذلك باعتباره الأهم لمعظم الموظفين، وبناءًا على ذلك، فقد قام البنك بإعادة تصميم سياساته وبرامجه الخاصة بمزايا الموظفين لتشمل سداد جميع تكاليف إعداد المكاتب المنزلية، ودعم مختلف المتطلبات المتعلقة بالصحة الجسدية والنفسية.
2. إعادة صياغة مهام المدير لتعزيز الدور التوجيهي
قبل انتشار نماذج العمل عن بعد، اعتاد الموظفون على تأدية أعمالهم من المكتب بانتظام، وكان المديرون يقضون معظم أوقاتهم في مراقبة أداء الموظفين والتعامل مع المهام الإدارية. فعلى سبيل المثال، في إحدى شركات التأمين العالمية التابعة لمراكز القدرات العالمية، قضى أحد المدراء 20% من وقته في إدارة الشؤون المتعلقة بحضور الموظفين وانتقالاتهم. ومع ظهور نموذج العمل الهجين، تطور دور المدراء فأصبح من الضروري أن يكونوا أكثر استعدادًا لتقديم التدريب والتوجيه الفردي وتقييم أداء الموظفين بانتظام، سواء كان ذلك بشكل مباشر مع الموظف أو بشكلٍ افتراضي.
وتؤكد نتائج دراستنا البحثية على ضرورة اهتمام المدراء بموظفيهم لتعزيز تجربتهم الوظيفية. وعلى الرغم من أن هذه النتيجة قد لا تكون مفاجئة، إلا أن الشركات غالبًا ما تتجاهل تأثيرها وقد تفشل في تعديل مهام ومسؤوليات المدراء. ويتعين على الشركات أن تعيد صياغة دور المدير بشكلٍ جذري، وذلك تعزيزًا لبيئة العمل وأداء الفريق (الشكل 2). 5
ولتلبية الاحتياجات المتطورة للقوى العاملة وتطلعات الموظفين، يتعين على المدراء أن يكونوا مستعدين لأداء أربعة أدوارٍ رئيسية:
حل المشكلات بطريقةٍ فعالة: يتمحور هذا الدور حول تقديم الدعم اللازم لحل المشاكل المعقدة (مثل دعم الإجراءات الإدارية داخل الشركة ومعالجة مشاكل العملاء عند اللزوم).
الإرشاد والتدريب: يتطلب هذا الدور توجيه الموظفين ومساعدتهم في صقل مهاراتهم وتطوير قدراتهم لتعزيز خبراتهم المهنية.
تقديم المشورة: يتعين على المدراء فهم تطلعات الموظفين المهنية، حتى يتمكنوا من تقديم الاستشارات الموثوقة تماشيًا مع متطلبات الموظفين، كما يتعين عليهم أيضًا الاهتمام بصحتهم الجسدية والعقلية.
تعزيز ثقافة الشركة: في ظل انتشار نموذج العمل الهجين الذي يجمع بين العمل عن بُعد والعمل من مقر الشركة، يقع على عاتق المدراء مسؤولية تعزيز التواصل الفعال بين الموظفين وترسيخ ثقافة التعاون، والقيّم المتعلقة بالشفافية، وذلك لضمان بيئة عمل داعمة.
ولتحقيق هذا التحول المنشود في مهام المدير، ينبغي على الشركات ضخ مزيدًا من الاستثمارات في برامج التدريب الفعالة وتصميم نظام جديد للحوافز. وهنا تلعب برامج التدريب المتطورة دورًا حسامًا في دعم المدراء بهدف تطوير مهاراتٍ أساسيةٍ جديدة (مثل مهارات تقديم الإرشاد عن بُعد، والتدريب، وتعزيز التواصل بين أعضاء فريق العمل، وترسيخ روح الثقة، وتقديم الدعم النفسي للموظفين، وتعزيز الرفاهية)، بالإضافة إلى المهارات المتعلقة باستخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة. كما يتعين على الشركات أيضًا تخصيص أوقاتٍ كافيةٍ للمدراء من الأقسام المختلفة لتطوير هذه المهارات المحورية، وضمان استعدادهم التام لممارسة مهامهم في ثوبها الجديد.
