التحوّلات في الأساليب الرقمية والتحليلية: الآفاق الجديدة لعالم الخدمات المصرفية للشركات في الشرق الأوسط

| مقالة

تؤدي الخدمات المصرفية للشركات دورًا رئيسيًا في القطاع المصرفي في الشرق الأوسط، حيث تُمثّل نحو 75 بالمئة من إجمالي الأصول المصرفية وتُساهم بحوالي 60 بالمئة من إجمالي الإيرادات في المنطقة.1 كما يستفيد القطاع من تحقيق عوائد جيدة في ظل الجهود الوطنية للتنويع الاقتصادي التي تولّد فرصًا استثمارية جديدة. إذ تُحقّق المصارف القائمة على تقديم خدماتها المصرفية للشركات في المنطقة، متوسط عائد على حقوق المساهمين بنسبة تتجاوز 12 بالمئة، متفوّقةً إلى حدٍّ كبير على متوسط عائدات نظيراتها من المصارف الأوروبية البالغ نسبته 7 بالمئة فقط، وفقًا للبيانات الصادرة عن ماكنزي بانوراما جلوبال بانكينج بولز. إلّا أن التحوّلات الهيكلية الوشيكة قد تُشكّل تهديدًا لهذا الوضع المريح، ولكي تنجح المصارف في تجنبها، يجب أن تجري البنوك المؤسسية في الشرق الأوسط تغييرات جذرية في آلية عملها، وأن تتخذها بوتيرة أسرع بكثير من نظيراتها من المصارف العالمية.

وكما هو الحال في الغالب، من المرجّح أن توفّر التغييرات الهيكلية الرئيسية كذلك فرصًا استثمارية بالغة الأهمية، إذ أن العديد من الحكومات في المنطقة تسعى لتنويع اقتصاداتها بعيدًا عن النفط، وهو ما يُمثّل أحد هذه التغييرات المطلوبة. وفي إطار هذه الجهود، أنشأت مؤسسة النقد العربي السعودي مؤخرًا، على سبيل المثال، «بيئة تجريبية تنظيمية» (Sandbox) للمساعدة في تحويل المملكة العربية السعودية إلى «مركز مالي يتسم بالذكاء التقني»ـ2 بما يسمح لهذه المنظومة أن تجذب الشركات المحلية والعالمية العاملة في مجال التقنية المالية بهدف إطلاق خدمات مالية مبتكرة في الأسواق السعودية، ويُسهم في انفتاح المملكة على نوع جديد كليًا من المستثمرين.

على الرغم من ذلك، تنطوي هذه التغييرات الهيكلية على بعض التحديات، والتي تتفاقم بسبب محدودية إمكانات وقدرات الكثير من المصارف في المنطقة، لا سيّما فيما يتعلق بالمعاملات المصرفية والبنى التحتية القديمة، إذ تقف عائقًا في طريق التكيّف مع تلك التغييرات، بالإضافة إلى الضعف الملموس في تبني تقنيات الأتمتة والتحوّل الرقمي، ما يزيد من صعوبة في تقديم الخدمات للمتعاملين من المؤسسات الصغيرة، وذلك في ظلّ المحاولات الدؤوبة التي تقوم بها الجهات التنظيمية للحصول على حصة أعلى من الإقراض لشريحة المتعاملين.

تجدر الإشارة إلى أن البنوك القائمة أيضًا يطالها التهديد من تطوّر قاعدة المتعاملين معها، إذ أن «التدويل» وتزايد تقدّم المؤسسات المحلية يؤدي إلى ارتفاع الطلب على مجموعة أكبر من المنتجات، وإلى توقّعات بالحصول على نطاق أوسع من خدمات الاستشارات الاستراتيجية من شركائها الماليين. يُشير دخول أرامكو السعودية للأسواق العامة في أبريل 2019 (الذي حقّقت على أثره ما يقرب من 12 مليار دولار بعد طرح سنداتها للتداول)3 إلى أن متعاملو المصارف يمكنهم البحث عن مصادر بديلة للتمويل وسيكون بمقدورهم الحصول عليها.

من ناحية أخرى، تُسهم الموجة المستمرة من عمليات الدمج المصرفي في استحداث شريحة جديدة من «المصارف القائمة على تقديم الخدمات المصرفية للشركات والمؤسسات» في منطقة الخليج، ما قد يؤدي إلى زيادة المنافسة على قاعدة المتعاملين التقليدية من الشركات الكبرى والمؤسسات الحكومية، وخفض هوامش أرباح الإقراض والبيع المتبادل. يُشار أيضًا إلى أن تلك المصارف الجديدة التي تقدّم الخدمات المصرفية للمؤسسات والشركات تنضم إلى المصارف العالمية في طرح السندات للتداول وتقديم خدمات التمويل المصرفية، ومن الممكن أن تُلقي بظلال سيطرتها على هذه الشركات ذات الربحية العالية. ولمواجهة هذه التحديات ومواكبة هذه المستجدات، تحتاج هذه المصارف إلى تغيير نماذج أعمالها ما يُعزّز من قدرتها على تلبية احتياجات ومتطلبات المتعاملين بمختلف شرائحهم بكفاءة وفعالية، بما يشمل الشركات المتوسطة والصغيرة.