3. طرق مبتكرة لترسيخ قيم الشركة الإيجابية في ظل بيئة العمل الهجينة
تؤكد نتائج الدراسة على الارتباط الوثيق بين الثقافة الإيجابية وبيئة العمل الداعمة التي تتميز بالشمول والاحترام، وتحسين خبرة الموظفين (الشكل 3). وتساهم بيئة العمل الداعمة تلك في تعزيز ولاء الموظفين للشركة وترسيخ التزامهم بتحقيق رؤية الشركة. وعلى صعيد السيدات العاملات، تشير الإحصاءات إلى أن تدرج المرأة في السلم الوظيفي عادةً ما يصاحبه تراجعًا ملحوظًا في مستوى الصحة النفسية والجسدية لها.
وفي ظل غياب التواصل بين العاملين بشكل مباشر في مكان العمل، يتعين على الشركات أن تطور وسائل مبتكرة للتواصل الفعال من شأنها تعزيز روح العمل الجماعي وترسيخ ثقافة وقيم الشركة 6. وتشمل هذه المنهجيات الفعالة أساليب جديدة تتماشى مع مستجدات بيئة العمل مثل برامج الحوافز وتقدير الإنجازات، وأنشطة بناء الفريق الافتراضية، بالإضافة إلى وثيقة تحدد رؤية وأهداف المؤسسة. علاوة على ذلك، يجب على الشركات الاستثمار في الإمكانات التقنية من أجل اكتشاف وتطوير طرق جديدة من شأنها تعزيز مشاركة الموظفين عن بُعد بطريقة فعالة. وقد تبنى أحد البنوك التابع لمراكز الدعم العالمية هذا النهج، حيث جسد قادته قيم الشركة الإيجابية، وقاموا بترسيخ ثقافتها حتى أصبحوا نموذجًا يحتذى به. كما قاموا بتدريب نخبة من موظفي المؤسسة لتعزيز أفضل الممارسات فيما يتعلق بأساليب العمل الجديدة.
4. إعادة تصميم مقر العمل لتعزيز التواصل والتعاون
يتطلع الموظفون إلى بيئة عمل مرنة، فوفقًا للاستطلاع الذي أجريناه، هناك أكثر من 90 بالمائة من الموظفين يفضلون نموذج العمل الهجين، الذي يجمع بين العمل عن بُعد والعمل من مقر الشركة، حيث يقضون متوسط يوم ونصف في الأسبوع في المكتب. بالإضافة إلى ذلك، أفاد حوالي 75% منهم أن إمكانية العمل من المنزل تعد ميزة هامة تحفزهم على البقاء في شركاتهم الحالية. ويتطلع أكثر من 70 بالمائة من الموظفين إلى أن تكون مدة انتقالهم إلى العمل أقل من 30 دقيقة (كما يوضح الشكل 4)، ولذلك أصبح من الحتميّ على الشركات تصميم وتنفيذ نموذج عمل هجين فعال من شأنه تلبية تلك الاحتياجات.7
لقد تغير مفهوم المكتب أو مقر العمل بالنسبة للموظفين، حيث باتوا يعتبرونه مكانًا لتوطيد أواصر التعاون والتواصل الفعال فيما بينهم، بدلًا من المنظور التقليدي لمكان العمل. ويجسد هذا المنظور المستجد بيئة العمل المستقبلية التي تعتمد على مساحات مكتبية أصغر وأكثر مرونة، حيث تُخصص ما لا يقل عن 50 بالمائة من المساحة لأغراض متنوعة. ولتشجيع الأفراد على التواصل الفعال من خلال العمل من المكتب، يجب على الشركات محاولة اكتشاف أفرع لمكاتب جديدة لها في مواقع مختارة بالقرب من الموظفين، مما يتيح الفرصة للتجمعات الصغيرة، في حين يتم استخدام المكتب الرئيسي كمقر للاجتماعات المتعلقة بالتطوير وتعزيز سُبل التعاون واستضافة الأنشطة الاجتماعية.