نُلفت هنا إلى أن المصارف القائمة على تقديم الخدمات المصرفية للأفراد العاملة في المنطقة قد اتخذت بالفعل خطوات جريئة وكبيرة من حيث تحويل الأساليب الرقمية والتحليلية؛ وقد كانت بعضها فعّالة ومجدية بما يكفي لتكون مثالاً يُحتذى به عالميًا في مجال التحوّلات الرقمية الناجحة. ولكي تنجح المصارف في تحقيق النتائج المرجوة، يجب أن تتحلّى بطموح يوازي نظرائها القائمين على تقديم الخدمات المصرفية للأفراد وأن تنفّذ تحوّلات شاملة في هذا الجانب.

كما أن عليها أن تقف موقفًا جادًّا نظرًا للضرورة الملحة لإجراء تحوّل جذري كامل بهذا الخصوص، إذ ينبغي أن تكون قادرة على تزويد المتعاملين معها بخدمات استشارية أكثر تطوّرًا وتقدّمًا بشأن عملياتهم التجارية اليومية وتلبية احتياجاتهم من الخدمات والمنتجات المصرفية الآخذة بدورها في التطوّر والتقدّم.

ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن تتخذ خطوات حقيقية على المستويين الرئيسيين التاليين: أولًا، النهوض بالإمكانات والقدرات التحليلية على نطاق واسع والارتقاء بها إلى آفاق جديدة لفهم احتياجات المتعاملين واستهداف شرائحهم؛ ثانيًا، تطبيق عمليات التحوّل الرقمي على نطاق أشمل لإدماج الخدمات المصرفية بقدرٍ من السلاسة يلائم أنظمة العمل الروتينية اليومية للمؤسسات المتعاملة.

ستتطلب هذه الجهود إحداث تغييرات كبيرة في النموذج التشغيلي وتطوير مجموعة جديدة كليًا من القدرات والكفاءات. وما يزيد من صعوبة التحديات هو ضرورة تنفيذ البنوك لهذه التحولات في سياق عمل صعب يتسم بغياب الاتساق في جودة البيانات وقلة توافرها؛ أي ندرة المواهب والكفاءات المحلية المتمرّسة في الأساليب الرقمية والتحليلية (مثل: مدربو منهجية «أجايل»، ومصمّمو تجربة المستخدم)؛ والافتقار إلى المنظومات المتطوّرة في مجال التكنولوجيا المالية. في هذا الخصوص، لدى المصارف الأوروبية التي تواجه تحديات مماثلة، مجموعةً مختارة من الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا المالية التي يمكنها التعاون معها لتوفير حلول رقمية جديدة للمتعاملين (مثل: الشراكة بين «آر بي إس» و «تاوليا» لتقديم حلول الخصم الديناميكي، والشراكة بين «آي إن جي» و «كاباج» بشأن تقديم القروض للشركات الصغيرة والمتوسطة). وبالمقارنة مع ذلك، ما تزال منظومة التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط حديثة عهد وفي طوّر النشأة.

قد تستغرق المصارف القائمة في الشرق الأوسط عدّة أعوام لتطبيق هذا النوع من التحوّلات، كما أنها تتطلّب قدرًا كبيرًا من العمل الدؤوب والجادّ. يُذكر أن هناك دلائل مبدئية تُشير إلى استعداد المصارف القائمة على تقديم الخدمات المصرفية للشركات في المنطقة لتسخير إمكاناتها وقدراتها من الوقت والقوى العاملة لمواجهة هذا التحدي، غير أن المصارف التي تقتضي على نفسها هذا الالتزام ستجني نتائج كبرى ومُثمرة في المستقبل القريب.


1 بيانات بنوك الشرق الأوسط المركزية؛ بيانات مالية منشورة عن المصارف التجارية.

2 ”مؤسسة النقد العربي السعودي تُطلق «بيئة تجريبية تنظيمية» للمؤسسات المالية والشركات العاملة في مجال التقنيات المالية “، 11 فبراير 2019، www.sama.gov.sa.

3 ”أرامكو تبيع سندات بقيمة 12 مليار دولار بعد تحقيق رقم قياسي في الطلب بقيمة تبلغ 100 مليار دولار “، بقلم: ديفيد باربوشا، ورانيا الجمل، وهديل الصايغ، رويترز، 9 أبريل 2019.