وقام قادة أحد البنوك التابع لمركز الدعم العالمي، بإجراء تحول جذري في تصميم مكتبهم، حيث قام بتقليص المساحة المخصصة للأنشطة التقليدية بمعدل النصف، بينما قام بزيادة المساحات المخصصة للأنشطة مثل التدريب والألعاب الجماعية والفعاليات. إن هذا التصميم المكتبي المبتكر لا يلبي فقط احتياجات الموظفين الجدد بشكل أكثر فعالية، بل إنه من المتوقع أيضًا أن يحد من البصمة البيئية الإجمالية بنسبة 40 بالمائة.
5. إعادة تشكيل النمط التقليدي لطريقة العمل اليومي
منذ بدء تفشي جائحة كوفيد-19، أصبح تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية ضرورة ملحة، خاصة بالنسبة لأولياء الأمور من العاملين، وكذلك الشباب الموظفين الذين يطلق عليهم "جيل زد". فإن القدرة على الاستفادة من المرونة اللازمة لتلبية الالتزامات الشخصية والعائلية وفي الوقت نفسه الاستمرار في العمل بدوامٍ كامل أصبح مطلبًا محوريًا من قبل فئات عديدة في سوق العمل8.
وقد استجاب مركز الخدمة المشتركة التابع لأحد البنوك العالمية لهذه الرغبة من خلال تعزيز عنصر المرونة الخاص بأوقات العمل (مثل منح الموظفين خيار تبادل وتقسيم مناوبات العمل مع زملائهم)، وذلك تماشيًا مع تحليلات الأنماط الشخصية للموظفين واحتياجاتهم الحياتية. وأعرب أحد الموظفين عن سعادته بهذا التغيير قائلًا: "أصبح بإمكاني قضاء المزيد من الوقت مع أطفالي في المنزل دون التقصير فيما يتعلق بأداء مهام العمل". وقد نجح هذا النموذج من الأعمال في خفض المعدل الشهري لاستنزاف الموظفين بنسبة 80 بالمائة.
أصبح بإمكان الشركات توفير العديد من الخيارات لتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، بما في ذلك إتاحة الفرصة للعاملين في مجال التكنولوجيا لاعتماد نمط عمل مرن، يشمل مناوبات عمل لمدد مختلفة على مدار ساعات العمل (مثل تقسيم الأيام، أو تعديل ساعات العمل). وكشفت النتائج المستخلصة من الاستطلاع عن أن قرابة نصف الموظفين لديهم الاستعداد للعمل لفترات أطول في أيام أقل (الشكل 5). وشدد أحد المشاركين في الاستطلاع على رغبته في تبني شركته لهذا النهج قائلاً: " أتمنى أن يتضمن جدول العمل عشر ساعات في اليوم على مدار أربعة أيام عمل فقط، حتى أتمكن من قضاء المزيد من الوقت مع العائلة". ولضمان نجاح نموذج العمل المرن يتعين على الشركات تغيير نهجها في عملية التوظيف، وإدارة الموارد البشرية لضمان تغطية كافة متطلبات العمل.
ومن الضروري أن تولي الشركات اهتمامًا بالغًا بمتطلبات الموظفين، نظرًا لأهمية تجربة الموظفين التي تختلف وفقًا لنمط الشخصية. فيتعين على المؤسسات أن تواكب تطلعات الموظفين من خلال تعميق فهم هذه الشركات لأولوياتهم، مما يستوجب إعادة صياغة كافة جوانب العمل بدءاً من أدوار الموظفين، مرورًا ببيئة العمل وصولًا بأوقاته. وتلعب هذه الاستراتيجية الرامية إلى تعزيز تجربة الموظف دورًا محوريًا في ترسيخ مكانة مراكز الدعم العالمية كجهة العمل المفضلة على مدار سنواتٍ متواصلة.